الأحد، 10 نوفمبر 2019

من يخاطب المسيري ورفاقه؟!

 من يخاطب المسيري ورفاقه؟!


محمد جلال القصاص
باحث دكتوراة علوم سياسية
 انتهيت في مقال سابق (لماذا لم يستفد الإسلاميون من مدرسة المسيري؟) إلى سؤالٍ يبحث عن المستفيد من الخطاب النقدي للمنظومة الغربية الذي يقدمه الدكتور عبد الوهاب المسيري ومدرسة إسلامية المعرفة، أو: إلى من يتجه الدكتور المسيري ورفاقه بخطابهم؟؟

اختصر الإجابة د. علي جمعة في تعليق له على ورقة بحثية تمثل صلب ما قدمه الدكتور عبد الوهاب (كانت عن النماذج كأداة تحليلية)، قال: (ما يقدمه المسيري نقد للمنظومة الغربية من داخل المنظومة الغربية ولصالح المنظومة الغربية).

وما قاله علي جمعة صواب ولكن حين ندقق النظر في السياق والمآلات التي خرج فيها عبد الوهاب والمسيري ورفاقه نجد أمورًا أخرى أكثر أهمية، وأوضح ما عندي في نقاط على النحو التالي:

أولًا: المنظومة الغربية تطور نفسها من خلال النقد، وما قدَّمه دكتور عبد الوهاب هو تيار داخل المنظومة الغربية؛ والسياق العام للنقد عندهم -والذي تشكل فيه وعي المسيري بالمنظومة الغربية في نهاية السبعينات وبداية الثمانينات- هو تفكيك الإلحاد الذي لا يؤمن بالله (الإلحاد الأسود/ المادية الصلبة/ الحداثة/ الوضعية Positivism) لصالح الإلحاد النسبي (الإيمان النسبي/ إدخال القيم كبعد فلسفي في فهم الظواهر الطبيعية والاجتماعية/ ما بعد الحداثة/ النسبية). ويمكن مراقبة هذا التحول من خلال الجدال بين المنظورات الكبرى والذي انتهى إلى النسبية أو استقرار المنظورات ذات الأبعاد القيمية بجوار المنظورات الوضعية. فالدكتور عبد الوهاب واكب فترة انحسار السلوكية (التحليل الإمبريقي) وظهور المنظورات ذات الأبعاد القيمية داخل الغرب (المدرسة الإنجليزية والبنائية وتمدد المدرسة النقدية -الفرانكفونية الألمانية-)، وعامة أفكار المسيري تطوير -أو إعادة تصنيع- لأفكار النقديين من الغربيين كما يذكر هو، ولا أقول بأنه ينقل عنهم كما يدعي بعض من لا يتدبرون بل يطور في أفكارهم ويضع المعلومات في أطر نظرية خاصة به.

المقصود أن نقد المنظومة الغربية شيء طبعي عندهم. بل مفيد لهم، ونقل عنهم، فالنقد عندهم أداة لتطوير الواقع والإفادة منه وليس هدمًا كما نفسره نحن، وما بعد الحداثة (النسبية) ترحب بكل من ينتقد وتفسح له مجالًا حتى ولو كان يتحدث من (منظور حضاري إسلامي) فهي تستوعبه، بل وترحب به وتضعه -مع غيره- في حليها الذي تتزين به لترسم مشهدًا فوضويًا يشارك فيه الجميع ويتحرك لأهداف الماديين!!

وأيضًا ثمة ملاحظة أخرى شديدة الأهمية، خلاصتها أن للنقد عندهم فائدة كبرى تتمثل في الاستجابة لتطور الواقع، بمعنى أن أغلب النقد تفاعل مع الواقع ومحاولة للإفادة من التطورات التي حدثت بالفعل. فحين يتغير الواقع يتجهون لنقد المنظورات القديمة وما انبثق عنها من نظريات تفسيرية وتطبيقات عملية ويستحدثون غيرها مواكبةً للواقع الجديد. فهم ينقدون أنفسهم للتصحيح، أو الهدم وإعادة البناء، ولذا ينخدع كثير من الإسلاميين بما يصدر من بعض المفكرين الغربيين عن خلل في دولةٍ ما أو عن قرب أُفول الحضارة الغربية، فهذه كلها أقوال نقدية تستهدف دلالة السياسيين والتنفيذيين على مواطن الخلل من أجل التصحيح، ولا أريد الاسترسال لأن المقام مقال، فقط أريد الإشارة إلى سذاجة من يستحضر أقوال مفكري الغرب عن أفول الحضارة الغربية ثم يوهم نفسه بأنهم لملموا أغراضهم واستعدوا للرحيل مع أنهم عمليًا يجتاحون العالم وهضموا أمما بأكلمها ومع أن مجتمعاتنا الإسلامية تتطور في اتجاه الانحلال الخلقي والديني كما هو حالهم.

هذا هو سياق المنظومة الغربية كما يبدو لي، وتتحرك بعنف في اتجاه معاكس للإيمان وتدفع الذين بداخلها دفعًا إلى حيث لا يعلمون، ولا يوجد عوائق لهذا التطور المستمر؛ و ذلك أن كليات الغرب (القيم الفلسفية) مرنة وتتطور هي أيضًا؛ ولا يوجد ثابت عندهم غير الكفر بالله وما أنزل على رسله. ولن يتوقف هذا التطور المنفلت إلا بالمؤمنين بالله وما أنزل على رسوله -صلى الله عليه وسلم-.

ثانيًا: استخدمت بعض المنتوجات الفكرية للدكتور عبد الوهاب ورفاقه في مد الجسور بين العلمانية والصحوة الإسلامية، تحديدًا أطروحة (العلمانية الجزئية). وهذا توضيح بما يناسب مقال:

يستهدف الخطاب العلماني دفع الحالة الصحوية في اتجاه قبول العلمانية، ويسمون هذا النوع من الخطاب بالخطاب الإصلاحي؛ والعقبة الأكبر التي تواجههم هي عدم التفات الصحويين لهذا الخطاب لا بالاطلاع ولا بالنقد والتحليل فضلًا عن القبول، فالحالة الصحوية مغلقة تتمدد فكريًا وعدديًا من الداخل للخارج؛ وحالات التغيير في أطر وتوجهات الصحوة داخلية.. ينصتون لأبنائهم ولمن تخلى عن العلمانية والتزم درب الصحوة كسيد قطب، وأما الذين بالخارج فيرتابون منهم ويهاجمونهم كأشخاص ويعرضون عن بضاعتهم ويتهمون من ينصت إليهم بالابتداع.

وتتعامل الصحوة مع أسئلة العلمانية برجماتيًا، فهي تحاول استخدام أدوات العلمانية من أجل تحقيق أهدافها هي والتي تتمحور حول استئناف الحياة الإسلامية من جديد، ولا تدخل الإيجابيات على أسئلة العلمانية في دائرة الفلسفات، ولذا يظهر ازدواجية في الخطاب فتتحدث عن الديمقراطية بخير في المحافل العامة وتلعنها في بيتها حال حديثها مع أبنائها، وتتحدث عن الوطن والوطنية بخير في المجال العام وبين أبنائها تقول بقول ربها: (أمتكم أمة واحدة) أو تبتدع دليلًا من التاريخ بالقول أن الإسلام عرف الدول ضمن إطار الأمة، ومن يقول بهذا يعلم قبل غيره أن الدولة القومية لا هي من الدين ولا من التاريخ وإنما أداة علمانية قاطعة حارقة.

وفي الفجوة بين الصحوة والعلمانية تقف العلمانية الجزئية التي تحدث عنها الدكتور عبد الوهاب، وهي -بشكل ما- توافق أطروحات الإصلاحيين في الأزهر الشريف (تجمعت أفكارهم في كتاب الإسلام شريعة وعقيدة للشيخ محمود شلتوت). ومؤخرًا ظهرت أوراق بحثية تدعو إلى تفعيل أطروحة العلمانية الجزئية من أجل تطوير الخطاب الصحوي، بمعنى جذب الحالة الصحوية للعلمانية عن طريق قنطرة (العلمانية الجزئية)، أو للمنطقة الوسط التي يقف فيها إصلاحيو الأزهر والإسلام الحضاري وإسلامية المعرفة وما اتصل بهما، وخاصة بعد تبني فكرة الجابري القادمة من الغرب بإعادة قراءة التراث من جديد.

ثالثًا: عدم وجود مساحة مشتركة حقيقية بين (إسلامية المعرفة/ الإسلام الحضاري) وباقي الصحوة الإسلامية مع حاجة كل منهما للآخر. ويظهر ذلك بالنظر في مستوى الخطاب (المستوى النظري) وبالنظر في المستوى العملي التطبيقي؛ في مستوى الخطاب كلاهما لا يتحدث للآخر إلا مجاملةً أو يحاول أن يسحبه لمنطقته.. كلاهما ينادي على صاحبه (اركب معنا)؛ وفي المستوى التطبيقي ثمة حالة تجاهل واستعلاء متبادل، وتباين في المواقف العملية، ولعل آخرها انتخابات 2012 حيث انضم الإسلام الحضاري للتيار العلماني ذي النكهة الإسلامية (حزب أبو الفتوح) رفقة حزب النور!!، وحين جاء الدكتور مرسي للحكم دعموه قليلًا ثم انسحبوا سريعًا، والحديث عن التيار ككل لا عن أفراد.

ولا أخطئهم جملةً.. فعلى المستوى الشخصي أقف بين سيد قطب وعبد الوهاب المسيري، خرجت من بين هؤلاء ولم أدخل على هؤلاء. والله أسأل رشدًا وعزيمة على الرشد.

نظرة عامة:
ألخص أهم ما يمكن رصده من خلال النظرة العلوية للمشهد في نقاط على النحو التالي:

أولًا: البحث عن من أصاب ومن أخطأ في حد ذاته خطيئة. فالحقيقة موزعة، والأشخاص لهم وعليهم، والسياقات لها نصيب كبير في تشكيل الأفكار والمواقف، والخلاف أقرب لتنوع في التخصص منه للتضاد؛ فنحن أمام فريقين يحتاج كل منهما الآخر.

ثانيًا: غير صحيح أن النبي -صلى الله عليه وسلم- أهمل التحديات الخارجية، فالنظرية التي صاغها الأستاذ سيد قطب واجتهد في الحفر حولها وتجليتها من بعده الشيخ عبد المجيد الشاذلي، أخذت فكرة النمو العضوي مشوهةً. فالنموذج الأول للدعوة لم يغفل التحديات الخارجية حال نموه، والجميع يعرف أن الخطاب الدعوي في مكة غير الخطاب في المدينة، والخطاب في المدينة تدرج، وقد نقل الأستاذ سيد قطب عن ابن القيم ذلك في مقدمة فصل الجهاد في المعالم. كما أن أمر الهجرة ارتبط بزوال اللبس عند عامة الناس، قد كانت مفارقة ليعلم الناس أنها ليست خلافًا داخليًا في قريش. ولو أن التحديات الخارجية لا قيمة لها، ولو أنه يكفي فقط وجود اثنا عشر ألف مسلم كما ذكر الأستاذ سيد قطب في المعالم وهو يتحدث عن المجتمع المسلم أو اثني عشر رجلًا كنوحٍ -عليه السلام- وأصحابه -كما ذكر أبو مصعب السوري في شرائط (الجهاد هو الحل) لواجه النبي الجميع وهو في مكة أو بعد الهجرة!!

بل كان الوعي بالتحديات الخارجية شديدًا. ومن منظور فقهي بحت نجد أن جل الأشياء تعتريها أحكام التكليف الخمسة، فلا شيء يتمحض وجوبًا أو تحريمًا، حتى النطق بكلمة الكفر يباح أحيانًا، ما يعني مراعاة التحديات الخارجية في سياق بنائي تقدمي لا في سياق تراجعي انهزامي.

وللحديث بقية إن شاء الله

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق