الخميس، 14 أغسطس 2014

جرحنا المفتوح


جرحنا المفتوح


فهمي هويدي

عملية فض اعتصامي رابعة والنهضة التي تحل ذكراها السنوية الأولى اليوم (14 أغسطس) أصبحت تصنف ضمن إحدى مذابح القرن الواحد والعشرين، وتقارن بالمذبحة التي لجأت إليها السلطات الصينية أثناء فض اعتصام الطلاب في ميدان تيانا نمين بالعاصمة بكين في أواخر القرن الماضي (عام 1989). ومثلما أصبح الناشطون الصينيون يحيون ذكرى تلك المذبحة في الرابع من يونيو كل عام، وكما أصبح الأرمن يحيون ذكرى المذبحة التي تعرضوا لها على أيدي العثمانيين بعد الحربالعالمية الأولى في 24 أبريل كل عام(1)، وكما أصبح البوسنيون يحيون ذكرى مذبحة الصرب في سربرينتسا في السادس من شهر يوليو (وقعت في عام 1995)، فإن يوم 14 أغسطس أضيف إلى القائمة بعدما أصبح جرحا مفتوحا تعذر تطهيره وعلاجه منذ عام 2013 وحتى الوقت الراهن.
يشكل الإنكار أحد أبرز القواسم المشتركة بين المذابح سابقة الذكر، حيث لا يزال الجدل مستمرا بين مختلف الأطراف المعنية حول الوقائع وأعداد الضحايا في كل منها.

ينطبق ذلك، بصورة نسبية، على فض اعتصامي رابعة والنهضة في العام الماضي، وهو ما يشهد به الجدل الدائر في مصر الآن. إلا أن الحالة الأخيرة لها وضع مختلف، لأنها وقعت في زمن مختلف تماما، نما في ظله الوعي وتطورت وسائل الاتصال وخبرات التوثيق.
آية ذلك مثلا أن بعض المنظمات الحقوقية وثقت أسماء أكثر من ألف شخص قتلوا في فض الاعتصامين.
والقائمة موجودة على الإنترنت، على الأقل في موقعي «ويكي ثورة» و«المصدر المصري للحقوق والحريات».
وكنت قد أشرت في مقال سابق إلى الجهد الكبير الذي بذله خبراء "ويكي ثورة" في رصد وتوثيق مختلف الأحداث التي وقعت منذ قيام الثورة في عام 2011، خصوصا ما جرى بعد عزل الدكتور محمد مرسي في الثالث من شهر يوليو عام 2013 الماضي.
وإذا كان إنجاز عملية التوثيق يحسب ضمن العناصر الإيجابية التي توافرت للمقتلة التي حدثت إبان فض اعتصامي رابعة والنهضة، فإننا لا نستطيع أن نغفل عنصرا سلبيا برز في تلك الظروف، تمثل في التشوه الذي حدث في بعض أوساط الرأي العام، بحيث إن عملية القتل قوبلت بدرجات متفاوتة من القبول والترحيب والشماتة في بعض الأحيان. 

ولم يعد سرا أن السياسات المتبعة التي عبر عنها الإعلام لعبت الدور الأساسي في التعبئة والتحريض، الأمر الذي أشاع جوا من الكراهية أفضى إلى تلك النتيجة المؤسفة.
ولست أرى ما يدل على أن تلك الصفحة الدامية يمكن أن تطوى في أجل قريب، إذ طالما ظل الجرح مفتوحا ومليئا بالدماء الطرية والجراثيم والتقرحات، فإن التئامه سيظل متعذرا. ليس ذلك فحسب ولكننا لا نعرف بالضبط ما يمكن أن يفرزه الجرح وهو على تلك الحالة.
لا عجب والأمر كذلك أن يشيع التوتر والقلق مع حلول ذكرى الفض هذا العام وهو ما عبرت عنه الأخبار التي نشرتها الصحف المصرية هذا الأسبوع. إذ تحدثت عن اشتراك 120 ألف جندي وضابط من رجال الشرطة والقوات المسلحة، فضلا عن القوات الخاصة، لتأمين الميادين والمرافق العامة.
في هذا السياق نشرت جريدة الشروق في عدد الثلاثاء 12/8 أن وزارة الداخلية توعدت المتظاهرين بالرصاص الحي إذا ما حاولوا إثارة الشغب أو الاضطراب. 
كما نقلت الجريدة عن بعض الشخصيات الإخوانية دعوتهم إلى «دق أعناق» من يعترضون مسيراتهم التي ستنطلق في تلك المناسبة. 
وأيا كانت المبالغة في تلك التوقعات، فالشاهد أن الطرفين تعاملا مع المناسبة باعتبارها جولة أخرى من الصراع ومصدرا إضافيا للصدام وإهراق مزيد من الدماء.
بكلام آخر، فإنه طالما ظل الجرح مفتوحا فإن مثل تلك التداعيات ستظل واردة، الأمر الذي يعني أن أجل التوتر سوف يطول، وإذا ما استمر الأمر على ما هو عليه وظل الانسداد الراهن كما هو، فستكون غاية مرادنا ألا يتضاعف التوتر ويستفحل الصدام، بحيث تستعصي معه محاولات الإصلاح.
إن تطهير الجرح الذي لابد له أن يتم يوما ما، يبدأ بتطهير الذاكرة واستعادة الرغبة في العيش المشترك، وأعني بتطهير الذاكرة الاعتراف بالحقائق وإنصاف المظلومين وتحديد مسؤولية كل طرف عن الذي جرى. ولن يتسنى أن نبلغ تلك المرحلة إلا من خلال الاستعداد لنقد الذات والتعويل على تحقيق نزيه لا يجامل، ويمهد لمحاسبة كل مسؤول عن خطئه.
أما استعادة الرغبة في العيش المشترك، فهي تعتمد أولا على توافر الإرادة السياسية من ناحية وعلى استعادة قيم المشاركة الديمقراطية والتعددية السياسية واحترام الرأي الآخر. ومن المفارقات التي تدعو إلى الدهشة في هذا الصدد، أننا صرنا بحاجة لإقناع ما يسمى بالقوى المدنية بهذا الذي ندعو إليه. بعدما وجدناها خلال العام الأخير تقف في الصف المعاكس لما ظننا أنه منطلقات أساسية لتجمعاتها.
إن هناك الكثير الذي يتعين إنجازه إلى جانب ما سبق لإنجاح محاولات لتطهير الجرح في مصر، خصوصا على صعيد إجراءات بناء الثقة، وترشيد العلاقات بين مختلف التيارات السياسية والمشروعات الفكرية.
وما لم يحدث ذلك فلن يتاح لنا أن نحيي الذكرى بصورة سلمية ومتحضرة نستخلص منها العبر، بحيث لا تكون المناسبة سبيلا لتجديد الأحزان وتعميق الجراح ومضاعفة المرارات.
أدري أن ذلك يبدو حلما في الوقت الراهن، إلا أننا ينبغي ألا نستكثر على أنفسنا أن نحلم، ليس فقط لطي صفحة الصراع القائم، ولكن لأن هناك وطنا يحتاج إلى جهد الجميع وطاقاتهم، وهو أكبر بكثير من المتصارعين.


(1)إبادة الأرمن على أيدي العثمانيين .. الأكذوبة الكبرى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق