حدّث سهم بن كنانة، قال:
حصل في أواخر عام 1437 للهجرة أن هلك زعيم من زعماء يهود في فلسطين، بولندي الأصل، اسمه بيريز، كان له قصب السبق في احتلال الأرض المقدّسة، ولم يترك فيها شبراً إلا دنّسه، وكان من قادة العصابات التي ارتكبت المجازر، واضطرّت أهل فلسطين إلى المَهاجر، ولا ينسى العرب مذبحة دير ياسين، التي ارتكبها مع قومه الملاعين، وكان أول من أصدر التصاريح لاغتصاب الأرض، وبناء مستوطنات عليها بالطول والعرض، فكان بحق من مؤسسي ذلك الكيان، ومن حُماته في السرّ والإعلان، حتى قال عنه الصهيوني أرييه إلداد، وهو من أشرس المحاربين والقوّاد، إنه «أبو الاستيطان»، الذي تولّى طرد السكّان، وهو مهندس المشروع النووي لكيانه، الذي أراد به إرهاب جيرانه، وقد بناه بالتعاون مع فرنسا، وكتاب التاريخ لا ينسى، وكانت حصيلته مئتي رأس، شديدة الفتك والبأس، كما أنه منشىء مجمع الصناعات الجويّة، ومركز الأبحاث العسكريّة، وكلاهما قوّى قدرات «إسرائيل»، ومكّنها من تصدير السلاح الثقيل، وهو ما ضاعف أموالها، وأصلح أحوالها.
قال سهم بن كنانة: ومن جرائم بيريز المشهورة، التي ما تزال في الأذهان محفورة، إقناعه فرنسا وبريطانيا بشنّ عدوان على مصر، وهو العدوان الذي فشل في تحقيق النصر، وقتلُه آلاف اللبنانيين، وتدميرُه غزّة وجنين، وأمْرُه باغتيال كثير من قادة المقاومة، مع أنه كان يزعم التفاوض والمساومة، ويتنكّر في ثياب عربيّة، ليزور ملوك العرب بطريقة سريّة، وكان بعض العرب يصفونه بالحمامة، لإيثاره فيما زعموا الصلح والسلامة، وهو ليس إلا أفعى تنفثُ السّم، وتعشق الدّمْ، ومن عجائب ذلك الزمان، أنه حصل على جائزة للسّلم والأمان، وبعدها بأشهر أزهق في قانا أرواح العشرات، ليحبّب الناس إليه في الانتخابات، وحصل أنه أثناء الحرب على غزة التي سمّاها اليهود «عمود السّحاب»، كان في قاعدة صهيونية يتأمّل شاشة كبيرة بإعجاب، ولم يكن في تلك الشاشة غير فلسطينيين يصلّون جماعة، لا أسلحة لديهم ولا بضاعة، فصدر أمر صهيوني بالقصف، في همجيّة تُعجز الوصف، فاستشهدوا جميعاً، فما كان من «رجل السلام» إلا أن شكر القتلة، ثم عاد يؤدّي عملَه.
قال سهم بن كنانة: ولما هلك بيريز، حزن خونة العرب عليه، إذ لن يستطيعوا بعد اليوم النظر إليه، ولا تقبيل ما بين عينيه، واجتهدوا في حضور جنازته، ومواساة أهله وعصابته، واستأذن عامل اليهود في رام الله أن يحضر فأُذن له، فجاء صاغراً ذليلاً، ولمّا رأى بيريز محمولاً على الأعناق، شعر بلوعة المشتاق، فانفجر باكياً من مرارة الفراق، فتعجّب اليهود من أمره، فلم يكن بيريز وليّ أمره، وظنّوه يتباكى، فإذا الأمرُ بالضد، وإذا الدموعُ عينُ الجِد، وشاع خبر عبّاس، حتى أصبح حديث النّاس، وتنافس الشعراء في هجائه، مستكثرين ما جرى من بكائه،
فقال أحدهم:
وقالوا أتبكي موتَ بيريزَ جازعاً
وليس سوى لصٍّ من القومِ فاتكِ
فقلتُ لهم: يبقى خليلاً وصاحباً
وإنْ سرقتْ يمناه خيرَ الممالكِ
وظهر عبّاس وهو يضع يده بيد عجوز يهودية اسمها ليفني، كأنما يقول لها «إنّ حزنَكِ حزني»،
فهجاه شاعر قائلاً على لسانه:
بالأمس تولّى يا ليفني
واليوم يُوارى في الدّفنِ
باسم التوراةِ أغيثيني
بحنانِكِ من هذا الحزنِ
وضعي كفّيكِ على كفّي
يا ذات الفتنةِ والحُسْنِ
قال سهم بن كنانة: وحضر وزير من مصر مراسم التشييع، وبكى أمام جثمان بيريز بكاء الرضيع، بل إن من تأمّل انكساره بين يديه، أيقن أنه كمن فقد والديْه، وطارت صورة الوزير في الآفاق، وتحدّثت بها الشام والعراق، فقد كان ممن انقلب على والٍ لمصر، واختطفوه عنوةً من القصر، وقالوا إنه بعث رسالة تهنئة إلى بيريز، وصفه فيها بالصديق العزيز، وزعموا أنه أراد بها التبجيل والتعزيز، فأصابهم الله بما يفترون، وساقهم إلى عزاء بيريز سَوْقاً وهم يبكون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق