الوطنية الرخيصة والرئيس السّكّر
لا جديد، هذه المرة، أيضاً.
يسقط جنود صغار شهداء، تحتشد الأعين بالدمع، وتمتلئ القلوب بالألم والحسرة، على وطنٍ يسوقه مجموعة من المغامرين إلى المحرقة، ثم يتاجر المغامرون بصور الجثث الممزقة والأشلاء المبعثرة، في بورصة "الحرب على الإرهاب".
تكرّرت الضربة مرات عديدة في المكان ذاته، وتكرّرت التجارة في "الوطنية الرخيصة" بالأسلوب ذاته: جنرالات يبتزون الشعب، ويواصلون الصعود إلى قمة الفشل، يردّدون العبارات ذاتها، ويعبئون الإعلام الأعمى بالحكايات والمرثيات الصناعية نفسها.
مذيع أو مذيعة في استوديو لا تدخله شمس الحقيقة أبداً، يجلس/ تجلس لأداء دورٍ حزين، ركيك ومبتذل.
وفي الخلفية أغنية أكثر ركاكةً وابتذالاً، يحاول/ تحاول ممارسة أقصى درجات الحشرجة واستحلاب دموع على الشهداء، ليصل/ تصل إلى المراد ذاته: الوطن هو الجيش فقط، والجيش هو الرئيس.. إذن، الرئيس هو الوطن، من يرفض فشل الرئيس وبلادته خائن للوطن، وعميل.
تحشد الدولة جميع أسلحتها في الحرب على سائق توك توك، أطلق زفرة ألم من أوضاعٍ يتحدث عن كارثيتها وخطورتها الجميع، يعلنون الطوارئ في كل مكان، للرد على أنين سائق توك توك.. الشؤون المعنوية والشؤون الإعلامية والشؤون الأمنية، جميعهم مستغرقون في الكفاح ضد سائقٍ تكلم فأبكى الملايين، ثم يفيق الجميع على جرحٍ غائر، جديد، ودماء تسيل على رمل سيناء.
يتفرّغ الجيش لحرب اللبن، ثم حرب السكر، والمحاليل الطبية، و"يفرد"، بتعبير عبد الفتاح السيسي، على كل جبهات البيزنس والاقتصاد، فيما تبقى ظهور المجندين البسطاء مكشوفةً أمام إرهابٍ، استدعاه النظام، ليكون شفيعه في الحكم العسكري، وشريكه في عملية حشر المصريين داخل مغارات الخوف والفزع.
كل ذلك من أجل جنرالٍ تغترف آلته الإعلامية من آبار الإسفاف، وتقول للمواطنين كيف تكون هناك أزمة سكّر في مصر، ورئيسها شخصياً هو السكّر بعينه.. ما يضعك أمام صنفٍ جديد ومبتكر من نفاق المستبدين، يمكنك أن تطلق عليه "النفاق الرقيع" الذي يحوّل الحاكم إلى صنم من العجوة، يطوفون حوله. وحتماً سيأكلونه لحظة الجوع الذي ينمو في كل الأركان، حتى صار الناس يحرقون أنفسهم، أحياء، في الشوارع، فراراً من البؤس والحاجة، ويصرخون عراةً في عرض الطريق.
يعيد "الجنرال فشل" حديثه الممل عن حتمية تجرّع الإصلاح الاقتصادي المرّ، تعويم الجنيه ورفع الدعم، لتدبير موارد أخرى، لا يسأله أحدٌ ماذا فعلت بنحو 237 مليار دولار، بين منح وقروض ومساعدات، سرية وعلنية، حصل عليها، منذ اختطف السلطة بقوة السلاح..
لا يريد أن يفهم أن الإصلاح الاقتصادي لا يمكن أن يتحقّق في ظل خرابٍ سياسيٍّ وقيميٍّ يسد الآفاق..
لا يريد أن يفهم أن الإصلاح المطلوب مرهون برحيله، ومعه منظومة القتل والقمع والفساد.
كانوا يتهمون الأنفاق التي تربط سيناء بغزة بأنها السبب في حوادث قتل الجنود، وها هم هدموا الأنفاق، وأعلنوا القطيعة مع غزة، ليتأكّد، مرةً أخرى، وكما قلت، عقب حادث قتل الجنود قبل عامين، أن النفق الأخطر والأكثر كارثية هو هذا الخواء المخيف في رأس النظام، والذي يجعله يقتنع بأن الإدارة بالدجل وصناعة الأوهام يمكن أن تستمرّ مدى الحياة. النفق الحقيقي هو هذا الدماغ الذي يتوّهم أن من يقود دراجةً في سباقٍ كاذب يمكن أن يقود وطناً.
وأكرّر أن المجرم الفعلي في جريمة قتل الجنود والضباط ليس فقط عناصر الإرهاب التي خططت وكمنت وانقضّت وقتلت، بل، أيضاً، هو ذلك الذي اختطف وطناً، ووضعه على حافة الجنون، وجلس يستمتع بالمشاهدة. المتهم الأول هو الفشل المقيم في عقلية ذوي الجلود السميكة التي اتخذت القتل طريقاً وحيداً للوصول إلى الحكم، ثم أعادت استخدام السلاح ذاته، كلما استشعرت أن مقاومة استبدادها تتوسع وتتعمق.
المجرم هو من صنع حالة عداءٍ مع المصريين في سيناء، ومارس ضدهم جرائم لا تقل في بشاعتها عما ذاقوه من ويلات، إبّان حروب مصر الحقيقية ضد عدوها الحقيقي.
أنظروا حولكم، ستجدون أن جنرالكم الغارق في الأوهام لم يعد خطراً على الحياة المدنية، فقط، وإنما خطر على العسكرية المصرية، أيضاً.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق