تظاهرات "الربيع" في مصر.. إشكالات ومحاذير
نبيل الفولي
إشكالات الخارج
إشكالات الثورة مع الجماهير
إشكالات النخب الثورية
قد تخط التظاهرات المصرية -التي نشطت مع قدوم فصل الربيع- مسارا جديدا في الكفاح الوطني ضد الاستبداد واختطاف الدولة من الأمة، فتفتتح طريقا لو أحسنت النخبة قيادة الجماهير إليه وفيه لصنعت واقعا مصريا آخر خلال أقل من عقد من الزمان.
ومع أنه ليس هناك شيء اسمه الفرصة الأخيرة في حياة الشعوب الحية، إلا أن العقلاء لا يضيعون فرصة قائمة لأخرى لا يدرون متى تأتي، ولا كيف يمكنهم صناعتها من جديد.
إن خيوطا كثيرة تتجمع الآن فتذيب الجليد الذي ران على الساحة الثورية في مصر منذ حوالي عامين، بدءا من اقتناع طوائف شعبية وجماعات سياسية كثيرة بخطأ المسار الذي اتجهت إليه مصر منذ انقلاب يوليو/تموز 2013، ومرورا بالضغط الدولي المتزايد لتحسين أوضاع حقوق الإنسان في مصر، وقضية القتيل الإيطالي ريجيني، وانتهاء بالفشل الذريع الذي مني به الانقلاب في إدارة الدولة بالرغم من التدليل الأوربي والأميركي والإقليمي البالغ له.
إن خيوطا كثيرة تتجمع الآن فتذيب الجليد الذي ران على الساحة الثورية، بدءا من اقتناع طوائف شعبية وجماعات سياسية كثيرة بخطأ المسار الذي اتجهت إليه مصر منذ انقلاب، ومرورا بالضغط الدولي المتزايد لتحسين أوضاع حقوق الإنسان، وقضية القتيل الإيطالي ريجيني، وانتهاء بالفشل في إدارة الدولة
إلا أن إشكالات ومحاذير كثيرة تحيط بهذا الحدث الربيعي من داخله وخارجه؛ أعني من صفوف الجماهير الثائرة، ومن صفوف الانقلاب في ذات الوقت.
إشكالات الخارج
النفخ في صورة زعيم الانقلاب عبد الفتاح السيسي وتحويله إلى أسطورة كانت الوظيفة الأولى للإعلام المصري طوال أكثر من عامين، وقد بدأ هذا الإعلام نفسه منذ أشهر يتحول بشكل متصاعد إلى خطاب مناقض لهذا تماما، فالزعيم الملهم وحلم المصريين الكبير تحول إلى زعيم فاشل، وخطيب بليد، وبائع للأرض المصرية.
ولا يعني هذا التحول إلا شيئا واحدا، وهو أن الانقلاب يعيش أزمة حادة، وأنه يريد التضحية بزعيمه مقابل إنقاذ مركبه من الغرق. والأصابع التي لعبت بالمشهد المصري قبل ثلاث سنوات هي نفسها تحاول الآن أن تتلاعب به من جديد بتنسيق إقليمي ودولي لا يخفى، وإن كان قد يُخفي شيئا من الاختلاف الطفيف بين طرف وآخر.
وتقوم السياسات المتوقعة في هذا الصدد على اللعب بعنصر التظاهرات من جديد، فكما حُشدت الحشود وضخمتها الحيل قبل حوالي ثلاث سنوات، يمكن هذه المرة ترك الجماهير الغاضبة -وهي كثيرة جدا- تخرج للاحتجاج ضد السيسي، ثم تكتمل الدراما بتدخل الجيش ليولي -مؤقتا- مدنيا مقبولا في الأوساط الدولية والإقليمية، ويصبح الرافضون مثيرين للفتن والاضطرابات، ولا يصلح للتعامل معهم إلا البطش الأمني.
إن اللعب بالتظاهرات في الحقيقة يمثل لعبة خطرة لا تُضمن نتيجتها في جهة دون أخرى؛ لذا يمكن للجماهير الوطنية أن تلتف على سجانيها بذكاء، وتقلب السحر على الساحر، فتسعى بتكتيكات مناسبة إلى إحياء الاحتجاجات، وإسقاط هيبة قوات الأمن من نفوس الجماهير، وتكثير عدد المسيرات الصغيرة والمتوسطة على حساب الحشود الضخمة التي يسهل تشتيتها ومواجهتها.
وإنْ ترجح لدينا أن بعض القيادات الأمنية والعسكرية لا يعجبها افتتاح صفحة جديدة من الدم في مصر، فإن هذا قد لا يحول دون مزيد من الجرائم ضد الجماهير، إلا أنه لا شك سيحدث اضطرابا في صفوف النظام القابل للانقسام على نفسه. وعناصر الضغط الجماهيري، والزئير الثوري العالي، والإصرار على الوقوف في وجه الاستبداد -برغم التضحيات التي لم تتوقف أصلا- يمكن أن تعزز هذا الجانب.
كما أن التغطية الإعلامية الواسعة للحراك الجماهيري -الذي من الضروري ألا يكون حراك يوم أو أيام معدودات بل حراكا طويل النفَس متتابع الفصول- تمثل أداة عاملة في جانب زيادة الحشد وإطالة أنفاسه، والحيلولة دون توظيف النظام للتجمعات الثورية في التضحية بالسيسي مقابل بقاء النظام نفسه، فضلا عن استعادته شيئا من العافية المفقودة بمحو وصف الانقلاب عن نفسه، وإلهاء الجماهير عن الماضي الحلو المسمى بثورة 25 يناير وأهدافها.
وعموما ينبغي ألا يُترَك النظام ليفرض وجهة نظره وتفسيره هو للمشهد؛ خاصة بعد سلسلة الفضائح الأخلاقية الأخيرة التي أحاطت ببعض الإعلاميين الذين كانوا أكبر مروجي وجهة نظر الانقلاب في المرحلة السابقة، وبعد أن اتضح لكثير من المصريين أنهم تعرضوا لخدعة كبيرة صنعها إعلام الدولة العميقة.
إشكالات الثورة مع الجماهير
إنهاء الشتاء الثوري هو الهدف القريب والواقعي الذي يمكن لجبهة الثورة أن تسعى إلى تحقيقه من خلال تظاهرات الربيع الحالي في مصر، فثمة كثير من الخلل أحدثه الركود في هذه الجبهة خلال الأشهر السابقة، فضلا عن الخلل الأكبر الذي أحدثته الثورة المضادة من تفريق الشعب ونخبه السياسية والوطنية خلال أحداث كثيرة مصطنعة بدأت منذ إزاحة مبارك عن السلطة عام 2011.
إنهاء الشتاء الثوري هو الهدف القريب والواقعي الذي يمكن لجبهة الثورة أن تسعى إلى تحقيقه من خلال تظاهرات الربيع الحالي في مصر، فثمة كثير من الخلل أحدثه الركود في هذه الجبهة خلال الأشهر السابقة، فضلا عن الخلل الأكبر الذي أحدثته الثورة المضادة
وهذا يعني -قبل أن نبحث عن أي إنجاز ثوري- أن الجبهة الداخلية للثورة المصرية تحتاج إلى ترميم؛ حتى تكتسب درجة ملائمة من الفاعلية والتأثير، وتكون محضنا صالحا لمزيد من الزخم الثوري، وحتى يكون لعملها ثمرة ممكنة.
إن ثورة بلا ظهير شعبي قوي حلم ضائع، فالشعوب تمثل للثورات المعين الذي لا ينضب بما تقدمه من تضحيات وروافد بشرية ومادية ومصدات للهجمات المستميتة في الدفاع عن عروش الطغيان.
والجماهير في مصر تعيش الآن كابوسا في ظل الهجمة المنظمة على السيسي، بعد أن بنوا على الرجل آمالا عراضا في الاستقرار والرخاء، فضاعت هباء.
وبدلا من أن يصنع لها إعلام الانقلاب صنما بديلا يجب أن يكون هناك حوار واسع بين الثوار والجماهير في كل نقاط الاحتكاك الاجتماعي والإعلامي للحيلولة دون ذلك. يقوم هذا الحوار الهادئ العاقل على عكس مقولات الإعلام الأسود، وهدم الثقة في كل مقولاته، بدءا من تقديس الزعيم، وتقديم صورة مغلوطة للخصم، والعودة إلى الواقع لقياس النتيجة الفادحة لثلاث سنوات من الهجوم على الشرعية والسعي إلى هدمها.
ولابد ألا نفترض أن الجماهير -ببساطتها المعهودة- كانت غبية حين اختارت جانب الانقلاب، فعادة ما تكون الجماهير براغماتية تحب أن تسلك الطريق القصير، وتلتقي بأحلامها في صورة شخصية فذة -مصنوعة أو حقيقية- تعيش بينها.
وقد بدا للجماهير المصرية أن الانقلاب وقائده يمكن أن يمثلا لها هذا الحلم بدلا من المواعظ الطويلة والتفسيرات الفلسفية والتحليلات السياسية الكثيرة التي نجح فيها الثوار، لكن لم يقنعوا بها القاعدة الشعبية العريضة في ظل تفرقهم وضعفهم في الجانب العملي.
إشكالات النخب الثورية
كذلك لن تستقر ثورة بين نخبها تناقضات لم تقدَّم لها صيغة تصالحية راقية ومستعلية على الأهواء، تعلي مصلحة الأمة على مصلحة كل فصيل بمفرده، وتنهي فكرة الإقصاء كما تنهي فكرة البحث عن غنيمة شخصية.
ولا شك أن بعض اللابسين لأقنعة الثورة من جديد -على مستوى الأفراد والتجمعات السياسية- هم جزء من خطة الانقلاب لاستعادة شبابه ورصيده الضائع بين الجماهير المصرية، إلا أن هذا لا ينفي أن ثمة أفرادا وتجمعات أخرى جاءت إلى الساحة من جديد بنية أخرى، وهو ما يجب أن يثبته السلوك العملي وليس يكفي فيه القول النظري.
إن الذين وظفوا مكانتهم أو مواهبهم الفنية والأدبية والعلمية والإعلامية لهدم التجربة الديمقراطية في مصر والوقوف في معسكر الانقلاب، قد جاءتهم الفرصة من جديد للتكفير عن هذه الخطيئة الكبرى في حق الأمة والوطن، ولن يقبل الثوار منهم في الخير أقل مما قدموه في الشر!
أعني أن الذين وظفوا من هؤلاء مكانتهم أو مواهبهم الفنية والأدبية والعلمية والإعلامية لهدم التجربة الديمقراطية في مصر والوقوف في معسكر الانقلاب، قد جاءتهم الفرصة من جديد للتكفير عن هذه الخطيئة الكبرى في حق الأمة والوطن، ولن يقبل الثوار منهم في الخير أقل مما قدموه في الشر!
ثم إن ثورة مصر جاءت وتأتي بطعم الوطن ونكهة جماهيره الضاربة في أعماق الهوية والثقافة العربية الإسلامية، ولا يعيبها في جملتها -لا على المستوى الجماهيري ولا النخبوي- بعض التشوهات الطبيعية التي أنتجها التزوير والتدخل الخارجي والاستبداد الطويل وبعد العهد بالشورى والديمقراطية؛ لذا يجب على شركاء الثورة أن يراعوا هذه الطبيعة. ولا أعني بالعروبة عروبة فصيل بعينه، ولا بالإسلام إسلام جماعة بعينها، بل ثقافة الأمة ولسانها وهويتها التي صبغت شخصيتها طوال قرون مديدة.
إن رأب الصدع بين النخب الثورية يمكن من خلال الاتفاق على هذه الأصول، بشرط أن يكون هناك وعي كاف بالخطوات العملية التي يجب الاتفاق عليها، وفي مقدمتها إبراز التوافق على عدم العودة إلى الصفر الثوري حين كانت مصر بلا زعامة منتخبة، بل إن عودة دستور 2012 ومرسي من جديد - بتعديلات تلائم المرحلة ويمكن الاتفاق عليها- هي الصخرة الصلبة التي لابد منها لإفشال مخطط الانقلاب، وبدونها سنحرث في بحر الواقع الدولي والإقليمي والداخلي الذي لا يرحم.
ولم يعد من العدل بعد هذا الخذلان الذي ارتكبته بعض النخب السياسية للثورة والوطن، حين عملت في صفوف الانقلاب راضية وموافقة على سفك الدم الحرام، أن تشترط عدم العودة إلى الماضي والبدءَ من الصفر؛ لأن هذا الماضي القريب -فضلا عن أنه حق لأصحابه- هو الطريقة الوحيدة لإعطاء مصر فرصة للنظر إلى نفسها في الداخل، وتطهير مهادها من الثعابين الكثيرة التي اختبأت فيه طوال عقود وعقود من الظلم والديكتاتورية.
إن رفع رموز الشرعية والإصرار عليها، واعتبارها مبدأ وثابتا لا يمكن الحَيْد عنه، هي الوسيلة المتاحة لإبطال مساعي النظام للعودة إلى ألاعيبه القديمة، وبعد أن تعود مصر لأبنائها يكون لتلك اللحظة حديثها الملائم؛ خاصة أن الإنجاز يذيب الخلاف، ويقرب وجهات النظر حين تخلص النوايا.
نبيل الفولي |
إشكالات الخارج إشكالات الثورة مع الجماهير إشكالات النخب الثورية قد تخط التظاهرات المصرية -التي نشطت مع قدوم فصل الربيع- مسارا جديدا في الكفاح الوطني ضد الاستبداد واختطاف الدولة من الأمة، فتفتتح طريقا لو أحسنت النخبة قيادة الجماهير إليه وفيه لصنعت واقعا مصريا آخر خلال أقل من عقد من الزمان. ومع أنه ليس هناك شيء اسمه الفرصة الأخيرة في حياة الشعوب الحية، إلا أن العقلاء لا يضيعون فرصة قائمة لأخرى لا يدرون متى تأتي، ولا كيف يمكنهم صناعتها من جديد. إن خيوطا كثيرة تتجمع الآن فتذيب الجليد الذي ران على الساحة الثورية في مصر منذ حوالي عامين، بدءا من اقتناع طوائف شعبية وجماعات سياسية كثيرة بخطأ المسار الذي اتجهت إليه مصر منذ انقلاب يوليو/تموز 2013، ومرورا بالضغط الدولي المتزايد لتحسين أوضاع حقوق الإنسان في مصر، وقضية القتيل الإيطالي ريجيني، وانتهاء بالفشل الذريع الذي مني به الانقلاب في إدارة الدولة بالرغم من التدليل الأوربي والأميركي والإقليمي البالغ له.
إشكالات الخارج النفخ في صورة زعيم الانقلاب عبد الفتاح السيسي وتحويله إلى أسطورة كانت الوظيفة الأولى للإعلام المصري طوال أكثر من عامين، وقد بدأ هذا الإعلام نفسه منذ أشهر يتحول بشكل متصاعد إلى خطاب مناقض لهذا تماما، فالزعيم الملهم وحلم المصريين الكبير تحول إلى زعيم فاشل، وخطيب بليد، وبائع للأرض المصرية. ولا يعني هذا التحول إلا شيئا واحدا، وهو أن الانقلاب يعيش أزمة حادة، وأنه يريد التضحية بزعيمه مقابل إنقاذ مركبه من الغرق. والأصابع التي لعبت بالمشهد المصري قبل ثلاث سنوات هي نفسها تحاول الآن أن تتلاعب به من جديد بتنسيق إقليمي ودولي لا يخفى، وإن كان قد يُخفي شيئا من الاختلاف الطفيف بين طرف وآخر. وتقوم السياسات المتوقعة في هذا الصدد على اللعب بعنصر التظاهرات من جديد، فكما حُشدت الحشود وضخمتها الحيل قبل حوالي ثلاث سنوات، يمكن هذه المرة ترك الجماهير الغاضبة -وهي كثيرة جدا- تخرج للاحتجاج ضد السيسي، ثم تكتمل الدراما بتدخل الجيش ليولي -مؤقتا- مدنيا مقبولا في الأوساط الدولية والإقليمية، ويصبح الرافضون مثيرين للفتن والاضطرابات، ولا يصلح للتعامل معهم إلا البطش الأمني. إن اللعب بالتظاهرات في الحقيقة يمثل لعبة خطرة لا تُضمن نتيجتها في جهة دون أخرى؛ لذا يمكن للجماهير الوطنية أن تلتف على سجانيها بذكاء، وتقلب السحر على الساحر، فتسعى بتكتيكات مناسبة إلى إحياء الاحتجاجات، وإسقاط هيبة قوات الأمن من نفوس الجماهير، وتكثير عدد المسيرات الصغيرة والمتوسطة على حساب الحشود الضخمة التي يسهل تشتيتها ومواجهتها. وإنْ ترجح لدينا أن بعض القيادات الأمنية والعسكرية لا يعجبها افتتاح صفحة جديدة من الدم في مصر، فإن هذا قد لا يحول دون مزيد من الجرائم ضد الجماهير، إلا أنه لا شك سيحدث اضطرابا في صفوف النظام القابل للانقسام على نفسه. وعناصر الضغط الجماهيري، والزئير الثوري العالي، والإصرار على الوقوف في وجه الاستبداد -برغم التضحيات التي لم تتوقف أصلا- يمكن أن تعزز هذا الجانب. كما أن التغطية الإعلامية الواسعة للحراك الجماهيري -الذي من الضروري ألا يكون حراك يوم أو أيام معدودات بل حراكا طويل النفَس متتابع الفصول- تمثل أداة عاملة في جانب زيادة الحشد وإطالة أنفاسه، والحيلولة دون توظيف النظام للتجمعات الثورية في التضحية بالسيسي مقابل بقاء النظام نفسه، فضلا عن استعادته شيئا من العافية المفقودة بمحو وصف الانقلاب عن نفسه، وإلهاء الجماهير عن الماضي الحلو المسمى بثورة 25 يناير وأهدافها. وعموما ينبغي ألا يُترَك النظام ليفرض وجهة نظره وتفسيره هو للمشهد؛ خاصة بعد سلسلة الفضائح الأخلاقية الأخيرة التي أحاطت ببعض الإعلاميين الذين كانوا أكبر مروجي وجهة نظر الانقلاب في المرحلة السابقة، وبعد أن اتضح لكثير من المصريين أنهم تعرضوا لخدعة كبيرة صنعها إعلام الدولة العميقة. إشكالات الثورة مع الجماهير إنهاء الشتاء الثوري هو الهدف القريب والواقعي الذي يمكن لجبهة الثورة أن تسعى إلى تحقيقه من خلال تظاهرات الربيع الحالي في مصر، فثمة كثير من الخلل أحدثه الركود في هذه الجبهة خلال الأشهر السابقة، فضلا عن الخلل الأكبر الذي أحدثته الثورة المضادة من تفريق الشعب ونخبه السياسية والوطنية خلال أحداث كثيرة مصطنعة بدأت منذ إزاحة مبارك عن السلطة عام 2011.
إن ثورة بلا ظهير شعبي قوي حلم ضائع، فالشعوب تمثل للثورات المعين الذي لا ينضب بما تقدمه من تضحيات وروافد بشرية ومادية ومصدات للهجمات المستميتة في الدفاع عن عروش الطغيان. والجماهير في مصر تعيش الآن كابوسا في ظل الهجمة المنظمة على السيسي، بعد أن بنوا على الرجل آمالا عراضا في الاستقرار والرخاء، فضاعت هباء. وبدلا من أن يصنع لها إعلام الانقلاب صنما بديلا يجب أن يكون هناك حوار واسع بين الثوار والجماهير في كل نقاط الاحتكاك الاجتماعي والإعلامي للحيلولة دون ذلك. يقوم هذا الحوار الهادئ العاقل على عكس مقولات الإعلام الأسود، وهدم الثقة في كل مقولاته، بدءا من تقديس الزعيم، وتقديم صورة مغلوطة للخصم، والعودة إلى الواقع لقياس النتيجة الفادحة لثلاث سنوات من الهجوم على الشرعية والسعي إلى هدمها. ولابد ألا نفترض أن الجماهير -ببساطتها المعهودة- كانت غبية حين اختارت جانب الانقلاب، فعادة ما تكون الجماهير براغماتية تحب أن تسلك الطريق القصير، وتلتقي بأحلامها في صورة شخصية فذة -مصنوعة أو حقيقية- تعيش بينها. وقد بدا للجماهير المصرية أن الانقلاب وقائده يمكن أن يمثلا لها هذا الحلم بدلا من المواعظ الطويلة والتفسيرات الفلسفية والتحليلات السياسية الكثيرة التي نجح فيها الثوار، لكن لم يقنعوا بها القاعدة الشعبية العريضة في ظل تفرقهم وضعفهم في الجانب العملي. إشكالات النخب الثورية كذلك لن تستقر ثورة بين نخبها تناقضات لم تقدَّم لها صيغة تصالحية راقية ومستعلية على الأهواء، تعلي مصلحة الأمة على مصلحة كل فصيل بمفرده، وتنهي فكرة الإقصاء كما تنهي فكرة البحث عن غنيمة شخصية. ولا شك أن بعض اللابسين لأقنعة الثورة من جديد -على مستوى الأفراد والتجمعات السياسية- هم جزء من خطة الانقلاب لاستعادة شبابه ورصيده الضائع بين الجماهير المصرية، إلا أن هذا لا ينفي أن ثمة أفرادا وتجمعات أخرى جاءت إلى الساحة من جديد بنية أخرى، وهو ما يجب أن يثبته السلوك العملي وليس يكفي فيه القول النظري.
ثم إن ثورة مصر جاءت وتأتي بطعم الوطن ونكهة جماهيره الضاربة في أعماق الهوية والثقافة العربية الإسلامية، ولا يعيبها في جملتها -لا على المستوى الجماهيري ولا النخبوي- بعض التشوهات الطبيعية التي أنتجها التزوير والتدخل الخارجي والاستبداد الطويل وبعد العهد بالشورى والديمقراطية؛ لذا يجب على شركاء الثورة أن يراعوا هذه الطبيعة. ولا أعني بالعروبة عروبة فصيل بعينه، ولا بالإسلام إسلام جماعة بعينها، بل ثقافة الأمة ولسانها وهويتها التي صبغت شخصيتها طوال قرون مديدة. إن رأب الصدع بين النخب الثورية يمكن من خلال الاتفاق على هذه الأصول، بشرط أن يكون هناك وعي كاف بالخطوات العملية التي يجب الاتفاق عليها، وفي مقدمتها إبراز التوافق على عدم العودة إلى الصفر الثوري حين كانت مصر بلا زعامة منتخبة، بل إن عودة دستور 2012 ومرسي من جديد - بتعديلات تلائم المرحلة ويمكن الاتفاق عليها- هي الصخرة الصلبة التي لابد منها لإفشال مخطط الانقلاب، وبدونها سنحرث في بحر الواقع الدولي والإقليمي والداخلي الذي لا يرحم. ولم يعد من العدل بعد هذا الخذلان الذي ارتكبته بعض النخب السياسية للثورة والوطن، حين عملت في صفوف الانقلاب راضية وموافقة على سفك الدم الحرام، أن تشترط عدم العودة إلى الماضي والبدءَ من الصفر؛ لأن هذا الماضي القريب -فضلا عن أنه حق لأصحابه- هو الطريقة الوحيدة لإعطاء مصر فرصة للنظر إلى نفسها في الداخل، وتطهير مهادها من الثعابين الكثيرة التي اختبأت فيه طوال عقود وعقود من الظلم والديكتاتورية. إن رفع رموز الشرعية والإصرار عليها، واعتبارها مبدأ وثابتا لا يمكن الحَيْد عنه، هي الوسيلة المتاحة لإبطال مساعي النظام للعودة إلى ألاعيبه القديمة، وبعد أن تعود مصر لأبنائها يكون لتلك اللحظة حديثها الملائم؛ خاصة أن الإنجاز يذيب الخلاف، ويقرب وجهات النظر حين تخلص النوايا. |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق