السيسي يليق بهكذا دولة!
يَذْكُر عبد الرحمن يوسف، في مقالته الموسومة بـ"أسرار الدولة المصرية على قارعة الطريق"، والمنشورة في "عربي21"
كيف أن إيطاليا تمكّنت من الوصول إلى خاطفي وقاتلي ريجيني، موثِّقة الجريمة في تسجيلات فيديو، الأمر الذي يعني أن مصر كلها، حتى كاميرات الفيديو المنتشرة في كل مكان، مستباحة، لدولة بحجم إيطاليا، والسبب المباشر في ذلك أن الدولة المصرية، ولكي تتجسس على شعبها، تعاقدت مع شركة إيطالية مختصّة في أنظمة التجسس والمراقبة، فكانت النتيجة أن تمكّنت هذه الشركة من انتهاك معلومات الدولة كلّها، وتسليم تلك المعلومات لإيطاليا، وإذا كان هذا هو حال مصر مع دولة من وزن إيطاليا، فكيف هو مع دول كأمريكا وبريطانيا وكيان العدو الصهيوني؟!
المعلومة في الحقيقة بالغة الأهمية، لأنها تعطي مثالاً حسيًّا واقعيًّا على الكيفية التي تحوّلت بها مصر إلى مجرد خِرقة بالية تبعث على الازدراء، كما تُغري بالمزيد من استخدامها والعبث بها، فأيُّ شيء تحتاجه القوى، في هذا العالم المتوحّش في طلب مصالحه، أكثر من دولة بهذا الموقع الإستراتيجي، ولكن بهذه الحال البائسة؟!
ومَنذَ الذي يمكنه أن يزهد في امتهانها وامتصاصها وامتطائها، إلى درجة التسلية السادية؟!
ومن ثمّ، وطالما أن هذه الدولة مهترئة إلى هذا الحدِّ الفاضح والمخزي، والمكشوفة إلى حدٍّ خليع ومبتذل، فإنّ السؤال البدهي الأول الذي يتبادر إلى الأذهان، كيف يمكن لأي مسؤول في هذه الدولة أن يحتفظ بشيء من الحصانة والحماية، بما يحول دون ابتزازه، أو استخدامه، وبما يضمن وجود رجال شرفاء يمكن التعويل عليهم في سدِّ هذا الخلل الفادح؟!
هذا السؤال البدهي الأخير، يصلح مدخلاً تفسيريًا للإجابة على سؤال آخر، محيّر ومرعب، يبحث عن سرّ تواطؤ بقية أركان الدولة المصرية، بأجهزتها ومؤسساتها وشخوصها، مع هذه الخيانة الفاحشة والمتهتكة التي يمارسها عبد الفتاح السياسي، حتى بات ضرب المثل عليها، عملاً فائضًا، لعُري الخيانة المُغني عن كل دليل وبرهان، إذ لا يمكن بحال، لأيّ جيش محترم، أو جهاز مخابرات نظيف، أن يغض الطرف عن المبالغة الصادمة في تدمير سيناء وتشريد أهلها، وتجويع قطاع غزة، والتعاطف مع العدوان الصهيوني عليه.
وإذا كان غطاء ذلك متاحًا باستثارة الوطنية المصرية بنسختها الشوهاء التي ابتدعتها الأنظمة المصرية المتعاقبة لاستخدامها في استعباد الشعب المصري، وإذا أمكن، باستدعاء السياسات المصرية الرسمية منذ السادات ومرورًا بمبارك، التجاوز عن فلتات اللسان الصهيوني التي تُظهر أن تعاون السيسي مع الصهاينة أبعد وأعمق وأقدم وأعرق وأكثر عضوية وارتباطًا ومصيرية مما كان عليه الحال في حقبتي السادات ومبارك، فكيف يمكن التجاوز عن تدمير المقدرات المصرية، وإهدار ثرواتها التي يقوم عليها بشر البلد وحجارتها، حتى تنازل السيسي عن مياه نهر النيل لإثيوبيا، وعن حقول غازية في المتوسط سوف تؤول في النهاية لصالح العدو الصهيوني، وعن جزيرتين إستراتيجيتين للسعودية، بالإضافة إلى التسريبات المتكررة عن استعداده للتنازل عن سيناء لتوطين اللاجئين الفلسطينيين فيها؟!
وبصرف النظر عن كل الجدل القانوني والتاريخي، حول بعض تلك الثروات التي تنازل عنها السيسي، وبصرف النظر عن الأسباب الآنيّة التي دفعت السيسي للتنازل عن بعضها، كتنازله عن جزيرتي تيران وصنافير، فإنّ حجم التنازلات وكثافتها، ينتهك بدوره دعايات الوطنية المصرية المغرقة في الشوفينية المأزومة، ولا سيما حين استخدامها ضد العرب، والفلسطينيين منهم على وجه الخصوص، والتي يستند إليها السيسي في تجميع قطيع مؤيديه، وتثبيت نفسه داخليًا.
بيد أن ثمة دلالات أخرى لهذه التنازلات، إن من جهة هشاشة الوعي الوطني، مهما بدا راسخًا، كما هو الحال في الوطنية الأعرق عربيًا، والأكثر امتدادًا في التاريخ كدولة، أي مصر، أو من جهة قدرة الطاغية على الاستخفاف بالجماهير والعبث بها، أو من جهة علاقات السيسي الخلفية والمخفية، وهي محور هذه المقالة، إذ كيف أن أحدًا في هذه الدولة المصرية، لم تظهر منه حتى محاولة لوقف هذا النزيف المريع، وكيف أن الدولة كلها تتضافر، مهما قيل عن صراعات أجنحتها، لإسناد هذه الخيانات، فصراعات الأجنحة على ما يبدو تتعلق بالمصالح الضيقة، لا بالمصالح الوطنية الكبرى!
في ما يتعلق بالسيسي، فقد جاء، فعلاً، في لحظة دولية انتقالية تتسم بالغموض الإستراتيجي، ويحظى فيها اللاعبون الإقليميون بدور متعاظم، دون أن يعني ذلك أنهم انفكّوا عن تبعيتهم لأمريكا، وبالنظر إلى احتياجات السيسي، ومنظومة حكمه، وبسبب الانكشاف الفظيع الذي تعانيه الدولة المصرية، فإن هذا المخلوق، القابل شخصيًا للبيع، كما صرّح هو، فرصة لا ينبغي أن تفوّت لاستغلاله في امتصاص كل ما أمكن من ثروات مصر، ولكن وبالنظر إلى الفاعل الإقليمي الأهم، وهو الكيان الصهيوني، وطبيعة التحالف الإقليمي الذي دعم انقلاب السيسي، وعلاقاته بالكيان الصهيوني، ومستوى التطابق في السياسات بين أركان هذا التحالف، فإنّ مشكلة السيسي على الأرجح، أبعد من مجرد احتياجاته الناجمة عن أزمته الراهنة.
ولأن الدولة المصرية منتهكة إلى الحدّ الذي جرى بيانه، وبما يستغرق كل أركانها وأجهزتها ومؤسساتها وشخوصها، فقد أمكن تسريب هذه الشخصية داخل أعصاب الدولة الأخطر والأهم على أعين المفضوحين الأذلاء، والسبب الذي صعد بهذا المخلوق داخل أجهزة هذه الدولة، هو السبب الذي يمنع عنه نظراءه وزملاءه ورفاقه في أجهزة الدولة الحساسة والخطيرة.
نعم، كنا في الحقيقة بحاجة لتبديد أوهامنا الراسخة، ولم يكن ثمة هزّة يقين تصلح لذلك، سوى هذا الانقلاب الدامي الفاضح، ولأن أوهامنا أكثر رسوخًا مما يمكن لهزّ عابرة، مهما كانت عنيفة، أن تبدّدها، فقد كان لا بد من تطاول الزمن على جراحنا مستصحبًا يقينياته العنيفة، لتعرية الحقائق حتى لا يبقى عليها شيء من وهم تخادعنا به. لم تكن اكتشافاتنا عن فساد وانعدام كفاءة مؤسسات الأوهام الكبرى (الجيش، المخابرات، القضاء..)، وعن نفاق النخب الثقافية والسياسية والدينية؛ كافية، بل كان لا بدّ لنا أن نشاهدها وهي تتقلب على فراش الرذيلة، علَّنا بعد ذلك نكفُّ عن الوهم، ثم نتأمل أوهامنا السابقة عن إمكانية إصلاح هذه الدولة، بالأدوات التي استُخدمت عقب ثورة يناير وقبل انقلاب السيسي!
حينما انتهيت من هذه المقالة، شاهدت مقابلتين منفصلتين، لـ "رئيس هيئة عمليات القوات المسلحة" الأسبق، قال في الأولى إن جزيرتي تيران وصنافير "مصريتان مية المية"، ثم قال في الثانية بعد 24 ساعة على الأولى "الجزر دي أصلاً سعودية".
الحقيقة أن السيسي يليق بهكذا دولة، وهكذا جيش!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق