"غوانتنامو قصتي".. الحلقة الأولى
سامي الحاج
مدير مركز الجزيرة للحقوق والحريات، ومعتقل سابق بسجن غوانتنامو.
في ظلمات ليلٍ عربيٍّ، أجلس وحيدًا.. أُصغي لصدى أنفاسي ونبض قلبي.. ويأتي طائر من طيور الليل، فيحطّ على مقرُبة منِّي، ويأخذ في الغناء على نحو خافت، كأنما يدعو وليفًا غائبًا!
أحاول تَبَـيُّـنَ جسمه في الليل، غير أنَّ شَجَن غنائه يأخذني بعيدًا، بعيدًا جدًّا.. إلى ساعة غير هذه، ومكانٍ غير هذا.
إلى حيث وضعني السجَّانون في زنزانة حبس انفرادي، نزعوا عنِّي ملابسي وزجُّوا بي في تلك الزنزانة الضيقة. كانت أجهزة التبريد تعمل بقوة، وما هي إلا لحظات حتى دخل البرد إلى عظامي. وبينما كنت أرتجف وأرتعد.. تناهى إلى أذني، من زنزانة تقع عن يميني، صوت محتسِب يردِّد في نبرةٍ مِلؤُها الجَلَد: أَحَدٌ أَحَد.
وما هي إلا لحظات ويعلو صوت سجين آخر في زنزانة مجاورة في ناحية الشمال يقول لي: يا سامي سكِّت بلالًا الذي عن يمينك حتى أعالج ما أنا فيه من برد. وبالرغم من كل شيء، وجدتُ نفسي أبتسم!
كان ذلك في غوانتانامو، وغوانتانامو قصتي؛ أنا السجين رقم (345). نعم، غوانتانامو قصَّتي وقصة أكثر من ثمانمائة سجين. كل واحد منهم عاش التجربة على نحوٍ ما، دونما ريب متشابه، دونما ريب مختلف!
غير أن العطفة الحادة التي ملأتني مع الألم إيمانًا وقوة عقلية ونفسية أوضحت بل أكدت لي أن في دواخل كلٍّ منَّا قوى هائلة تظل كامنة حتى نقدح فيها شرارة الصمود؛ لكي تندلع ثم تشتعل ويشتد أوارها فَيَلْتَهِم كل المثبطات ويقضي على كل ريح مناوئة.
ولقد قدحتُ هذه الشرارة يوم بدأت رحلتي إلى عالم الجوع البدني والامتلاء الرُّوحي؛ وإنه لحق أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.
فكَّرت مليًّا من قبل أن أضع إرادتي على حدِّ الرهان بالدخول في إضراب طويل وتام عن الطعام. ثم إنني قررت وأعلنت القرار.
كنت أقهر وحدتي بذكر الله الذي هو معنا حيث ما كنَّا، وفي ذات الوقت أُحجِّم مطالب الجسد بلجام الروح.
لم أكن على علم بأنني لم أكن وحدي؛ فالجزيرة كانت تستصحب اسمي ومحنتي على نحوٍ يومي، بل بثَّت ونشرت شعارها الذي ملأ الدنيا: "أطلقوا سراح سامي الحاج". كان الشريط الإخباري يعيد على الشاشة الأكثر حضورًا وشهرة اسمي حتى ملأ الدنيا وشغل الناس. وقد عرفت يوم إطلاقي أن أخي وضاح خنفر، الرجل الأول في الجزيرة، قطع زيارة عمل مهمة لكي يصل إلى مطار الخرطوم قبل وصول طائرتي وليكون أول المستقبلين.
حقًّا إنني ممتنٌّ وفخور بهذه المؤسسة التي تعاملت معي طوال محنتي كابنها، ليس على سبيل المجاز وإنما بالفعل؛ فهي التي لفتت أنظار العالم لعدالة قضيتي بل إنها جعلت من تغطيتها الإعلامية وسيلة ضغط هائلة حرَّكت المؤسسات والمنظمات المعنية بقضايا حقوق الإنسان لكي تنشط وتعمل في أركان الدنيا الأربعة.
ثم حولت التغطية إلى حملة دولية رسمية جعلت على رأسها في قطر د. فوزي أو صديق الذي لعب دورًا كبيرًا في التنسيق مع هيومان رايتس وتش وآمنستي ومنظمة العون المدني العالمية التي لعب فيها الأستاذ حسن سعيد المجمَّر دورًا كبيرًا، كذلك المكتب الدولي للجمعيات الخيرية والإنسانية بفرنسا الذي قاد الجهود فيه د. هيثم مناع، ثم هناك منظمة الكرامة لحقوق الإنسان بسويسرا التي أولاني الاهتمام فيها د. رشيد مصلي، إضافة لجهود كل من د. عادل جاسم الدمخي رئيس جمعية المقومات الأساسية لحقوق الإنسان بالكويت وخالد الأنسي المدير التنفيذي لمنظمة هود باليمن وعاصم قرشي مدير منظمة سجناء الأقفاص بلندن.
ولعل الدور القانوني كان له تأثير كبير بما أبرزه من دفوع قدَّمها محامون مقتدرون عملوا إمَّا لحساب قناة الجزيرة أو اتحاد المحامين السودانيين أو القانونيين المختصين في المنظمات الناشطة في مجال حقوق الإنسان.
إضافة لجهود الأفراد الذين تعاطفوا معي وآمنوا بقضيتي وببراءتي فقد احتشدت الحشود في مسيرة صامتة أمام السفارة الأميركية في الخرطوم وشارك ناشطون أيضًا من المجلس السوداني للجمعيات الطوعية، والهيئة العالمية لتنمية جنوب الصحراء، ومركز الخرطوم لحقوق الإنسان وتنمية البيئة، والمرصد السوداني لحقوق الإنسان، ومركز الأمل ومنظمة مبادرات تنمية المرأة والطفل.
ثم هناك الجهود الحثيثة التي تطلَّبت الكتابة والحركة والتي اضطلعت بها زوجتي العزيزة في صبر وإيمان.
وما هي إلا لحظات ويعلو صوت سجين آخر في زنزانة مجاورة في ناحية الشمال يقول لي: يا سامي سكِّت بلالًا الذي عن يمينك حتى أعالج ما أنا فيه من برد. وبالرغم من كل شيء، وجدتُ نفسي أبتسم!
كان ذلك في غوانتانامو، وغوانتانامو قصتي؛ أنا السجين رقم (345). نعم، غوانتانامو قصَّتي وقصة أكثر من ثمانمائة سجين. كل واحد منهم عاش التجربة على نحوٍ ما، دونما ريب متشابه، دونما ريب مختلف!
غير أن العطفة الحادة التي ملأتني مع الألم إيمانًا وقوة عقلية ونفسية أوضحت بل أكدت لي أن في دواخل كلٍّ منَّا قوى هائلة تظل كامنة حتى نقدح فيها شرارة الصمود؛ لكي تندلع ثم تشتعل ويشتد أوارها فَيَلْتَهِم كل المثبطات ويقضي على كل ريح مناوئة.
ولقد قدحتُ هذه الشرارة يوم بدأت رحلتي إلى عالم الجوع البدني والامتلاء الرُّوحي؛ وإنه لحق أنه ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان.
فكَّرت مليًّا من قبل أن أضع إرادتي على حدِّ الرهان بالدخول في إضراب طويل وتام عن الطعام. ثم إنني قررت وأعلنت القرار.
كنت أقهر وحدتي بذكر الله الذي هو معنا حيث ما كنَّا، وفي ذات الوقت أُحجِّم مطالب الجسد بلجام الروح.
لم أكن على علم بأنني لم أكن وحدي؛ فالجزيرة كانت تستصحب اسمي ومحنتي على نحوٍ يومي، بل بثَّت ونشرت شعارها الذي ملأ الدنيا: "أطلقوا سراح سامي الحاج". كان الشريط الإخباري يعيد على الشاشة الأكثر حضورًا وشهرة اسمي حتى ملأ الدنيا وشغل الناس. وقد عرفت يوم إطلاقي أن أخي وضاح خنفر، الرجل الأول في الجزيرة، قطع زيارة عمل مهمة لكي يصل إلى مطار الخرطوم قبل وصول طائرتي وليكون أول المستقبلين.
حقًّا إنني ممتنٌّ وفخور بهذه المؤسسة التي تعاملت معي طوال محنتي كابنها، ليس على سبيل المجاز وإنما بالفعل؛ فهي التي لفتت أنظار العالم لعدالة قضيتي بل إنها جعلت من تغطيتها الإعلامية وسيلة ضغط هائلة حرَّكت المؤسسات والمنظمات المعنية بقضايا حقوق الإنسان لكي تنشط وتعمل في أركان الدنيا الأربعة.
ثم حولت التغطية إلى حملة دولية رسمية جعلت على رأسها في قطر د. فوزي أو صديق الذي لعب دورًا كبيرًا في التنسيق مع هيومان رايتس وتش وآمنستي ومنظمة العون المدني العالمية التي لعب فيها الأستاذ حسن سعيد المجمَّر دورًا كبيرًا، كذلك المكتب الدولي للجمعيات الخيرية والإنسانية بفرنسا الذي قاد الجهود فيه د. هيثم مناع، ثم هناك منظمة الكرامة لحقوق الإنسان بسويسرا التي أولاني الاهتمام فيها د. رشيد مصلي، إضافة لجهود كل من د. عادل جاسم الدمخي رئيس جمعية المقومات الأساسية لحقوق الإنسان بالكويت وخالد الأنسي المدير التنفيذي لمنظمة هود باليمن وعاصم قرشي مدير منظمة سجناء الأقفاص بلندن.
ولعل الدور القانوني كان له تأثير كبير بما أبرزه من دفوع قدَّمها محامون مقتدرون عملوا إمَّا لحساب قناة الجزيرة أو اتحاد المحامين السودانيين أو القانونيين المختصين في المنظمات الناشطة في مجال حقوق الإنسان.
إضافة لجهود الأفراد الذين تعاطفوا معي وآمنوا بقضيتي وببراءتي فقد احتشدت الحشود في مسيرة صامتة أمام السفارة الأميركية في الخرطوم وشارك ناشطون أيضًا من المجلس السوداني للجمعيات الطوعية، والهيئة العالمية لتنمية جنوب الصحراء، ومركز الخرطوم لحقوق الإنسان وتنمية البيئة، والمرصد السوداني لحقوق الإنسان، ومركز الأمل ومنظمة مبادرات تنمية المرأة والطفل.
ثم هناك الجهود الحثيثة التي تطلَّبت الكتابة والحركة والتي اضطلعت بها زوجتي العزيزة في صبر وإيمان.
لكم أشعر بأني مدين لكل أولئك الذين عملوا من أجلي وآمنوا بعدالة قضيتي، هأنذا أجلس وحيدًا أُصغي لصدى أنفاسي ونبض قلبي... مع كل شهقة وكل زفرة، مع كل نبضة ينثال منِّي الشكر جداولَ للجزيرة التي كانت وظلَّت الوالد العطوف الودود المثابر، كذلك شكري لكل المنظمات التي قامت مقام الأم ولكل الأفراد الذين عملوا من أجلي في أصقاع العالم المختلفة فصعدوا حقّا لمرتبة الإخاء.
إنني الآن أقوى مما كنت عليه، أكثر تسامحًا وأكثر صحبة ورفقة في سكون هذا الليل العربي الحنون في المدينة التي أحب: الدوحة.
أسمع لغناء الطائر وأذكر أيام ألمي وشقائي وتعذيبي من قِبل رجال قساة القلوب، قساة الوجوه. لقد سلبوا منِّي أجمل الأيام، أجمل الأسابيع، أجمل الشهور وأجمل السنوات دونما ذنب جنيتُه. لكنني هزمتهم بفضل عزيمتي التي منَّ بها عليَّ المولى عزَّ وجلَّ في حالك الليلات وطاعن النهارات، هو المولى الذي ألهمني الصبر على تحمُّل الجوع والأذى طوال أيام إضرابي عن الطعام، يا لها من أيام!
وغرَّد الطائر الليلي عند نافذتي يقول لي: أنا ههنا. وهبَّت نسمة رائقة من نسمات الخليج العربي تحمل دفء موجه الشفيف.
في الحلقة التالية، سأحكي لكم ما غصَّت به أيام تعذيب وآلام وصمود طويل.
إنني الآن أقوى مما كنت عليه، أكثر تسامحًا وأكثر صحبة ورفقة في سكون هذا الليل العربي الحنون في المدينة التي أحب: الدوحة.
أسمع لغناء الطائر وأذكر أيام ألمي وشقائي وتعذيبي من قِبل رجال قساة القلوب، قساة الوجوه. لقد سلبوا منِّي أجمل الأيام، أجمل الأسابيع، أجمل الشهور وأجمل السنوات دونما ذنب جنيتُه. لكنني هزمتهم بفضل عزيمتي التي منَّ بها عليَّ المولى عزَّ وجلَّ في حالك الليلات وطاعن النهارات، هو المولى الذي ألهمني الصبر على تحمُّل الجوع والأذى طوال أيام إضرابي عن الطعام، يا لها من أيام!
وغرَّد الطائر الليلي عند نافذتي يقول لي: أنا ههنا. وهبَّت نسمة رائقة من نسمات الخليج العربي تحمل دفء موجه الشفيف.
في الحلقة التالية، سأحكي لكم ما غصَّت به أيام تعذيب وآلام وصمود طويل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق