وائل قنديل
خاضت القوات المسلحة المصرية، بين عامي 2007-2012، سلسلة حروبٍ لانتزاع جزيرة القرصاية، الواقعة في نيل الجيزة، من سكانها التاريخيين، من فقراء المصريين الأوغاد، الذين مكثوا أكثر من ثمانين عاماً، يعيشون في تلك الجزيرة الصغيرة، على الصيد والزراعة، ويتوارثون المكان، جيلاً وراء جيل.
"القرصاية" قصة صراع بين تغوّل الدولة العسكرية، وشبقها الدائم لابتلاع كل المساحات التي تصلح فرصاً استثمارية واعدة، وبين الإنسان المصري البسيط الذي لا حول له ولا قوة، إلا قوة التمسك بالمكان والتشبث بالحياة، غير أن الكفة دائماً كانت تميل إلى من يملكون القدرة على شن الهجمات وحملات الاعتقال، ضاربين عرض الحائط بأحكام القضاء، ورمزية التضامن الشعبي الواسع مع سكان فقراء، ولدوا في المكان، وقضوا عمرهم فيه، ولا يملكون غيره.
الحرب الباسلة على"القرصاية" خلّفت، في جولتها الأخيرة، في 18 نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، أول شهيد من سكان الجزيرة، البالغ عددهم خمسة آلاف شخص، وهو صياد فقير اسمه محمد عبد الجواد (25 عاماً)، وأسفرت عن إصابة 5 جنود، واعتقال 25 شخصاً وتقديمهم لمحاكمة عسكرية، إثر اقتحام عناصر الجيش أرض الجزيرة عبر النيل، ما أدى إلى وقوع اشتباكات عنيفة.
الحكاية باختصار أن دولة مبارك العسكرية، في إطار علاقتها الحميمية مع دولة المستثمرين الحليفة، وجدت في موقع "القرصاية" مكاناً عبقرياً للاستثمار السياحي، فقرّرت طرد "هنودها الحمر" بالقوة والاستيلاء عليها، حتى وإن كانت لهم أباً عن جد منذ مائة عام.
كان القتال محتدماً في السنوات السابقة على ثورة يناير/ كانون الثاني 2011، وكانت القوى الوطنية والمجتمع المدني حاضرين طوال مراحله، مساندين حق الزراع والصيادين البسطاء في الحياة. وبالتوازي، دار نزاع قضائي مرير، حسمه مجلس الدولة، وجاء الحكم النهائي الصادر في 2010 ملزماً مجلس الوزراء ووزارات الدفاع والزراعة والبيئة بالإبقاء على الأهالي والخروج من الجزيرة، لكن الجهات الرسمية رفضت تنفيذ الحكم.
كان من المتصوّر أن الأمور ستصير إلى الأفضل بالنسبة للأهالي، بعد ثورة الكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، غير أن غريزة الاستثمار استبدّت بالقوات الباسلة، فأغارت على الجزيزة مجدّدا، في ذروة اشتعال الثورة المضادة نوفمبر/ تشرين الثاني 2012، حيث كان الجميع منشغلين عن الجزيرة وأهلها بالحرب الدائرة في محيط قصر الاتحادية ضد الرئيس المدني المنتخب.
يقول أستاذ العلوم السياسية، حازم حسني، في تدوينةٍ له، إن إدارة عبد الفتاح السيسي العسكرية تنازلت عن جزيرتي تيران وصنافير، كما لو كانت تتنازل عن "كارت شحن" أو بطاقة هاتف محمول مسبقة الدفع، ما يجعلك لا تستطيع منع نفسك من هذه الشراسة في الحرب على "جزيرة الغلابة" التي انتهت بسقوط شهيد، وإحالة 26 من أهله إلى المحاكمة العسكرية، وتتساءل عن هذه السلاسة في التخلي عن جزيرتين، دفعت فيهما مصر آلافاً من شهداء الجيش في صيف العام 1967، واعتبرت المؤسسة العسكرية، في زمن حسني مبارك، الاقتراب منهما خطاً أحمر، لما لهما من أهمية استراتيجية وعسكرية، تجعل المساس بهما جريمة.
يدهشك أكثر هذا الصمت الإسرائيلي الذي يشبه الرضا على انتزاع الجزيرتين من حضن العسكرية المصرية، بقرارٍ مباغت من ذلك الشخص الذي تعتبره تل أبيب بمثابة "تحويشة العمر"، أو الهدية التي نزلت لها من السماء، وأن تخرج "معاريف" الصهيونية، في اليوم التالي، لتوقيع صك منح الجزيرتين، لتقول "لا للتخلي عن عبد الفتاح السيسي".
غير أن أكثر ما يصيبك بالغم والنكد أن الستار يرفع عن حقيقةٍ موجعةٍ تقول إن مصر صارت "قرصاية" كبيرة، أو مجموعة من "القرصايات" يتحكّم بها "قرصان واحد"، يبيع ويتنازل ويمنح، ويؤدي فقرة "عجين الفلاحة" أمام كل من يساعده على الاحتفاظ بكرسي حكمٍ مصنوع من جماجم شعبه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق