كنا عايشين
أحمد عمر
فأُمسِك غضبي، والغضب مثل السمك، لا يُمسك إلا بيدٍ جافةٍ، وقلبٍ حليم، وأبتسم، وأحاول أن أفسّر لها ما جرى بقوانين التاريخ وعلم الاجتماع السياسي والاقتصادي..
فأذكر أنّ العدل أساس الملك، وأنّ الظلم ظلمات، وأنّ معدل ارتفاع الفقر في الجمهورية العربية الحبسية نزل إلى خط بنغلاديش، وخط الرقعة، وأكل أوراق الشجر، فتقول: بس كنا عايشين.
أذكّرها بزوجها الذي حبس عشرين يوماً، بتهمة معالجة أهالي الجيش الحر. فتقول: كان يجب أن يكون حريصاً... لكنه أقسم عند التخرج قسم أبقراط، فتقول: أخطاء فردية.
وأذكر لها الدماء الزكية البريئة التي سفحت قبل أربعين عاماً في حماة وحلب.. والدماء لوليها سلطان، وما يزال المناضلون والأحرار يموتون تحت التعذيب.. فتقول: كنا عايشين، وأحسن من النزوح والبراميل. أذكّرها بالرشوة التي كانت تدفع لشرطي المرور، ولفروع الأمن الكثيرة، حتماً مقضياً... فتعذرهم: الشرطة فقراء و.. كنا عايشين. وأذكر لها فرصةً ذهبيةً أتيحت للنظام في عام ألفين وواحد مع بيان الـتسعة والتسعين، فاعتقلهم النظام، ونكّل بمن نكّل، فتقول: كان يجب أن نصبر. فأذكر لها الجفاف الذي ضرب البلد، ونحن بلد زراعي، وأنّ العدل في سورية يبكي الجنّ، وبات القضاة نخبة أقليات، وكأننا في جنوب إفريقيا العنصرية، فتقول: الدولة لهم، وكان يجب أن نقنع بحصتنا.
وأعود إلى المطر الذي قلّ وشح، وأنت مؤمنة وتعرفين علاقة السماء بالأرض، فتقول: بس النظام كان ناوي يعمل إصلاحات، ولم نعطه فرصته. لعله كان يريد الاتصال بصديق، أو الاتصال بالجمهور.
أقول إن النظام هو نفسه منذ أربعين سنة، وكان يزداد سوءاً، وأنت ترين بطشه، وما يفعل بالمدن والقرى فتكاً وتدميراً...
فتسكت، ثم تقول: الظلم في كل الوطن العربي..
فأقول هذا لا يعني أن الظلم يجب أن يتحوّل إلى عادة، أو إلى أن نقبل به، وأذكّرها بأمثلةٍ من علوم الاجتماع والعمران، فهي حاصلة على شهادة جامعية تربوية، فأقول إن للأمم والدول، مثل البشر، أعمار، وإن عمر النظام انتهى لأنه أسرف، وزادت نسبة الكولسترول والشحوم الثلاثية والسباعية في دمه الفاسد، وأنه نُصح كثيراً بعمل حمية، لكنه لم يرعوِ، وأصيب بالزهايمر، وجنون البقر وجنون الحمير..، فتقول: بس كنا عايشين، فأذكر حادثة دعس الطفل وليد جارنا، وأن دمه راح هدراً، فتقول: عمره انتهى وكل شيء بأجل، أذكّرها بآيات القرآن، وأنا آمل حشرها في زاوية: وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ، يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ.
تبيّن لي أنها تقيم في دائرة ليس فيها زوايا مثل النظام.
زوجها ساكت يُرضع الوليد من رضاعة صناعية..
أستشهد لها بكلام الله، فهي مؤمنة، وسأفحمها بقوله تعالى: وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ، وَ: كَذَٰلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَىٰ وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ، و: وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ.
فتستشهد بالقرآن، وتقول: إنما يوفّى الصابرون بغير حساب. ملك غشوم ولا فتنة تدوم. فأصوّب لها الفهم: وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ، فقد اجتزأت يا مدام، سكتنا عن الحق، فظنَّ أهل الباطل أنهم على حق، وكما تزرع تحصد، ثم أصاب بكيماوي اليأس، فأقرّر التقهقر، فزوجة صديقي مثل الطيور التي تولد في القفص وتعتقد أنّ الطيران جريمة.
فأقول لزوجها على الباب: أزوجتك من قناة الدنيا؟ يقول، وهو يحمل طفله مع الرضاعة: أختك وتعرفها.
أقول: إنها تكرّر مثل جماهير النظام: عايشين، عايشين.
يقول زوجها: هي عايشة، أما أنا فميت من زمان، يا خال ابني. أهمس له: طلّقها، يا صهري، أو انشق. فيقول وهو يصلح الرضّاعة: أنتظر الزمان والمكان المناسبين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق