سليم عزوز
معذرة فالقافية حكمت، فأنا بحكم النشأة والتكوين، لا أحب الخوض في حديث أهل الديار، وعلى أيامنا كانت من تقاليد كتابة الخطابات والرسائل أن يرسل المرسل السلام إلى فلان، وأهل منزله، وعندما سألت صغيرا عن "أهل المنزل" قيل لي إنهم نساء الدار!
ولم أقترب إلا قليلاً من أداء زوجات المسؤولين، لدرجة أنني لا أذكر مقالاً خصصته مثلا في الهجوم على "سوزان مبارك"، مع أنها كانت متورطة في الحكم، فالمرأة عندما تخطئ فإن الكلام يكون مع بعلها، وقد وجدت في نجاح الرئيس محمد مرسي في الانتخابات الرئاسية، وهو "فلاح" لم يتحرر من انتمائه كالرئيس السادات، أو حسني مبارك، فرصة طيبة لرفع الحرج، ولهذا عندما وجدت السيدة زوجته في أول ظهور لها في مناسبة اجتماعية، نددت من فوري بهذا الظهور وقلت إنها دائما تبدأ هكذا!
بتولي مبارك الحكم، خرجت مصر من مرحلة حساسة كانت المعارضة تنظر فيها على أن السيدة "جيهان السادات" هي الحاكم الحقيقي للبلد، وكان الهجوم عليها على أشده وقد وصل لدرجة الابتذال، لكن السادات الفلاح الذي ترك زوجته تتمدد في المشهد السياسي، كان انتماؤه الريفي يتجلى في غضبه على من يهاجمون عرضه، وقيل إن كثيراً من الأزمات مع المعارضين كانت مدفوعة بهذه الغيرة، التي تنم عن ازدواجية كان يعيشها الرئيس الراحل؛ بين الفلاح رب العائلة المصرية، المنحاز لأخلاق القرية، والشخص "المودرن" الذي يرقص مع زوجة الرئيس الأمريكي ويسمح له أن يراقص زوجته، وهو مع هذا السماح يغضب غضبة فلاح لم يغادر قريته "ميت أبو الكوم" عندما يسخر معارضوه من تقبيل كارتر لزوجته!
كان المتظاهرون يهتفون: يا "جيهان لبسي السادات فستان"، وجاء كمال أبو عيطة الوزير بعد الانقلاب ليهتف بهذا الهتاف في بداية عهد مبارك بنقابة المحامين، وغير فيه فجيهان أصبحت "سوزان"، والمستهدف بارتداء الفستان هو مبارك، عندئذ هجمت قوات الأمن واعتقلت "أبو عيطة" في التو واللحظة!، وكانت رسالة لا تخطئ العين دلالته!
في البداية طلب "إبراهيم سعده" رئيس تحرير "أخبار اليوم" أن يجري حواراً مع "الهانم"، ورفض مبارك بحدة، فهو لا يريد أن يكرر تجربة "جيهان" فتصبح عرضة لسهام المعارضين، لكن بمرور الوقت تجاوزت "سوزان مبارك" دور "جيهان السادات"، فصارت تحكم وتعين وزراء وتقيل، وإذا كان الكاتب الكبير مصطفى أمين سئل بعد اغتيال السادات عن دور "جيهان" بجانب الرئيس السابق قال عكس ما هو شائع: "كانت صمام أمان". فقد كانت حرم مبارك على العكس من هذا تماما.
كان مبارك يكره كل من له علاقة باسم السادات، وعاشت "جيهان" سنوات حكمه على الهامش، وكان من الواضح أنه يراد لها أن تصبح في حكم الميتة وهي على قيد الحياة، إذ يقال إنها في خلافه مع وزير الإعلام منصور حسن، انحازت للأخير، فضلاً عن أنها كانت تطلق عليه في وجهه أوصافاً تحط من القدر، وتسقط الاعتبار!
يُذكر في هذا الصدد أن السادات طلب من الدكتور حمدي السيد نقيب الأطباء فيما بعد أن يخوض الانتخابات البرلمانية ولأن الرجل لم تكن له خبرة في ذلك، ولم يكن هذا ضمن طموحه، فقد قال للرئيس إنه لا يمكنه الإقدام على هذه التجربة إلا إذا علم الناخبون أنه "مرشح الريس"، وتساءل السادات وكيف نقول ذلك؟!.. فاقترح "حمدي السيد" أن ينزل سيادة النائب معه في مؤتمراته؟.. وكان مبارك هو نائب رئيس الجمهورية وهتفت "جيهان السادات" ساخرة: هذا الحمار يكفي وجوده معك لتسقط!
كان مبارك حاضرا في اللقاء ولم تظهر عليه ولو بوادر الرفض فقد كانت ملامحه بشهادة الشهود محايدة، وبعد أن صار رئيساً انتقم من كل من قال في حقه أوصافا تمثل ازدراء له!
بيد أنه غضب مرة واحد من أجل "جيهان السادات" عندما اشتكت له لأن صحيفة "الأحرار" نشرت موضوعا عن تزوير المحررات الرسمية، وليثبت المحرر ذلك فقد زور مستنداً يفيد أنه زوج جيهان السادات وباسمها المدون في بطاقتها، واستخرج شهادة ميلاد لطفل أنجبته منه!
اتصل مبارك هاتفيا مرتين برئيس حزب الأحرار "مصطفى كامل مراد" ومع أن الفارق الزمني بين الاتصالين عدة أيام إلا أنه كان غاضباً في المرتين، وفي المرة الثانية فسر أسباب غضبه؛ فمن يهاجم اليوم "جيهان السادات"، غداً يهاجم "سوزان مبارك"!
ولهذا فعندما ظهرت حرم الرئيس محمد مرسي، وجدت أن الأمر يستدعي تحذيراً من البداية، وإن ظهرت في مناسبة اجتماعية، فمبارك نفسه كان يرفض ظهور "سوزان" في البداية!
وحسنا، أن إطلالة زوجة "عبد الفتاح السيسي" حذرة وخاطفة، فلا نريد لأهل بيته أن يستباحوا في ثورتنا عليه، لكنه استدعى أمه وتعاليمها ليبرر جريمته في التفريط في تراب الوطن، فأمه "قالت له" لا تطمع في ما في أيدي الناس، مع أن الجزيرتين في أيدينا وليسا في أيدي الناس، ومع أنه بدا غير مكترث بنصائحها الغالية، وهو يسمح لسكرتيره الخاص "عباس كامل" أن يعزف "موسيقى الطمع"، عند حديثه عن أموال دول الخليج التي هي بحسب الوصف التفصيلي لـ "كامل": "متلتلة"!
عندما قال السيسي "أمي قالت لي"، تذكرت مقالا قديما لي كتبته حمل عنوان "أمي قالت لي"، وكان عن ظاهرة الكتاب الجدد، الذين ابتذلوا العبارة، تقليداً للشاعر "عبد الرحمن الأبنودي"، الذي كان يسرف في استخدامها، حتى أصبحت "لزمة" من لزماته ليشق لنفسه بلهجته الصعيدية ومصطلحاته طريقا مختلفاً كان السبب في تميزه، يقولون إنه لم يكن يتكلم هذه اللهجة بالصورة المبالغ فيها في حياته اليومية إنما كان يفعل هذا أمام الكاميرات!
ذات مرة وفي احتفال محافظة قناة بعيدها القومي، وإليها ينتمي الأبنودي، انتصب أحد الصحفيين خطيباً وقال "أمي قالت لي" شعراً في "سيادة المحافظ"، ولأنه كان يبيع الماء في "حارة السقايين" فقد أشبعه الأبنودي سخرية نالت كثيراً من السيدة والدته، فقد أدرك الأبنودي أن الفتى يعيد إنتاج بضاعته المغشوشة!
أحد الصحفيين الشبان، كان قد طلع "في المقدر حديثاً"، وعلى نغمة واحدة هي "أمي قالت لي"، فأمه قالت له إنها تدعو لإبراهيم حجازي، رئيس لجنة القيد بنقابة الصحفيين لأنه السبب في نجاح السياحة بشرم الشيخ في برنامجه التلفزيوني، ومما استفاد منه شقيقه الصغير الذي يعمل بالسياحة في هذه المنطقة. وكان هذا بهدف تمرير قيده في النقابة.
سألت أحد أشقائه عن شقيقهم الثالث الذي يعمل بالسياحة في شرم الشيخ، فقال في آسي إن شقيقه الصحفي أرهق والدته في استخدامها لقضاء مصالحه هو، فهي لم تدعو لإبراهيم حجازي، ثم ضحك بصوت مرتفع وهو يقول: "وليس لنا شقيق يعمل بالسياحة"!
"أمي قالت لي" عبارة تستهدف التبسط في الحديث، والاقتراب من وجدان المستهدف بالإنصات، كما أنها في بعض الحالات هي لتمرير ما يراد تمريره باعتباره منتجاً من صياغة العقل الفطري و"الناس الطيبين"، لكن تكمن المشكلة في أن "الأبنودي" نفسه كان يعلم أنها رسالة نفاق، فالبيئة التي تربى فيها لا تسمح لرجالها أن يستدعوا أمهاتهم في الحديث ، وعندما تكون الأم هي "الأستاذ المعلم" فالمعنى أن المتحدث هو "ابن أمه"، وهو معنى سلبي ينحدر بمن يوجه إليه إلى مرتبة الاتهام بأنه لم يربه رجل!
ولأن ثقافة "عبد الفتاح السيسي" هي "ثقافة سماعية"، منتجة حديثاً، فقد تبنى الكثير مما يسمع ومن بينه "أمي قالتلي" فمن الواضح أنه شخص انعزالي، ليس له أصدقاء، وكانت طفولته معذبة يتعرض خلالها للإهانة فيحذر من يعتدون عليه بأنه سيرد عليهم عندما يكبر، ولهذا كان بعده عن الناس، وهذا اللون من الثقافة وليد المرحلة الحالية عندما وجد نفسه مضطرا بحكم منصبه للاقتراب من الناس في حدود ضيقة، وقد كان الشاعر الراحل من المقربين منه، ومنه جاءت فكرة "أمي قالت لي"!
ولأن القافية حكمت، ولأنه من استدعى السيدة والدته إلى ميدان السياسة، فمن حقنا عليه أن يستكمل المهمة ويجيب عن أسئلة كانت تساورنا، وقد رأينا في السابق أنه لم يتحدث في هذا الجانب لأنه لا يحب أن تكون والدته أو أهل منزله طرفاً في موضوع مرتبط بأحاديث السياسة والإعلام!
لقد راعني عند وفاة الوالدة الفاضلة، وقد قرر السيسي عدم نشر إعلانات عزاء في الصحف، أن أسرتها لم تفعل، أليس لها أشقاء أو أولاد أشقاء وجدوا أنهم ليسوا معنيين بقراره فيعلنون عن عزائهم ويستقبلون المعزين في بلدتهم، حتى لا يقال إنها ماتت لا سمح الله فطيساً؟
لأي محافظة تنتمي الوالدة؟.. وأي قرية أو مدينة يمكن أن نطلق عليها أنها مسقط رأسها، ونعلم في تقاليد الوفاة في الريف المصري أن أمر المرأة عند الوفاة ليس معقوداً بيد الزوج أو الابن، ولكنه يدخل في اختصاص أهلها هي فلا يلزمهم أن يمنع ابنها نعيها أو يؤجل دفنها!
الموضوع يمثل لي اهتماما خاصا بحكم أن "الأنثروبولوجيا" هي تخصصي الدقيق، فهل طرأ تغير على التقاليد المصرية إلى حد أن المتوفاة لم تعد قرار أهلها؟ وهذا مطلوب لرسالة علمية أقوم بإعدادها عن "تطور منظومة القيم في القرية المصرية.. دراسة أنثروبولوجية".
الموضوع علمي كما تلاحظون ولا علاقة له بالسياسة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق