جدة وأم وطفلة.. ثلاث
قصص لـ "ميدان" تحكي
ما الذي يعنيه أن يُعتقل والدك وأنت طفل!
عائشة، وسارة، وسلمى، ثلاثة أسماء مستعارة لحكايات غير مستعارة، الأولى تحكيها عائشة، سيدةٌ على مشارف العقد السادس من عُمرها، اعتُقل والدها لمدة عشر سنوات خلال الفترة 1965-1975، أي في عهد نظام عبد الناصر والسادات. والثانية سارة، شابةٌ في مقتبل عامها الثلاثين، اعتُقل والدها لفترات قصيرة متقطعة خلال فترة مبارك، والثالثة سلمى، طفلة في السابعة، ما زال والدها معتقلا لمدة تقارب العام خلال حكم السيسي، ما يجمعهن هو أن ثلاثتهن عايشن تجربة اعتقال الأب في سن السادسة.[1]
في هذا التقرير، نرصد في "ميدان" حكاياتهن عن كثب، ونسرد على لسان أصحابها مشاعر مكثّفة. ثلاثة أجيال، بثلاث قصص، ومشاهد مشتتة من لقطات تمتلئ بالشاعرية، في مكان لا يمكن وصفه بالشاعريّ؛ في المعتقل، حكاياتٌ أبطالها أطفال دون السابعة، تتنوع ما بين غرفة الزيارة، وقفص المحاكمة، وقضبان السجن، وغرف التفتيش، حكايات تمتد مع الأطفال في نومهم ويقظتهم، وتمتد معهم لحاضرهم، وتستدعيها الذاكرة وتبعثها باستمرار، كأنما حدثت بالأمس.
القصة الأولى: عائشة والقلب الذي ما زال ينبض
"لسه فاكرة يوم الاعتقال ده جدا، البيت مليان عساكر فوق وتحت ومش فاهمة فيه إيه، أوضة المكتبة مقلوبة، الكتب فوق وتحت، صورة الأوضة المقلوبة راسخة في ذهني جدا، وصورة أمي وعمتي وهما بيعيطوا وبابا بينادي علي يقولي تعالي، ويبوسني، كنت مستغربة الموقف ومن كتر ما أنا مستغربة كنت حاسة بتوهان، وطول العشر سنين فضلت أحلم باليوم اللي هيطلع فيه"
هكذا استهلت عائشة حكاياتها لـ "ميدان" عن تجربتها كطفلة لمعتقل حُكم عليه بمؤبد، ليُخفف لاحقا إلى عشر سنوات. تمتلك عائشة ذاكرة من شمع رهيف، منطبعة عليها تجربة اعتقال أبيها في صور لم تنمحِ أبدا، فرغم أنها الأكبر سنا بين إخوتها، فإنها كانت الأكثر استحضارا لتجربة الاعتقال رغم مرور ما يقرب من أربعة عقود عليها، فما زالت دموعها تغالبها حينما تحكي بعض المشاهد.
طيلة فترة اعتقال أبي، كان نومي مضطربا، وكنت أحلم بالكوابيس، أستيقظ فزعة من النوم، لأخبرهم أنه ثمة رجل خلف الباب
عائشة هي الطفلة الأولى لأبيها، رُزق بها على كبر، فقد تزوج في الأربعين، فرح بقدومها كأن لم ينجب أحدٌ فتياتٍ غيره، كان يوقّع كل خطاباته بــ "أبو عائشة"، تعلقت به كثيرا، فمنذ ولادتها لم يكن ينشغل عن اللعب معها وتدليلها، وتقول لـ "ميدان": "بعد اعتقاله بقيت انطوائية، وبقيت لوحدي"، لعائشة أبناءٌ وأحفاد، اعتُقل زوجها وخرج، لديها الكثير من أسباب الانشغال في هذه الحياة، ولكن، لا شيء يُنسي طفلة مرارة حرمان عشرة أعوام، من أب حنون محب.
تسرد عائشة لـ "ميدان" تفاصيل زياراتها وتقول:
"أوضة الزيارة متوسطة مش كبيرة، وفيها كمية من الناس غير طبيعية، زحمة أول مرة أشوفها، ومن كتر الزحمة كل واحد بينادي على أولاده، بابا بينادي بصوت عالي وبعصبية، وأنا مش عارفة أوصل له، لما وصلت كان فيه حاجز سلك بيننا وبينه، وهو واقف فوق عشان أشوفه، وبينادي عشان يناولني البونبوني، وكل اللي كان في ذهني وقتها هو طلع فوق إزاي كده! الموقف ده مش بيروح من دماغي، ولما أفتكره مش بقدر أمنع نفسي من البكاء، وما بحبش أتفرج على فيلم الكرنك لحد دلوقتي لأنه تجسيد مكثف للقطة دي"
ومن ذكريات الزيارة، كنا أنا وإخوتي ثلاثة أطفال "محشورين في أتوبيس زحمة على حجر ماما"، أخي كان عمره عاما ونصفا عند اعتقال أبي، أما أختي الصغيرة، فلم تكن قد أكملت عامها الرابع بعد، وفي إحدى المرات قررت أختي أن تهدي والدنا وردة، لكنها حينما اقتربت منه، خافت من مظهر لحيته وملامحه التي لم تكن قد أدركتها تماما، فابتعدت عنه خائفة، ولم تعطه الوردة.
كنا نتنقل بين سجن طرة وسجن المزرعة والسجن الحربي، أما السجن الحربي فقصته عجيبة، لم أكن أعرف أنه السجن الحربي إلا بعدما كبرت وتزوجت وذهبت مع أبنائي إلى معرض الكتاب، وفي طريقنا إلى زيارة أحد الأقارب بعد المعرض، عرَّجنا إلى مكان لم أتبين ملامحه، فأنا عادة لا أميز معالم الأماكن ليلا، ولكنني حينما اقتربت من هذا المكان، شعرت بارتعاشة في جسدي وبعض الاضطراب وانقبض صدري، فسألتهم: "هنا كان فيه معتقل؟"، فأجابوني: "نعم، السجن الحربي كان هنا"، فعرفت أننا كنا نأتي لزيارة أبي في هذا المكان.
سجن طرة
لم تكن الزيارة بائسة إلى هذا الحد، فقد أحببت الشوكولاتة بفضل المعتقل، حيث كانت تُوزع علينا بسخاء في الزيارة مع الكاسترد المصنوع بمربى العنب الذي كان يعده أبي لنا بنفسه في محبسه. كانت الزيارة صالونا ثقافيا كذلك، حيث دأب شاب صغير من المعتقلين مع والدي على تنظيم لقاءات معنا نحن أطفال المعتقلين، ليعقد لنا حلقات مراجعة وتحفيظ للقرآن ويصحح لنا الأخطاء اللغوية والإملائية، أذكر أنه في إحدى المرات خاطبني قائلا:
لم تكن الزيارة بائسة إلى هذا الحد، فقد أحببت الشوكولاتة بفضل المعتقل، حيث كانت تُوزع علينا بسخاء في الزيارة مع الكاسترد المصنوع بمربى العنب الذي كان يعده أبي لنا بنفسه في محبسه. كانت الزيارة صالونا ثقافيا كذلك، حيث دأب شاب صغير من المعتقلين مع والدي على تنظيم لقاءات معنا نحن أطفال المعتقلين، ليعقد لنا حلقات مراجعة وتحفيظ للقرآن ويصحح لنا الأخطاء اللغوية والإملائية، أذكر أنه في إحدى المرات خاطبني قائلا:
"يا عائشة لا تكتبي تحياتي الحارة في مستهل خطابك
لأبيك، فالحارة تحمل في معناها الألم"
تكمل عائشة رواية قصتها لـ "ميدان": لم تكن فترة المعتقل على صعوبتها لتمر دون صمود أمي، لم نر يوما دمعة لها، ربما كانت تشكو، ولكنّي لم أرها يوما تشكو أمامنا، انقطع راتب أبي بعد دخوله المعتقل مباشرة. حينها، لم يكن أبي وحده، حيث أُلقي القبض على عمي كذلك، لتفقد العائلة المُعيل تماما، امتد الأمر ليُعتقل أصدقاءُ أبي كذلك، وعليه، أصبحنا بمفردنا تماما، بلا عائل. في الشهر الأول، جاءت إحدى زوجات أصدقاء أبي، والذي كان معتقلا أيضا، إلا أن راتبه لم ينقطع بعد، لتقتسم تلك المرأة راتبها مُناصفة مع أمي، رغم أن أولادها يفوقوننا عددا. ما زلت أدينُ لها فضل هذا الموقف.
أما أمي، فقد أخذت قرارا حينذاك أن تعمل بالخياطة، وظلت تخيط ملابس أهل القرية من الطبقات الوسطى، أبناء العمدة وغيرهم، وساعدها في ذلك أنها تحملت مسؤولية إخوتها سابقا بعد وفاة والدها، وتعلمت الخياطة منذ الصغر مع عمتها، فأنفقت علينا وعلمتنا الخياطة وبيع البيض، وأغدقت علينا بعطائها ورعايتها واهتمامها بمظهرنا، مما جعلنا مميزين، فلم نذهب يوما المدرسة بثياب رثة أو حذاء غير نظيف. كنت أذهب إلى امتحانات الصف السادس الابتدائي كل يوم بفستان غير الآخر، مما جعلني مميزة في المدرسة ومعروفة، وذلك عائد لمظهري المُعتنى به، وتفوقي الدراسي.
أغلقت أمي علينا باب الاختلاط بالآخرين، عدا أهلها وأهل والدي، كانت تشد على أخي الأصغر، فلم تكن تسمح لنا باللعب في الشارع كبقية الأطفال لحرصها وخوفها علينا، وحتى لا يقال إننا "تربية ست". مرت والدتي بمواقف صعبة كثيرة خلال فترة اعتقال أبي، فقد تحملت عناء الزيارات من استخراج تصاريح الزيارة، حتى تحضير الطعام وإعداده من الليل حتى يكون باردا في الصباح، لم تغضب أو تحنق، ولم يرتفع صوتها مع إلحاح إخوتي الصغار، كنا نمشي مسافة 2-3 كيلوات في الأتربة حتى نصل لبوابة السجن، فيبكي إخوتي الصغار، فتلهينا، انظروا إلى هذه الطائرات وحركات الجنود في المعسكر القريب من السجن.
تحملت أمي سخافة الجنود، ففي إحدى الزيارات، رفض الضابط أن ندخل دون تصريح الزيارة، لكنها أصرّت على الدخول، ودخلنا. في زيارة أخرى أخبرها أحدهم متعديا عليها بخسة قائلا: "كيف تنفقين على أبنائك؟! ولا تقولي لي إن ربنا بيرزق"، راميا إياها باتهامات، فكانت ترد بثبات: "ربنا بيرزق". أما الأزمة الأشد، كانت حينما سقط بيتنا على رؤوسنا ونحن نيام، تجمع أهل القرية وانتشلونا، لم يُصب أحد بسوء، ولكن أهل القرية شاهدوا صفائح الكتب التي تحت البيت، ولحرصنا على ألا ينقلها أي شخص لا نعرفه، ظن بعضهم أن هذه الصفائح تحتوي على أموال، وراجت هذه الإشاعة في القرية. وبالفعل قام بعض الأشخاص من قريتنا بالانقضاض على عمي وزوجته ومحاولة ذبحهما للحصول على هذه الأموال، اتُّهمت والدتي في هذه الجريمة افتراء وبهتانا، لأنها خاطبت العُمدة بشدة، واستهجنت عدم توفيره الأمن حتى غرق عمي وزوجه بدمائهما، ورغم صعوبة الموقف، عادت إلينا سريعا.
ما زال يتراءى أمامي مشهد والدتي وانا أخاطبها بأن نذهب كالمعتاد لزيارة جدتي في الإجازة الصيفية، ولكنها كانت تؤجل الموعد حتى تبيض الدجاجات، فيكتملَ عدد البيض، لتبيعها لإخوتها دون أن تخبرهم أنها من دجاجات المنزل، حتى لا تُحرج منهم. لم يكن أحد سوى أهل والديها يعرفون قضية والدها وأسباب اعتقاله، فثمة تعتيم إعلامي عن المعتقلين فترة عبد الناصر، ولم يكن كثير من فئات المجتمع تدري شيئا عما يحدث في المعتقلات، فكان بعض من أطفال المعتقلين يقومون بهذا الدور الإعلامي، وعائشة أحد هؤلاء.
جواب لرئيس الجمهورية: كيف كان أطفال المعتقلين جهازا إعلاميا لنقل القضية؟سنوات من التعب، هكذا وصفت عائشة ما عانته لـ "ميدان"، ولكنّا -بحسب ما تروي عائشة- عرفنا كيف نحمل هم القضية وأن نرفض الظلم، فقد أشركني أبي في القضية، وأخبرني بضرورة أن أنقلها للمدرسة، واظبت فترة على تنفيذ ما يقوله لي بحذافيره، فقد طلب مني الآتي:
ذهبت مرتين لأمن الدولة بسبب جوابي لرئيس الجمهورية، فقد كنا نحن، أطفال المعتقلين، بمنزلة الجهاز الإعلامي الحامل للقضية
ظللت طيلة المرحلة الإعدادية أواظب على كتابة الجواب نفسه بالصيغة نفسها، حتى لقيَ صداه عند السادات، وبالفعل، فقد ذكره السادات في إحدى خطبه في مجلس الشعب، قائلا بأن ابنة من أبنائي كتبت لي تخبرني بأن أباها في المعتقل مريض بالروماتيود لا يجد الدواء سوى الأسبرين، الأمر الذي انعكس لاحقا على طبيعة تمرير الدواء للسجناء المرضى. وكنت قد ذهبت مرتين لأمن الدولة بسبب هذا الجواب، فقد كنا نحن، أطفال المعتقلين، بمنزلة الجهاز الإعلامي الحامل للقضية. لم أشعر يوما بالخجل أو العار لأن والدي قابع خلف القضبان. كانت أمي تردد على مسامعنا حكايات عدّة، مثل مواجهات أبي الشُّجاعة، وصموده أمام محاكمة الدجوي، القاضي المعروف بجبروته، فبينما أنكر الكثيرون انتماءهم للإخوان، أخبره أبي بشجاعة أنه وزوجه وأبناءه ينتمون للإخوان.
وبعد حرب أكتوبر ٧٣، ظللنا ننتظر لحظة خروجه، وهي اللحظات التي استمرت لعامين خلال عهد السادات. حينما خرج والدي، كان عصبيا، فلم يكن يعرفنا، كان ذلك طبيعيا، دخل المعتقل ونحن أطفال، وخرج ونحن بالغون، ظن أبي أنني ظللت تلك الطفلة التي تركها قبل اعتقاله، فأخذ يعاملني على هذا الأساس، فينتظرني أمام البيت بعد عودتي من المدرسة ليحضنني، ويسألني: "تعرفين كيف تُلبيسن كيس المخدة؟!". كنت أستغرب من ردود الفعل هذه، أيظنني طفلة! بالطبع أعرف كيف ألبس كيس المخدة! أخذ الأمر عامين أو أكثر قليلا حتى تأقلم على وجودنا، واستعدنا حضوره. استلم أبي وظيفته مرة أخرى، كان عدم عمله ضاغطا على أوضاع الأسرة، مساهما في زيادة عصبيته، ولكن الأوضاع هدأت فيما بعد.
مُدَّ في عُمُر أبي، فرأى أحفاده، وحفيدي الأول، وكان يعاملهم بحنو شديد، معوضا فيهم ما لم يعِشهُ معنا، كأبنائه. مرت السنوات ولم تُمح هذه الذكريات، حينما اعتُقل زوجي منذ فترة قريبة، لم أستشعر الغصَّة نفسها، ففي فترة اعتقال والدي: "كنت حاسة إني طفلة صغيرة تايهة، آلة بتروح المدرسة، وترجع من المدرسة، وأعمل اللي بابا يقول عليه، وأروح الزيارة، مكنش فيه حاجة تشغلك، تحس إنه فيه حاجة ناقصاكي، حتة راحت منك، فين مش عارفة، لما بنكبر ننشغل أكتر".
الفارق بيني وبين والدتي حينما اعتُقل زوجي أننا كنا أفضل في الوضع المادي، فلم اضطر للعمل، ولم تطل مدة اعتقال زوجي سوى أشهر معدودة، بعكس أبي، ولكن الصعوبة في تجربة اعتقال زوجي كانت أن أمضى شهرين مختفيا قسريا لا نعرف أين هو؟ هل يأكل؟ كيف ينام؟، ولكن حينما تعرضت لهذه التجربة مع زوجي، اكتشفت أنني قد تعلمت الثبات من أمي.
ثمة مفارقة أخرى هنا، بين عائشة وابنتها، فبينما رأت عائشة، ولا تزال، أن اعتقال والدها بطولة، وتسرد بحماسة ممزوجة بفخر مآثر أبيها في المعتقل وقدرته على صناعة كل شيء داخل المعتقل من علب الأدوية الفارغة، حتى إنه استطاع عمل جهاز لصديقه باحث الدكتوراه في كلية العلوم، فإن ابنتها لم تر في اعتقال أبيها -زوج عائشة-، وهي الفتاة التي تقف على أعتاب الثلاثينيات، سوى مهانة، وأن التفاعل مع الأحداث الحالية في مصر يعدّ مخاطرة، لا يتحملها الشخص نفسه فقط، ولكن تتحمّلها الأسرة بأكملها. انتهت عائشة من قصتها ولم تنته ظلال التجربة عليها. ومن عائشة ننتقل إلى سارة التي تشاركنا في "ميدان" تجربتها كطفلة صغيرة خلال فترة التسعينيات، وهي التي شاهدت اعتقال والدها لفترات قصيرة متقطعة خلال حكم مبارك.
استهلت سارة حديثها لـ "ميدان" بضحكة هادئة ونبرة أكثر عقلانية، كمن يتخذ مسافة من حدث مرَّ به من سنوات مضت، قائلة: إن الحديث عن مِلَف أطفال المعتقلين أضحى رفاهية في الوقت الحالي، في السابق كان ثمة اهتمام بحقوق أطفال المعتقلين وإبراز الجانب الإنساني من حيوات القابعين خلف الأسوار لأسباب سياسية، ولكن حاليا، الأمر أصبح مختلفا، نحن نتحدث عن الأب المختفي قسريا، نتحدث عن الحق في أن نعرف مكانه ونتأكد هل ما زال حيا أم لا؟ سقف التوقعات أصبح شديد الانخفاض، ولكن عن تجربتي كفتاة على مشارف العقد الثالث، ولدت وكَبُرت وعشت في تجربة غياب الأب لفترات متقطعة في المعتقل، فما زلت أذكر بعض التفاصيل وبالتأكيد نسيت تفاصيل أخرى.
ولكني لا أنسى المرة الأولى التي اعتُقل فيها والدي، كان ذلك في 1996، كنت في الصف الأول الابتدائي، أي في عمر السادسة، جلس أبي معنا يحدثنا عن الاعتقال، وسألنا هل نقبل أن يكون "بابا" شيطانا أخرس؟ فقد كان يتوقع أن يتم اعتقاله، وجلس معنا يمهّد لنا ما يعلم أنه سيحدث، ويشركنا في القضية. لم تكن القضية مجرد انتماء تنظيمي، ولكن ما ترسخ في نفسي منذ هذه اللحظة كان أكبر وأعمق أثرا، وهو قضية العدل والظلم، يمكن أن نختلف فكريا وسياسيا وأيديولوجيا، ولكن لا يمكن أن نقبل الظلم. فلا أقبل السكوت عن الحق، وكنت أغضب ممن يفعل ذلك، وأستاء منهم، وحينما كبرت أدركت أن للبشر طاقات واسعة في إعلاء الحق ورفض الظلم، ولكن إن لم يمتلك البعض القدرة على إعلاء كلمة الحق، فلماذا ينكرونه! إنكار الحق ما زال يؤذيني نفسيا.
لم تكن المرة الأولى في الاعتقال الذي لم يستمر سوى بضعة أشهر هي الأصعب، ولكنها المرة التي حُفرت في ذاكرتي بكل تفاصيلها، المرة الأصعب كانت حينما كنت في الجامعة، عقب فض اعتصامي رابعة والنهضة، ما أغضبني فيها أن الجنود الذين اقتحموا المنزل كانوا في مثل عمري، أي إنهم شاهدوا الظلم بأنفسهم وعايشوا الثورة، وصدقوا أن هناك مَن قَتل أصدقاءهم، أخبرتهم -حينما لم أتصور أنهم قد يلقون القبض على الفتيات كذلك- بأن لديهم الحق في البحث عمن قتل صديقهم، ولكنهم لن يجدوا في منزلنا أسلحة، وأننا لم نؤذ أصدقاءهم.
قوات الأمن المركزي في مصر
الواقع بالنسبة إلى سارة كما تروي لـ "ميدان" أشد وطأة، فحجم الاعتقالات الحالية لا يقارن بما كان عليه في فترة مبارك، حاليا، الكثيرون إن لم يكونوا معتقلين فإنهم مطاردون أو مهاجرون، ومن يقطن بالخارج فإنه لا يملك من السعة النفسية التي تسنده للتعامل مع مِلَف مهم كالأطفال. هنا تقول سارة: "ليس السيئ حدوث التجربة، ولكن الأسوأ غياب المحاضن الاجتماعية".فهذه المحاضن الاجتماعية هي التي يمكن أن تساعد الأطفال على تجاوز أزمة غياب الأب، سواء كان المحضن مُتمثّلا في الأسرة أو العائلة الممتدة أو أصدقاء المسجد أو المدرسة. اليوم، أصبح المجتمع أكثر هشاشة، وروابطه أكثر تفككا، وقيمه الأخلاقية في تدهور مستمر، كما أن الواقع الاقتصادي العام يجعل الناس في حالة من اللهث والجري المستمر للوفاء بالمتطلبات الأساسية، مما يضاعف من تأزم الأطفال. وفي ظل ازدياد حالة الخوف والكراهية السائدة في المجتمع، فلا يشعر أبناء المعتقلين أنهم مقبولون اجتماعيا، ويظهر ذلك إما عبر كراهية فعلية، وإما خوفا من التعامل معك، وهذا الأمر لم يكن موجودا بشكله الحاد والمُكثّف كما في السابق.
تذكر سارة أن ثمة عوامل مؤثرة في وقع تجربة اعتقال الأب على الأبناء، وهي: المرحلة العمرية، وكيف رأيت نفسك في الحدث، هل اعتبرت نفسك جزءا من القضية التي اعتُقل الأب لأجلها، أم تعاملت معه باعتباره حادثا فُرض عليك قسرا من الخارج، وليس أمرا مختارا، وبالتالي فالتفاعل النفسي مع الضرر المترتب على هذا الاختيار سيكون مختلفا. هناك أطفال يرفضون الزيارة لأنهم لا يرون أنفسهم جزءا من القضية، ويشعرون بالحنق والغضب لقرار أبيهم وخياراته التي فرضت عليهم تحمل مسؤوليتها. وكذلك الكيفية التي تم بها نقل الموضوع، وأسبابه، والتعامل الأسري معه.
بالتسعينيات، كان ثمة أفق متوقع في التعامل مع القضايا، سواءٌ العسكريةُ أم المعروضةُ على القضاء العادي، والمحامون قادرون على التنبؤ بإجراءات التقاضي مثلا، أما اليوم، نحن لا نتوقع شيئا
تؤكد سارة، أن ثمة فرقا بين مدد الانقطاع القصيرة وفترات الاعتقال الطويلة، ويعتمد على طبيعة وحضور الأب داخل الأسرة، هل كان حضوره مؤثرا ومعتادا أم ماذا؟ ففترات الاعتقال الطويلة الممتدة أصعب، أما الخروج والدخول المتقطّع، وعلى رغم صعوبته، وأنه لا يجعلك تعتادين الأمر، ولكنه لا يقارن بالغياب الطويل. فالخروج والدخول المتكرر متعب، حيث يتعرض الفرد للتجربة ذاتها كل مرة، والتكرار هنا لا يجعلها معتادة، لكن ومن جهة ثانية، فإن المعتقل في هذه الحالة لا يخرج ليفاجأ بتغيرات كبيرة طرأت على الواقع من حولِه، فيصبح أكثر قدرة على استيعاب التغييرات والتفاعل معها، فهو مثلا لم يترك أطفاله رضّعا، ليعود ليجدهم في المرحلة الابتدائية مثلا!
ووفقا لسارة، فالتسعينيات تعد فترة رخاء مقارنة بالأوضاع الراهنة، فتقول لـ "ميدان": "خلال فترة التسعينيات وسنوات الألفية الأولى، كان ثمة أفق متوقع في التعامل مع القضايا، سواءٌ العسكريةُ أم المعروضةُ على القضاء العادي، والمحامون قادرون على التنبؤ بإجراءات التقاضي مثلا، أما اليوم، نحن لا نتوقع شيئا، ربما نتوقع الأسوأ فحسب. أغلب القضايا كانت تأخذ أحكاما تتراوح بين 5-7 سنوات، و7 سنوات أقصى مدة، فما زلت أذكر اليوم الذي حكم فيه على أبي بخمس سنوات وكنت أبكي، فخاطبني صديق أبي المجاور له في القفص ضاحكا بسخرية: 5 سنين عربيات رايحة وجاية، عايزاها سنة؟ والبنزين اللي اتصرف؟".
هذه القدرة على التوقع، كانت تساعد على تهيئة الأطفال لما هو قادم، وبالتالي ما يترتب عليه من قدرة على التعامل مع تجربة الاعتقال، أما الوضع غير المفهوم وغير المتوقع يجعل الأسرة في حالة قلق مستمر، وعدم استقرار، الأمر الذي ينعكس على سحب السعة النفسية للتعامل مع الأطفال داخل الأسرة. لا يبدو من تجربة سارة أنها تركت تأثيرا سلبيا عليها بحد تعبيرها، فهي لم تتعرض لهشاشة نفسية نتجت عن غياب الأب مقارنة بتجربة اعتقال أخيها الأصغر، رغم أنها لم تعد طفلة حين اعتقاله. كما أن فترة اعتقال والدها المتقطعة كانت تسمح بالتواصل معه، وما صاحب فترة الاعتقال من إمكانية الزيارة، ومشاركته لكل تفاصيل حياتها.
ننتقل من التسعينيات، لنصل للفترة الحالية، ففي حديث لـ "ميدان" مع أم لثلاثة أطفال، الكبيرة لم تكمل السابعة من العمر، والثانية 3 سنوات ونصف، والثالثة كانت تبلغ شهرين ونصف وقت اعتقال الأب، ولصعوبة التواصل مع الأطفال مباشرة، فضلنا التواصل مع الأم، وهذه هي التفاصيل كما روتها. تحكي الأم: طفلتي سلمى ذات السبعة أعوام، لم تفهم الأمر منذ اليوم الأول، فقد تعاملت معه ببعض الهدوء، والكثير من الكتمان، الأمر في ذهنها له بداية ونهاية، الأب سيغيب ولكنه سيرجع، ونحن في انتظار عودته، تتعامل مع الحدث بنضج كأنها فتاة كبيرة.
ولأن الأب ظل مختفيا لفترة، فكانت سلمى تُوجه لي الكثير من الأسئلة مثل: كيف ينام؟ ماذا يأكل؟ لماذا لا يجعلك تقابلينه؟ أسئلتها تدور حول التفاصيل الدقيقة، هل أكل؟ وماذا أكل؟ هل هناك سرير لينام عليه بمراتب نظيفة؟ أشعر كأنها أم تسأل بقلق على ابنها. ولكن ثمة ملاحظات أراها في تعامل سلمى مع الأمر، أنها تحيطه بقدر كبير من السرية، يخالطها شعور بالخجل والعار إزاء هذا الاعتقال، أعرف ذلك من عدم رغبتها في الزيارة، لأنها ستضطر للغياب عن المدرسة، وإذا غابت فإنها لن تعرف كيف تجيب على أصدقائها حينما يسألونها عن سبب الغياب، ففي يوم جاءت لتسألني أن صديقتها سألتها عن والدها، فقالت لي: هل أذكر لها الحقيقة؟ فقلت لها وما الحقيقة؟ قالت: "إن بابا في السجن"، فأدركت أنها ترى الأمر باعتباره حدثا له خصوصية لا يجب أن يعرفه الجميع، ولا يمكن الحديث معه مع أي أحد.
تحكي الأم لـ "ميدان" عن تفاعل سلمى مع أجواء الاعتقال والزيارات، فهي تخاف من الشرطة والمحاكم، لأنها ترى بعض الجنائيين، وأن مظهرهم يجعلها "مخضوضة". بالتأكيد، لا يقتصر الشعور بالخضة والانقباض على الأطفال وحدهم، ولكن على الكبار كذلك، فما بالك بالأطفال.
تدرك سلمى أن هذا المكان به الكثير من الممنوعات والمسموحات، فقبل أن تخرج كراستها لترسم بينما ننتظر زيارة الأب، تقول لي: "ماما ينفع أرسم هنا؟ ماما ينفع أطلع آكل؟".
في المرة الأولى التي رأت فيها سلمى والدها، كان لقاء مؤثرا، لم أكن معها، اللقاء لم يتعدّ الدقيقتين، لأنه لم يكن قد رُحّل بعد. في مدة لا تتجاوز الثواني المعدودة، قابلت سلمى والدها أثناء تسليمه الطعام والملابس في القسم، وحينما عادت، حكت لي الواقعة، كان ممهدا لها أنه لا ينبغي أن تمسك به، وأن تُلقي السلام عليه سريعا، مخافة أن تمسك به وتبكي، فيتأثر والدها.
جاءت سلمى لتخبرني عقب هذا اللقاء الأول بعد ثلاثة أشهر من غيابه قائلة: "والله ما ممسكتش فيه، هو اللي مسكني ومكنش عايز يسبني وحضني كتير، وقلت له إحنا كويسين يا بابا وماما كويسة، قلت له كده عشان يطمن عليكي".
تشير الأم في حديثها لــ "ميدان" إلى معاناة الزوجات، ففي المرة الأولى التي ذهبتُ للزيارة وجدتُ الحجرة الواسعة تمتلئ بالنساء، عادة مئتا سيدة في الحجرة تقريبا، فالأزواج هم المعتقلون بالداخل، وقليلا ما نصادف أخا أو أبا أو زوجا، فالزوجات والأمهات يأتين لزيارة ذويهم. شاهدت زوجات يحملن أكثر من أربعة أطفال ويتحملن "زنّهم" المستمر في مكان غير آدمي ورغبتهم في النوم أو دخول دورات المياه غير الآدمية كذلك، ويحملن معهن الكثير من الأغراض على أيديهن، ويظهر عليهن ملامح الشقاء، كثيرات منهن من الطبقات الفقيرة، وريفيات
كما أنها تتعامل مع تصورات الأطفال الساذجة عن السجن، فبعضهم يقول لها، كيف تتحدثين مع والدك وهو يقف خلف القضبان، فتخبرهم أنها تلتقي به في غرفة، ولكن الأطفال أصغر من تصور الأمر بواقعيته، فيرون السجن كالصورة المتداولة عنه: رجل يقف خلف قضبان حديدية. ليس هذا السبب الأوحد الذي يجعل سلمى ترفض في بعض المرات الإتيان معنا للزيارة، ولكن لأن الزيارة مجهدة للأطفال، نحن ننتظر بالساعات حتى نلقاه، ونخضع لإجراءات قاسية في التفتيش، وفي إحدى المرات طلب الضابط منها أن تخلع حذاءها كبقية الزائرين منعا لدخول الهواتف أو تسريب أي شيء داخل السجن، فما كان منها إلا أنها بكت بكاء شديدا رافضة أن تخلع حذاءها، ولكن الجندي أصر، فرفضت القدوم معنا في الزيارة التالية
تشير الأم في حديثها لــ "ميدان" إلى معاناة الزوجات، ففي المرة الأولى التي ذهبتُ للزيارة وجدتُ الحجرة الواسعة تمتلئ بالنساء، عادة مئتا سيدة في الحجرة تقريبا، فالأزواج هم المعتقلون بالداخل، وقليلا ما نصادف أخا أو أبا أو زوجا، فالزوجات والأمهات يأتين لزيارة ذويهم. شاهدت زوجات يحملن أكثر من أربعة أطفال ويتحملن "زنّهم" المستمر في مكان غير آدمي ورغبتهم في النوم أو دخول دورات المياه غير الآدمية كذلك، ويحملن معهن الكثير من الأغراض على أيديهن، ويظهر عليهن ملامح الشقاء، كثيرات منهن من الطبقات الفقيرة، وريفيات
كما أنها تتعامل مع تصورات الأطفال الساذجة عن السجن، فبعضهم يقول لها، كيف تتحدثين مع والدك وهو يقف خلف القضبان، فتخبرهم أنها تلتقي به في غرفة، ولكن الأطفال أصغر من تصور الأمر بواقعيته، فيرون السجن كالصورة المتداولة عنه: رجل يقف خلف قضبان حديدية. ليس هذا السبب الأوحد الذي يجعل سلمى ترفض في بعض المرات الإتيان معنا للزيارة، ولكن لأن الزيارة مجهدة للأطفال، نحن ننتظر بالساعات حتى نلقاه، ونخضع لإجراءات قاسية في التفتيش، وفي إحدى المرات طلب الضابط منها أن تخلع حذاءها كبقية الزائرين منعا لدخول الهواتف أو تسريب أي شيء داخل السجن، فما كان منها إلا أنها بكت بكاء شديدا رافضة أن تخلع حذاءها، ولكن الجندي أصر، فرفضت القدوم معنا في الزيارة التالية
تحكي الأم لـ "ميدان" عن تفاعل سلمى مع أجواء الاعتقال والزيارات، فهي تخاف من الشرطة والمحاكم، لأنها ترى بعض الجنائيين، وأن مظهرهم يجعلها "مخضوضة". بالتأكيد، لا يقتصر الشعور بالخضة والانقباض على الأطفال وحدهم، ولكن على الكبار كذلك، فما بالك بالأطفال. تدرك سلمى أن هذا المكان به الكثير من الممنوعات والمسموحات، فقبل أن تخرج كراستها لترسم بينما ننتظر زيارة الأب، تقول لي: "ماما ينفع أرسم هنا؟ ماما ينفع أطلع آكل؟". في المرة الأولى التي رأت فيها سلمى والدها، كان لقاء مؤثرا، لم أكن معها، اللقاء لم يتعدّ الدقيقتين، لأنه لم يكن قد رُحّل بعد. في مدة لا تتجاوز الثواني المعدودة، قابلت سلمى والدها أثناء تسليمه الطعام والملابس في القسم، وحينما عادت، حكت لي الواقعة، كان ممهدا لها أنه لا ينبغي أن تمسك به، وأن تُلقي السلام عليه سريعا، مخافة أن تمسك به وتبكي، فيتأثر والدها. جاءت سلمى لتخبرني عقب هذا اللقاء الأول بعد ثلاثة أشهر من غيابه قائلة: "والله ما ممسكتش فيه، هو اللي مسكني ومكنش عايز يسبني وحضني كتير، وقلت له إحنا كويسين يا بابا وماما كويسة، قلت له كده عشان يطمن عليكي".
تشير الأم في حديثها لــ "ميدان" إلى معاناة الزوجات، ففي المرة الأولى التي ذهبتُ للزيارة وجدتُ الحجرة الواسعة تمتلئ بالنساء، عادة مئتا سيدة في الحجرة تقريبا، فالأزواج هم المعتقلون بالداخل، وقليلا ما نصادف أخا أو أبا أو زوجا، فالزوجات والأمهات يأتين لزيارة ذويهم. شاهدت زوجات يحملن أكثر من أربعة أطفال ويتحملن "زنّهم" المستمر في مكان غير آدمي ورغبتهم في النوم أو دخول دورات المياه غير الآدمية كذلك، ويحملن معهن الكثير من الأغراض على أيديهن، ويظهر عليهن ملامح الشقاء، كثيرات منهن من الطبقات الفقيرة، وريفيات.
رأيت زوجة في شهور حملها الأخيرة غابت أسبوع الولادة، وأتت لتحمل رضيعها على يديها ليرى والده، ولم تكن قد شُفيت تماما. رأيت أطفالا إناثا في الثامنة والعاشرة، من كن بشعورهن ثم ارتدين الحجاب، يُهدئ أبوهن من روعهن، ويطمئنهن كل مرة بعد ثوانٍ من انتهاء الزيارة. شاهدت زوجة لديها طفلة تبلغ عامين، وفي كل مرة تمسك هذه الطفلة بوالدها وتبكي، فتبكي الأم بعد انتهاء الزيارة على بكاء صغيرتها التي لا تستوعب شيئا سوى أنها لا تريد أن تترك حضن والدها، ورأيت صبيا في الخامسة من العمر، يفتح كل مرة ذراعيه ليحضن والده، وغيرها الكثير من المشاهدات، التي لم أعتدها رغم تكرارها.
حينما رأيت هذا البؤس، أشفقت على نفسي، لأنني سأعاني معاناتهن نفسها، وقررت لفترة ألا أحمل أطفالي معي للزيارة حتى لا أتعرض لذات الضغوط، ولإصرار زوجي على عدم القدوم بهم في هذا المكان، رغم اشتياقه لهم. وبالفعل، لم أره يبكي سوى في المرة الأولى التي جاءت فيها الطفلة الأصغر إليه، كان يخشى أن تمسك في حضنه وينتزعونها منه عنوة، ولا يستطيع حينها أن يفعل لها شيئا، فرفض أن تأتي، حتى كانت المحاكمة، وهو داخل القفص، فأدخلتها له، ولم يكن الأمر سيئا كما توقع.
دركت أهمية أن يرى الأبناء والدهم، وضرورة أن يحضر الأب في حديثنا اليومي، فغيابه المفاجئ أثّر عليهن، ففي حديث طفلتي الأصغر مع جدها، حينما سألها ما اسمك، قالت اسمها واسم جدها مباشرة دون ذكر لأبيها، فأخبرها وأين اسم ابيك، فأخبرته لقد كان موجودا في البيت، ولكنه لم يعد يأتي البيت. فغيابه جعلها -وهي الطفلة التي لم تكمل عامها الرابع بعد- تحذفه من اسمها حتى يأتي، ومنذ هذه اللحظة بدأت باصطحابها للزيارة معي.
تشير الأم إلى أهمية التواصل عبر الهاتف، حتى لو لثوانٍ محدودة يوميا، ولكن كثير من السجون لا تسمح بدخول الهواتف، فحينما انتقل زوجها لسجن آخر، مُنع من التواصل عبر الهاتف، فانقطع التواصل معه سوى من خلال ساعة الزيارة، مما جعل الأمر أكثر صعوبة، فتقول:
"التيلفون والمكالمة دقيقتين حاجة يومية بتفرق عن انقطاع التليفون، مفيش تليفونات، فده صعب، عدد التليفونات أقل من عدد الناس المهولة جوه فمش سهل تاخد تليفونات، كنا اتعودنا على التواصل معه وكنا بنحس بقرب معين، منع التليفونات فكرني بفترة الاختفاء، أسبوع كامل غايب، ومش بنتواصل إلا يوم الزيارة، بنقول الحمد لله فيه ناس مختفية من يوم الفض، إحنا أفضل حالا"
ترى الأم أن سن الطفل مهم في تلقي تجربة اعتقال الأب، وليس السن فحسب، وإنما شخصية الطفل/ة نفسها، فتقارن بين أعمار أطفالها، إحداهن ما زالت رضيعة فلا تستوعب من الحدث شيئا، ولكن الأصعب في تلقي التجربة طفلتها ذات الثلاث سنوات ونصف، والتي لم تكن تستوعب الأمر تماما في مثل هذه السن، ولكن الطفل يكبر ويتسع إدراكه. في البداية، لم تكن طفلتها ذات الأربع سنوات تستوعب سوى غياب مفاجئ وغير مبرر لوالدها، لم تكن قد رأت العساكر وهم في البيت، كانت نائمة وهذه نقطة مهمة، ثم بدأت تسألها عن هذا الغياب بعد فترة وعن مكانه، ولماذا أخذوه؟ وكيف أخذوه؟
تعامل والدهم السلس مع التجربة ينقل للأطفال هذا الشعور بالأمان، فنحن لا نُخفي عنهن الحقائق ولا نترك أسئلتهن بدون إجابات، ولكن والدهن يعطيهن الإجابات السهلة الممتنعة، فتسأله الأصغر: "بابا هتيجي امتى البيت؟"، فيرد عليها قائلا: "هقعد شوية وآجي". وفي مرة ثانية سألته عن الكلبش الذي في يديه، فيجيب -ببساطة-: "ده عشان أنا وعمو (العسكري) ما نمشيش من بعض"، هذا العسكري يعرض عليه بالطعام والشراب، ويخبرها: "ها شفتي عمو اسمه ايه؟"، وتجري حوارا تلقائيا معه في وضع معتاد حتى لا ينتقل للأطفال أن هذا المكان مأزوم.
الأطفال لا يعبرون عما بداخلهم بتلقائية، علينا أن نمهد لهم ونتحدث في المشاعر التي نظن أنهم يعايشونها كالخوف وفقدان الأمان، ونساعدهم على التعبير عنها، كما أن الهدايا التي يصنعها والدهم لهم تساعدهم على التواصل معه. الطفل يحتاج إلى رؤية والديه حتى لو دقائق معدودة في اليوم، وحتى لا يستسيغ هذا الغياب ولا يعاني فكرة افتقاده، يمكن أن نربطه به دوما، بالحديث عنه، باستدعائه في التفاصيل اليومية في الحياة: أثناء شراء احتياجات المنزل، عند الطعام، عند الخروج للنادي، "هنستأذن بابا في فعل كذا"، وهكذا يحضر معنا. وتبتسم الأم وتواصل قائلة: "لقد ارتبط الدعاء عند صغاري بالدعاء بخروج والدهم، فبعد كل صلاة يقولون: "يلا يا ماما ندعي لبابا ييجي بالسلامة"، وحينما تمطر يهتفون: "يلا ندعي لبابا"، وفي مرة كنت أدعي لشيء تافه مثل ألا تتأخر صديقتي علي، فردت الطفلة الأصغر بتلقائية: "يلا ندعي لبابا يخرج".
من آثار تجربة الاعتقال السلبية عليهن أن طفلتي الأصغر صارت انطوائية قليلا، طعامها ومنامها قلق، لأننا غيرنا المبيت في بيت آخر أول فترة الاعتقال، مما صعب عليها التأقلم في ظل هذه التغيرات الفجائية، فليس سهلا على طفلة أن تستوعب غيابا فجائيا لأب كان يدللها، يقضي معها ساعات معدودة ولكن حضوره مكثف. أما الآن، وبعد التحدث معها والإصغاء إليها ومساعدتها للتعبير عما بداخلها، أصبحت أفضل، ولكنها ما زالت تخاف من فكرة الشرطة.
ومما لاحظته أنه إذا كانت الأم صامدة، بَدَا أطفالها متماسكين، فقد تعرفت على زوجة معتقل صابرة مبتسمة ومتفائلة، فرأيت هذا الهدوء المنطبع على وجهها ظاهرا في أولادها، أما الأم الهشة الجزعة، فإنها تنقل هذا الشعور بالجزع والهشاشة لأبنائها. لكن علينا أن نعي أن الأم تقبع تحت ضغط هائل وتحتاج إلى مساعدات مادية ومعنوية، وتحتاج إلى توعية حول كيفية التصرف، وكيف تجيب عن أسئلة أبنائها، تحتاج إلى من يساعدها في الترفيه عن الأطفال، وفي حال لم تجد زوجة المعتقل من أهلها أو أهل زوجها الدعم الكافي وتضيق بالمكوث في بيوتهم، فإنها ستلزم بيتها حتى تصبح في حالة نفسية أفضل وأكثر استقرارا.
فثبات الأم هو ما يجعل الأطفال أسوياء، ولكن في أول فترة اعتقال زوجي كنت في حالة نفسية سيئة للغاية، كنت مدمرة، ولم أكن أعرف أين هو لمدة شهر ونصف، كنا نتعامل على أنه أمر مؤقت، وأنه سيعود سريعا، هذا الأمل والقلق والانتظار لم يساعدني على التفاعل مع مشاعر الأطفال والاستجابة لها، شعور التعلق بأن القضية الفارغة ستنتهي حتما بعد التجديد لـ 45 يوما أو عند العرض على النيابة، أو بتغيير القاضي، ثم لا جديد يحدث، لا معايير واضحة للمحاكمة ولا أفق عقلانيا يوضح كيف تسير الأمور، فبدأت التعامل بنفسية أنه أمر سيطول، ومن هنا بدأت ألتفت لاحتياجات أطفالي. وكانت هذه إحدى النصائح الجيدة التي تلقيتها من زوجة أحد المعتقلين، حينما أخبرتني: "لا توقفي الحياة، دعي الحياة تستمر كأنه أمر دائم، لا توقفي شيئا انتظارا لعودته، لأن هذا يجعل الأمر أكثر تعقيدا والحياة أكثر صعوبة".
ساعدني زوجي كذلك على التعامل بهذه النفسية، ألا أوقف سير الحياة على عودته، ووضع خططا طويلة الأمد لتعليم سلمى الرسم والحساب، كان يصر على هذا، أن الحياة لن تتوقف عندي في محبسي ولا تتوقف عندنا في الخارج، وهذه إستراتيجية ناجحة، فالانتظار مخيف. وبحسب الأم فالأمر صعب، ولكن صعوبة التجربة تختلف بحسب دور الأب، وشكل وجوده قبل الاعتقال في البيت كذلك.
لا نريد من خلال رصد هذه التجارب الثلاث الوصول إلى تعميم عن أوضاع الأطفال في حالة غياب الأب، لأن استجابة الأطفال مختلفة في الأسرة الواحدة نفسها، ولكن ثمة تأكيد على أكثر من أمر، وهو أن الطفل يدرك كل شيء حوله، ولغياب الأب تأثير قوي عليه، وأن الأم هي الأساس في تعامل الأطفال وتجاوزهم للأزمة من عدمها، وتقوم الأم في هذه الحالة بأربعة أدوار: دور الأب، ودور الأم، ودور العائل، ودور من يراعي الأب في أزمته. كما أن هذه القصص الإنسانية تسعى لتسليط الضوء على مساحة عادة لا يُنظر لها باهتمام، عن المشاعر التي تغمر أطفال المعتقلين وأهليهم، وعن الطريقة التي يتعاملون بها مع اعتقال والدهم. وتبقى آلاف ومئات الآلاف من القصص التي تحيط بنا، والتي لم تُروَ، ويقاسي أهلها بصمت، بانتظار الفرج، يوما ما.
هوامش:
[1] هذه الأسماء مستعارة للشخصيات الثلاث حفاظا على خصوصيتهن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق