تبسيط تاريخ مصر الحديث (2)
ا.محمد إلهامي
باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية
باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية
كاتب مشارك: د. عمرو عادل
اقرأ أولا: تبسيط تاريخ مصر الحديث (1)
(5) الاحتلال الإنجليزي
استطاع الاحتلال الإنجليزي بـ 40 ألف جندي السيطرة على شعب قوامه ستة ملايين ونصف، بينما قبل سبعين سنة استطاع 700 من أهالي رشيد إيقاف جيش إنجليزي قوامه خمسة آلاف. وتلك هي خطورة احتكار الدولة لصورة المجتمع وأساليب مقاومته.
ولم يكن غريبا أن يحاول الاحتلال كسر المجتمع لصالح الدولة، ولذا فستعود السيطرة على عناصر القوة لتكون جميعها بيد الدولة وليخلو منها المجتمع على هذا النحو:
1. ما إن تمت هزيمة عرابي وجيشه حتى كانت القوة المسلحة قد انتهت من المجتمع، وتركزت كلها بيد الدولة لفراغ المجتمع منها سابقا وهزيمة ممثله (عرابي) في جهاز الدولة (الجيش)، وقد فكك الإنجليز الجيش المصري، وصار الجيش الإنجليزي هو صاحب القوة إلى جانب فرق خاصة بالخديو تابعة بطبيعة الحال للاحتلال الإنجليزي.
2. وطارد الإنجليز القيادات الفكرية، فقد نفى الخديو جمال الدين الأفغاني منذ ما قبل الثورة العرابية، وظل عبد الله النديم مطاردا لتسع سنوات، وسجن محمد عبده بتهمة الاشتراك في الثورة العرابية، وحكم على عرابي بالإعدام ثم خفف إلى النفي خارج البلاد، وعزل شيخ الأزهر محمد الإنبابي (الذي عينته الثورة العرابية) وأُتي بمحمد العباسي المهدي، وحوكم الشيخان أحمد المنصوري وأحمد عبد الغني لاشتراكهما مع عرابي. وسيطر الإنجليز على الصحافة وبدأوا في توجيه التعليم في خطة طويلة عبر القس دنلوب الذي تولى وزارة المعارف.
3. واستسلمت المؤسسات –بطبيعة الحال- للاحتلال الإنجليزي الذي سيطر عليها، فأدار بها ثروة المجتمع المصري الذي صار تابعا تماما للمحتل، يتصرف فيه كما تقتضيه مصلحته.
4. وأنشأ الإنجليز المحاكم الأهلية التي كانت ضربة قاضية للمحاكم الشرعية، كما انتهى أمر مجلس النواب المنتخب من قبل الشعب، وتعتبر أحكام محكمة دنشواي دليلا قويًّا على الارتباط القائم بين المؤسسات القضائية وسلطة الاحتلال.
ولا بد من القول بأن الاحتلال الإنجليزي أدار معركته مع المصريين بقدر وافر من الدهاء، وهو قدر غير مسبوق في سياسات الاحتلال الأجنبي من قبل، فلقد نفذ الإنجليز كثيرا من الإجراءات التي تبدو في ظاهرها في صالح المجتمع المصري مثل رفع العقوبات البدنية عن الفلاحين، وتخفيض الضرائب عن المعسرين، وتعيين بعض القيادات الفكرية في مواقع تبدو مؤثرة، لكنها على الحقيقة ليست بذاك مثل تعيينهم للشيخ محمد عبده في منصب المفتي وإصرارهم على ذلك، ومثل عفوهم عن أحمد عرابي وإعادته من منفاه، ومثل سياستهم في النظام التعليمي التي قادها دنلوب بقدر كبير من الهدوء والكتمان من بعد ما طرد كرومر العناصر المستثارة التي حاولت تنفيذ هذه السياسات بشكل أقوى وأسرع وأعادهم إلى بريطانيا.
وبإجمال ميزان القوى داخل المجتمع في فترة الاحتلال الإنجليزي وحتى ما قبل ثورة 1919، يتبين أن قوة المجتمع قد انهارت لتصل إلى نسبة (17%) مقابل (83%) في يد سلطة الاحتلال.
1 القوة المسلحة 2 صناعة الوعي 3 المؤسسات التنفيذية والثروة 4 التشريع والقانون
(6) ثورة 1919 ونتائجها
بعد نحو أربعين سنة من الاحتلال الإنجليزي (وهو عمر التغيير) جرى تطور نسبي في قدرات المجتمع في بعض المحاور كما حدث تراجع في محاور أخرى على النحو التالي.
1. أصبحت القوة المسلحة تابعة للاحتلال، وأصبح الجيش أحد أدوات الإنجليز في حروبه ضد الأمة، كالتجريدة المصرية، واستخدام نحو مليون وربع مصري في الحرب العالمية الأولى. كما أسس الإنجليز جهاز الأمن السياسي المصري. إلا أن القوى الاجتماعية كسرت احتكار السلطة للسلاح فاستخدمت المقاومة المسلحة على نطاق واسع مما قلل من التفاوت الكبير للقوة بين رأس السلطة والمجتمع.
2. عادت النخبة الوطنية للتشكل من جديد عقب انهيارها بعد فشل الثورة العرابية، فظهرت قيادات أمثال مصطفى كامل ومحمد فريد. وعلى الجهة الأخرى كان الإنجليز يواصلون صناعة النخبة المعبرة عنهم، وأثر هذا كله على تماسك المجتمع ووحدته ضد الاحتلال والاستبداد. وقد أدى ظهور طبقة وسطى تحمل قدرا من التعليم وظهور النقابات العمالية إلى تكوين قوى مجتمعية تستطيع منافسة رأس السلطة في صناعة الوعي وساعدت سهولة الطباعة وانتشار الإصدارات بأشكالها على تطوير الوعي، كما قادت كوادر الحزب الوطني في تلك الفترة حملة توعية كبيرة في مصر وتعرضوا للتنكيل من الإنجليز والجهاز الأمني المصري، كما كان لشباب الأزهر وبعض شيوخه دور فاعل في بناء الوعي العام. وبذلت النخبة الاستعمارية كذلك ما استطاعت من مجهود لاستعادة السيطرة على المجتمع.
3. استغل الإنجليز سيطرتهم الكاملة على مفاصل الدولة لبناء المؤسسات لتتبعهم بصورة هيكلية ودائمة.
فصارت المؤسسات أداة ترسيخ الاحتلال واستقطاب الثروة، مما نتج عنه لا مجرد استغلال الاقتصاد بل ربطه بهم وتحويله إلى اقتصاد خادم لهم، ومنحوا الأجانب امتيازات واسعة مما أخلّ بالبنية المالية للمجتمع. واستمرت محاربة الأوقاف والمصادر المالية الأخرى للمجتمع، إلا أن احتياج الاحتلال لطبقة وسطي فاعلة من المصريين أدى إلى وجود قدر من الثروة وخاصة في المدن لدى القوى المجتمعية.
4. الإنجاز الأكبر لثورة 1919 هو الحصول على حق الشعب في التمثيل النيابي وتشكيل الحكومة حتى إن كانت ليست مكتملة تحت الاحتلال، إلا أن وجود مجلس نيابي أعاد بعضا من سلطة المجتمع. (وإن كان هذا المكسب هو عين فشل ثورة 19 التي كان هدفها الجلاء لا مجرد دستور ومجلس نيابي). كذلك استمرت قوى الاحتلال والطبقة الحاكمة في تغيير بنية المجتمع التشريعية حيث زادت سيطرة المحاكم الأهلية وأصبحت هي صاحبة اليد العليا على حساب المحاكم الشرعية والعرفية.
وبإجمال ميزان القوى داخل المجتمع في فترة ثورة 1919 وما بعدها يشير إلى تحسن نسبي لقوى المجتمع، يتبين أن قوة المجتمع وصلت إلى نسبة (34%) مقابل (66%) في يد سلطة الاحتلال والطبقة الحاكمة.
1 القوة المسلحة 2 صناعة الوعي 3 المؤسسات التنفيذية والثروة 4 التشريع والقانون
(7) قبيل انقلاب يوليو 1952
كانت مصر تغلي وعلى وشك ثورة حقيقية، وظهرت قوى مجتمعية حقيقية نازعت الطبقة الحاكمة المهترئة سلطتها بل وبدأت في شرعنة المقاومة المسلحة ضد الاحتلال مما دفع بالقوى الاستعمارية إلى استباق الحالة الثورية بالانقلاب العسكري، وفيما يلي عرض لتوازن القوى بين المجتمع ورأس السلطة قبيل انقلاب 1952.
1. لأول مرة ربما منذ المقاومة الفرنسية تتوازن القوى المسلحة بين المجتمع ورأس السلطة؛ بالرغم من أن الجيش المصري كان خارج معادلة القوى تماما وإن مال ناحية الطبقة الحاكمة ورأس السلطة والاحتلال، فلم يكن له دور في المقاومة المسلحة ضد الاحتلال، ازدادت حالة المقاومة داخل التنظيمات الشعبية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين والتيارات اليسارية ضد الاحتلال والأخطر هو شرعنة المقاومة حتى أنه طرح مشروع قانون بإباحة حمل المواطنين للسلاح. مما يعد دليلا بارزًا على تصاعد إرادة المجتمع في الدفاع عن نفسه وكسر احتكار السلطة –التابعة للاحتلال- للقوى المسلحة. وعلى الجانب الآخر استقر أمر الأجهزة الأمنية والعسكرية تحت سيطرة الاحتلال فهي قد بُنيت بيده وتحت إشرافه.
2. حدثت طفرة كبرى في الوعي العام عند كتل كبيرة بالمجتمع مع ظهور جماعة الإخوان المسلمين والإحياء الديني على يد الإمام حسن البنا تلميذ الإمام محمد عبده ومحمد رشيد رضا، وظهرت قوى يسارية قوية استطاعت تكوين قوى عمالية ومجتمعية ساعدت في استعادة المجتمع لقدرته على الفعل. ومع انتشار الطباعة والتوسع في التعليم وامتلاك المجتمع لقواه الدعوية؛ أدى ذلك إلى إعادة التوازن مرة أخرى بين المجتمع والدولة واقتراب المجتمع من تحقيق التفوق على رأس السلطة.
3. استمرت سيطرة الاحتلال على المؤسسات والثروة مع تحسن نسبي من استمرار تواجد الطبقة الوسطى وظهور بعض رؤوس الأموال الوطنية مما قلل من حجم احتكار الدولة للثروة عن سابق عهدها.
4. كان المجلس التشريعي –برغم ما يؤخذ عليه- أحد أدوات القوة المؤثرة على التوازن العام بين السلطة والمجتمع، واستطاع أن يفرض حق المجتمع في إنشاء قوانينه بالرغم من البنية الفكرية غير المتوافقة مع القواعد الفكرية للمجتمع. ومن أهم مزاياه: ثبوت الحق للمجتمع في التشريع والتقنين ولو لم يطبق هذا بشكل حقيقي، مما أدى إلى تحسن في توازن القوى بين الاحتلال ورأس السلطة من جهة والمجتمع من جهة أخرى.
والشكل الآتي يوضح توزيع القوى بين المجتمع ورأس السلطة ويظهر امتلاك المجتمع ل 42.5% من إجمإلى أدوات القوة مقابل 57.5% لرأس السلطة.
وبهذا وصل المجتمع إلى نقطة حرجة جديدة واقترب من انتزاع السلطة من الاحتلال وطبقته الحاكمة.
1 القوة المسلحة 2 صناعة الوعي 3 المؤسسات التنفيذية والثروة 4 التشريع والقانون
(8) حقبة العسكر
هي بامتياز أسوأ مرحلة في تاريخ مصر، دُمِّر فيها المجتمع وكل قواه بشكل ممنهج؛ واستطاعت رأس السلطة تكوين طبقة حاكمة نموذجية وأبعدت الشعب بشكل شبه كامل عن السلطة. وفيما يلي عرض نتائج حقبة العسكر على مصر
1. احتكرت الطبقة الحاكمة تماما القوة المسلحة سواء في شكلها الأمني أو العسكري أو حتى القوي «المدنية» التي استعان بها. والأخطر هو تكون صورة ذهنية حتى عند القوى الفاعلة في المجتمع بأن ذلك هو الحق المبين واستسلامها الكامل لهذا الاحتكار الذي أدى إلى تدجين الكثير من القوى المجتمعية. وتحولت كل مؤسسات القوة إلى مؤسسات قهر للشعب.
2. احتكرت الطبقة الحاكمة العسكرية صناعة الوعي وسيطرت على المؤسسات الرئيسية لصناعته؛ الثقافة الإعلام والتعليم؛ وسيطرت على الأزهر تماما وأذابته وقضت على البقية الباقية منه وتم احتلاله من رأسه وإفساد منظومة التعليم وبه واستخدمته لصناعة وترويج أفكارها عن السلطة وعن الإسلام. كما دمرت بنية التعليم في كل مستوياته في مصر ووصلت تقييم التعليم العالي والتعليم الأساسي إلى مستويات شديدة التدني. وانتزعت الدولة أي شكل من أشكال التعليم من المجتمع فشوهت فكرة لتعليم ما قبل المدرسي «الكتاتيب» وأنهت تماما على فكرة الأوقاف؛ وكان إلغاء الأوقاف الخيرية أحد أول قرارات الانقلاب العسكري عام 1952 مما أضعف من قدرات المجتمع على المشاركة في ملف التعليم. وعلى صعيد المؤسسات الدعوية؛ لم تسمح إلا للمؤسسات التي تتوافق مع سياستها ورؤيتها وحاربت بكل عنف أي مؤسسة دعوية بأذرعها الأمنية والعسكرية مما أدى إلى تراجع كبير لدور المجتمع في صناعة الوعي مع شبه احتكار من رأس السلطة العسكرية لذلك، وأدى هذا الاحتكار إلى تشويه شديد في العقل الجمعي للمجتمع وضح أثره في أحداث ما بعد بداية ثورة يناير.
3. وعلى مستوى المؤسسات التنفيذية قامت باحتكار السلطة بها لصالح رجال الطبقة الحاكمة وسيطرت إلى حد كبير على كافة مفاصلها؛ كما سيطرت على الثروة في صالح مجموعة موالية لها مما أدى إلى إفقار شديد بالشعب المصري، وأثر إلغاء فكرة الأوقاف من المجتمع إلى زيادة معدلات الفقر وامتلاك رأس السلطة الحاكمة لمعظم السلطة والثروة.
4. انتهت فكرة تمثيل الشعب في مجلس نيابي وأصبح المجلس النيابي هو هيئة معاونة للسلطة التنفيذية؛ فقد ألغت سلطة العسكر تقريبا فكرة المجلس النيابي بل واستخدمته وسيلةً للاستبداد في كثير من الأحيان؛ وألغت طبقة العسكر المحاكم الشرعية تماما فور حدوث انقلاب 52 وأصبح نموذج المحاكم الأهلية هو المسيطر على ساحات القضاء وتعمدت تدمير بنية القضاء باختيار أسوأ العناصر بالمجتمع في هذه المؤسسة وتحولت في نهاية الأمر إلى سلطة تابعة للسلطة التنفيذية.
تحولت مصر في أواسط العقد الأول من القرن الحادي والعشرين إلى حالة من الاحتكار الكامل للسلطة من الطبقة الحاكمة والشكل التالى يعبر عن توزيع أدوات القوة بين المجتمع ورأس السلطة ويظهر تفوق كاسح لرأس السلطة عن المجتمع حيث امتلكت الدولة 84% من أدوات القوة في مقابل 16% للمجتمع وهي أدنى نسبة خلال المائتي عام الأخيرة.
1 القوة المسلحة 2 صناعة الوعي 3 المؤسسات التنفيذية والثروة 4 التشريع والقانون
في المقال القادم –بإذن الله تعالى- نتحدث عن ثورة يناير وما بعدها، وعن خلاصة هذا التاريخ، وتوصيات الدراسة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق