الأحد، 18 مايو 2014

ملحمة السبعمائة يوم

ملحمة السبعمائة يوم


من أعظم صفحات التاريخ الإسلامي وأكثرها نصاعة ، وأعلاها شرفا ، وأكرمها عزا ؛ صفحة الصمود في وجه الباطل والثبات على الحق ، فالصمود والثبات برهانان من صاحبهما على صدق الإيمان ومتانة اليقين وقوة العزم وصحة الموقف وسلامة الطريق .
بالأمس كانت الملحمة العكية ، يوم أن صمدت عكا ثلاث سنوات كاملة أمام الحملة الصليبية الثالثة صمود الأبطال ، ولم تستلم إلا بسبب الخيانة والتخاذل من بعض أبناء المسلمين. واليوم كانت الملحمة الحمصية والتي صمد خلالها الحمصيون أو الحماصنة بلغتهم الشامية أمام الحملة المجوسية لسبعمائة يوم كاملة ، صمدوا تحت قصف البراميل المتفجرة ، والغازات السامة ، والأسلحة المحرمة ، والحصار الخانق الذي منع الطعام والشراب والكهرباء والدواء ولو استطاع أن يمنع الهواء لمنعه ، صمدوا ولم يستسلموا لعدوهم ، وخرجوا بشروطهم ولم يتركوا خلفهم جريحا ولا أسيرا . فهل أدرك المسلمون أبعاد هذه الملحمة وآثارها و أسبابها وتداعياتها ؟
كثير من مجريات الثورة السورية وفصول ملاحمها الأسطورية تبدو للوهلة الأولى لكثير من المشاهدين على أنها حرث في بحر ، وعبث لا طائل من ورائه ، وحرب لا نهاية لها ، أو لوحة مجنونة لسلفادور دالي ، تستعصي على الفهم والتفسير، فهم لا يدركون الواقع على صورته الحقيقية حتى يدركوا هول الحدث ، فينزلوه منزله الصحيح  ، ومن ثم يقدّرون الوقائع والأحداث قدرها الصحيح .وآخر هذه الأحداث ما وقع منذ أيام ، من فك الحصار عن مدينة حمص القديمة ، وخروج المجاهدين منها ، واحتفاء سفاح العصر وزبانية المجوسية الجديدة في كل مكان بدخول قطعانهم إلى مدينة حمص بعد أن غادرها ثوارها ومن تبقى من سكانها أحياء ، وإظهار الحدث على أنه نصر كبير للنظام على الثورة ، والضربة القاضية للخارجين عن سلطة الأسد ، والحقيقة والوقائع غير ما يروج في وسائل الإعلام وتتقاذفه مواقع التواصل الاجتماعي بين مؤيد ومعارض ، ومهموم وشامت .
سبعمائة يوم من الحصار والتجويع وقف فيها المجتمع الدولي بجميع هيئاته ينظر إلى ما يجري في حمص وكأن أهلها لا ينتمون إلى عالم الوجود فضلا أن يكونوا بشرا ، وقد تبخرت عنتريات مجلس الأمن على الدول المارقة التي تنتهك حقوق الإنسان بزعمهم ، سبعمائة يوم كشفت عن مدى نفاق المجتمع الدولي ومؤسساته المسيسة في التعامل مع أي قضية تمس العالم الإسلامي بجدية إذا كان الضحية هم المسلمون . ولم يسع الغرب طوال هذه الفترة الطويلة وهو يرسل مندوبيه وسفراءه بصورة دورية إلى جميع دول المنطقة ، وهو يجري محادثات هنا وهناك مع نظام الأسد ومع من يقفون وراءه أن يجبره أو يضغط عليه أو يضع شروطا في تفاهمات تسمح بدخول الطعام والشراب والدواء لأهل حمص المحاصرين وهو ما تدعو إليه أبسط معايير حقوق الإنسان التي يتشدق بها الغرب ليل ، فالحمد لله على انكشاف الحقائق وسقوط الأصنام التي ملئت فضائنا السياسي لعهود طويلة .
تعتبر ملحمة السبعمائة يوم في حمص بمثابة ملخص الحالة السورية منذ اندلاع ثورتها المباركة ، فحمص قد تحولت مبكرا لعاصمة الثورة بعد أن تم التنكيل الرهيب بأهل درعا التي اندلعت منها شرارة الثورة السورية ، فكل تداعيات المشهد السوري ، وكل الوسائل والآليات التي اتبعت من الثورة والنظام في إدارة الصراع قد تم استخدامها في ثنايا هذه الملحمة ، فأهل حمص كانوا من أوائل من رفع راية العصيان ضد الظلم وهم أصحاب تاريخ عريق وذاكرة ما زالت أهوال الثمانينيات محفورة في أذهانهم ، تماما مثل آثار جنازير دبابات رفعت الأسد التي ما زالت مطبوعة على أجساد الثوار والمناضلين ضد حكم الأسد الطاغية . ثار أهل حمص في مارس 2011 ، فرد عليهم النظام بمجزرة الساعة في أبريل سنة 2011 ، وهي المجزرة  التي رفع النظام فيها جثامين ضحاياها بالجرّافات وشاحنات القمامة وترك برك دمائهم لساعات للتخويف ، مما دفع بها الأمور في ثالث أكبر المدن السورية إلى التصعيد الكبير ، والى بدء ظهور السلاح والحديث العلني عن ضرورة الكفاح المسلّح ضد النظام . فلم تكن مثل هذه الأعمال الوحشية لتفت في عضد الحماصنة وواصلوا الكفاح ، فانتقل النظام للمرحلة الثانية في المواجهة ، وانتقل للعب بكارت الطائفية والقبلية، وحمص بها أثنية طائفية وقبلية قديمة ، واستمر اللعب بكارت الطائفية حتى مارس 2012 ، شهدت حمص خلالها أحداثاً مأسوية وانقسامات طائفية، واعتداءات من الأحياء الشيعية على الأحياء السنية ، حتى وجد في حمص ما يسمى بسوق "السنّة" يعرض فيه الأثاث والبضائع والأجهزة المنهوبة من بيوت الأحياء السنية ، وانتشار كلام عنصري وتحريضي ضد قاطني حيّي البيّاضة وبابا عمرو بسبب "الأصول البدوية" لكثرة منهم ، وترافق خلالها التظاهر مع بروز المظاهر الأولى للعسكرة ، وتحوّل حي بابا عمرو إلى "معقل" للثورة ، تداعي له سائر المجاهدون من أنحاء المحافظة الكبيرة ، مما حدا بالأسد أن يصب عليه جمّ حقده الطائفي ، وبالفعل اجتاحه النظام ودمّره بالكامل ، وقتل في اقتحامه العشرات من الصحفيين منهم سوريون وأجانب ، وسكت الغرب على غير عادته في الاحتجاج عند مقتل بني دينه وجنسه ، في إشارة صريحة لنظام الأسد ؛ أن افعل واقتل ما بدا لك فلسنا بمنكرين عليك أي جريمة تفعلها.
وبعدها ضرب النظام الحصار الخانق على الحي القديم من المدينة الباسلة من أجل تركيع الثورة والتنكيل بالمجاهدين ، وكسر شوكة الأبطال ، لذلك فقد كان هذا الحصار مدعوما من العديد من الأطراف الإقليمية والدولية ، فالهدف واحد ؛ وأد روح الجهاد والكرامة في الثورة السورية ،  وقد عرفت الثورة السورية في هذه المرحلة متغيّراً مهمّاً في معادلاتها، ارتبط بدخول حزب الله وبعض الميليشيات المذهبية العراقية والمرتزقة الروس على خط القتال إلى جانب النظام غربي المدينة وجنوبها، مدعومين بطائرات إيرانية بلا طيّار، بهدف إحكام الحصار عليها وربط الساحل السوري بدمشق عبرها، وما يعنيه الأمر استراتيجياً وطائفياً للنظام من ربط للعاصمة بالمنطقة التي يعدّها حاضنته الشعبية . مع مرور الوقت زادت حدة الحصار ، وبلغ درجة انعدام الأقوات والأدوية وانقطاع الماء والكهرباء ، واشتد الكرب على المحاصرين ، فالجوع قتّال ، وأثره في النفوس فعّال ، فبدأ اليأس يتسرب إلى نفوس البعض ، وحدثت بعض التشققات في صف المحاصرين ، وتناثروا لعدة مجموعات ، واستغل النظام هذا الأمر بقوة ، وساوموا البعض على الخروج وتخذيل الصف ، فوقع في شباكه ما خارت عزائمهم وانهارت قواهم ، ولكن استمر غالبية المجاهدين على صمودهم رافضين بشكل حاسم أي ضغط من الطاغية الأسد .
انتصر المحاصرون على حرب التجويع وقصف البراميل المتفجرة وقنص الطائرات بدون طيار ، فلم يخرجوا إلا بشروطهم ، بعد أن تفاوضوا مع السيد الحقيقي للنظام السوري ؛ تفاوضوا مع إيران التي أجبرت الأسد على الرضوخ لمطالب الثوار ، وقد رفض الشبيحة هذا الاتفاق لأنهم كانوا يريدون الفتك بالمجاهدين المحاصرين ، ولكن قيام جبهة النصرة بعملية واسعة في جب الجندلي التي قتل على إثرها عدد كبير من الشبيحة، جعل النظام يرضخ ويقبل بالاتفاق الأخير بين الطرفين ، ليخرج المجاهدون وعائلاتهم دون أن يتركوا خلفهم جريحا ولا أسيرا ، فهل يحق لأحد بعد كل هذا العناء والصبر والصمود أن يشكك في بطولة هؤلاء وشجاعتهم ؟ وهل يحق لقاطني المكاتب المكيفة في قلب العاصمة دمشق تحت عين النظام وحراسته أن يتهم هؤلاء ببيع الثورة ؟! كلا والله لا يشكك فيهم بعد سبعمائة يوم إلا موتور أعمى الحقد بصيرته .
ملحمة حمص لخصت باختصار بارع شكل ومسار الثورة السورية ، كما أنها كشفت بمأساوية مدمية عن فشل ما يسمى بالائتلاف السوري المعارض ، فالجربا الذي ينفق الملايين عليه وعلي ائتلافه الثوري جدا يطوف بلاد العالم بلا أدنى فائدة ، طحنا بلا طحين ، وعجنا بلا خبيز ، فشل ذريع على كل الأصعدة ، حتى تشدقه الفارغ في أمريكا منذ عدة أيام عن سر تواجد المجاهدين الإسلاميين في سوريا كشف عن مدى خوائه الفكري والسياسي ، فكيف يكون حال ائتلاف هذا رأسه ولسانه الناطق به ؟!
ملحمة حمص كشفت أيضا عن الحاجة الماسة نحو تغيير الخطط العسكرية التي يدار به الصراع ضد النظام ، وكشف عن ضرورة القضاء على الخلافات العنيفة بين الفصائل المقاومة ، ووضع حد للمهاترات والحماقات التي ترتكبها " داعش " والتي أعادت بها للأذهان أفكار الخوارج الأزارقة والنجدات القديمة الذين كانوا يكفرون مخالفيهم بأدنى اختلاف عنهم ، كما كشفت عن الحاجة إلى التخلي عن المسارات الخارجية وترك الاعتماد على أي طرف خارجي سواء كان مؤسسات إقليمية أو دولية ، فالجميع قد خذل الثورة واختار الأسد وإيران . وأخيرا كشفت ملحمة دمشق عن وجود الكثير من الدخلاء في الصف الثوري ميدانيا وسياسيا ، دخلاء وثبوا إلى الصف الثوري من أجل المغانم والمكاسب ، اصطنعهم النظام من أجل تفريق الصف وتخذيل القوم وبعثرة الجهود ، وها هي آثارهم في تهوين الثورة بادية بقوة بعد أكثر من ثلاث سنوات من الكفاح والنضال ، هؤلاء إذا لم يتطهر الصف الثوري منهم ستظل الثورة تراوح بين أقدامها ، تعاني كل يوم من انكسارات وتراجعات . بالجملة فملحمة السبعمائة يوم كانت ملخص ثوري زاخر بالدروس لمن أراد أن يصحح مسار الثورة ويعود بها إلى رشدها ، لتؤتي بإذن الله بعد ذلك ثمارها ، وما ذلك على الله بعزيز .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق