الجمعة، 22 نوفمبر 2019

سوانح قرآنية (1)

سوانح قرآنية (1)

إبراهيم بن عمر السكران


ثَمة بعض الناس فيه طيبة فطرية تدفعه للإمعان في تفهّم الناس، وهذه خصلةٌ راقية بديعة، ولكن المحزن أن مثل هؤلاء الطيبين.
الحمد لله وبعد،،
1- لا خير:

قرأ الإمام اليوم فينا آية انهمرتْ مع حروفها- أمام ناظري- كثيرٌ من السجالات الفكرية المعاصرة، وشعرتُ أن هذه الآية تجرد الكثير من هذه السجالات من قيمتها، وتحكم عليها بـ(عدم الجدوى المستقبلية)!
تأمل -بكيفية خاصة- مطلع الآية واللفظ المستخدم في التعبير، إذ يقول الله تبارك وتعالى:
{لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا}[النساء: 114].
هكذا بكل وضوح "لا خير" ..
نفي الخيرية عن كثير من أحاديث الناس وكلامهم واستثناء أمورٍ من عُدّة الآخرة، ومما يستعد به للقاء الله..
بالله عليك .. امسح بعينيك المشهد الفكري المعاصر، وسترى كثيرًا من النجوى الفكرية تضمحل تحت قوله تعالى {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ ..
يسكبون ساعات المقاهي في نقاشات فكرية متشعبة، تُسمع شرارتها الأولى وتغيب البقية وسط الضجيج ! والله يقول: {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ.. فيا ضيعة الأعمار..
2- رموز القدح والتحريف لم يعودوا أخفياء:

ثَمة بعض الناس فيه طيبة فطرية تدفعه للإمعان في تفهّم الناس، وهذه خصلةٌ راقية بديعة، ولكن المحزن أن مثل هؤلاء الطيبين قد ينزلون أحيانًا بطيبتهم في المعركة الخطأ؛ فيسبب هذا لهم أضرارًا قد تهدد مستقبلهم الأبدي.
فمن ذلك مثلاً أنك تجد في مضمار الفضائيات وأرفف المطبوعات من يبث أفكارًا فيها قدح في السنة النبوية ومصادرها المعظّمة في نفوس المسلمين، أو خوض في أعراض أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم-، أو تحريف لبعض الأحكام الشرعية المصادمة للثقافة الغربية، مثل العقوبات الشرعية التي تناقلها أهل الإسلام لكنها تنخس فِهمَ الغربيين للحرية، ومثل أحكام الجهاد والمرأة والولاء والبراء الخ. مما صار بعض الناس يحرفها تحت ضغط ثقافة المنتصر الغربي.
مثل هذا المشهد لم يعد خفيًا، ورموز القدح والتحريف لم يعودوا أخفياء أيضاً؛ بل كثيرٌ منهم خلع عمامة الحياء ونفش شعر التغريب!
ولكن المحزن أن تجد بعض الطيبين يظن بسبب نقاء سريرته أن الدفاع عن هؤلاء وأضرابهم، وتطلب الأعذار لهم، والتماس المسوغات والمبررات للتسامح معهم؛ أنه من مقتضى رحابة الصدر، وحسن الخلق، والتسامح المحمود، وحب الخير للمسلمين، ونحو هذه المعاني الجميلة.
هذا الدفاع عن أهل الأهواء دفاع خاطئ، قد يكون ناتجًا عن شعور فطري جميل لكنه وضع في غير موضعه، فصار أشبه بمن يكلم أهل البلد عن حرمة الدماء والعدو يكسر الأقفال!
وقد جاءت في كتاب الله موعظة عظيمة تهز القلوب لهؤلاء الطيبين الذين يدافعون عن من يقعون في الأحكام الشرعية، ويلتمسون الأعذار لهم، والتسامح معهم.
اِقرأ هذه الآية، وتذكر بعض المنحرفين فكريًا ممن دافعت عنهم في وجه الناهين عن المنكر، ثم تخيل أن هذا الخطاب القرآني لك، لك أنت.
والذي أنزل سورة النساء على قلب محمد -صلى الله عليه وسلم- أن هذه الموعظة في سورة النساء يقف لها القلب على أطراف أنامله.
بالله عليك اقرأ عتاب الله لبعض الطيبين الذين يدافعون عن أهل الأهواء في قوله:
{هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}[النساء:109].
تخيل فقط -لا سمح الله- أن الله يذكر منك هذا الدفاع غير المشكور{هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا }!
تخيل أن الله يذكر مجادلتك عن من يقع في أحكامه سبحانه، أو أحكام نبيه، أو في منزلة صحابة نبيه الذين -رضي الله عنهم- ورضوا عنه!{هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
كلما نازعتك نفسك الطيبة للدفاع والتسامح مع من يقعون في الأحكام الشرعية ويرققون دين الناس ويحسنون لهم المنكرات بالاحتجاج بالخلاف، فتذكر هذه الموعظة القرآنية{هَا أَنتُمْ هَٰؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَن يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
3- ترتيب الأهمية:

حولك أصحاب وأصدقاء ومعارف كثيرون، ولا شك أنهم في ذهنك مراتب ومقامات.
سأسأل نفسي، وسل نفسك: كيف رتبت أهمية أصدقائك وأصحابك مِنْ حولك؟
ولكن قبل ذلك: ما معنى ترتيب الأهمية؟
ترتيب الأهمية ينعكس على المنزلة في القلب، ونمط التعامل مع الأصدقاء، فمثلاً: تفاوت طريقة تعاملك مع اتصالاتهم، واستجابتك لطلباتهم ودعواتهم، وتوقيرهم في المجلس، ونحو هذه السلوكيات التي تتأثر جوهريًا بحجم أهمية الصديق في النفس.
حسنًا .. لنعد الآن إلى أصل السؤال: على أي أساس رتبنا أهمية أصدقائنا؟
**قد يرتب بعض الناس أهمية أصدقائه ومعارفه على أساس مدى المصلحة والمنفعة المرجوةِ منهم، فصاحب المنصب، و من يرجى منه "واسطة" إلى وظيفة أو مستشفى أو دائرة حكومية؛ يحتل الأرقام الأولى في قائمة الأهمية.. فالأرقام الأولى محجوزة لمن تقول عنهم دومًا "جايك من طرف فلان".
**وقد يرتب بعض الناس أهمية أصحابه ومعارفه على أساس الأُنس والضحك والطرفة، والانسجام، واستملاح السهرات المشتركة، والتمتع بأحاديث الطريق، ونحوها.
**وقد يرتب بعض الناس أهمية أصدقائه على أساس الاهتمام المشترك، فالمشجعون لنادي رياضي مشترك يتآلفون بينهم، وأصحاب الصيد والقنص يقربون بعضهم، وهكذا أصحاب السياحة أو النزهة البرية أو الإبل أو التجارة أو الفنون ونحوها من الاهتمامات التي يشترك فيها بعض الناس فيتآلفون بينهم وتصبح علاقتهم ببعضهم أمتن من علاقتهم بغيرهم.
هذه بعض معايير "الناس" في ترتيب الأصدقاء، ولكن ما هي معايير "رب الناس" التي عرضها لنا لترتيب أصدقائنا ومعارفنا وأصحابنا؟
حسنًا.. تأمل حياة النبي -صلى الله عليه وسلم- التي عاشها في الحجاز، فقد كان حوله كثيرٌ من الناس، فانظر صفة الصاحب التي أراد الله لنبيه أن يلزمه ويجعله الصديق المقرب، يقول الله لنبيه:
{وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ۖ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا[الكهف:28].
يا الله! أي مؤكدات هذه؟! الملازمة لحد المصابرة "واصبر نفسك" ، ثم تأكيدها بنفي الضد "ولا تعدُ عيناك عنهم"، حتى عينك لا تمل عنهم إلى سواهم! فلا تجاوزهم إلى غيرهم، وهذا منتهى الارتباط.
ومن هم؟ إنهم الذين "يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه"!
هذه مؤهلات الصديق الأكثر أهمية حسب كتاب الله.
فتش في أصحابك وأصدقائك عن المتعلقين بالله يريدون وجهه، واصبر نفسك معهم، ولا تعدُ عيناك عنهم، واجعلهم الصديق رقم (1) في قائمة الأصدقاء حسب الأهمية.
وابحث في قائمة أصحابك عن أصدقاء المصلحة، وأصدقاء الأنس؛ واجعلهم في الأهمية بعد قائمة (الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه).
4-تأمل في مدح كثيرٍ من الكتب الفكرية للشك والحيرة:

ما أكثر ما نجد في الكتب الفكرية من يفخّم شأن الشك وعدم الحسم، ويقزّم اليقين واليقينيات بل ويطالبون أن يتخلص الخطاب الديني من اليقين! ولذلك تجدهم يكثرون من ترداد مقولة (إلى المزيد من طرح الأسئلة)! فيفرحون بالأسئلة ولا يكترثون كثيرًا بحسم الإجابات! لأن الإجابة تعني الالتزام بأمرٍ ما.والسؤال المفتوح يجعل الخيارات متاحة دومًا لما هان على النفس والتذت به،والهوى المتغير ألذ من الالتزام بموقف.
على أية حال، تأمل في مدح كثيرٍ من الكتب الفكرية للشك والحيرة والأسئلة المفتوحة، وقارن كيف يعظّم الله كتابه بأنه منزّه عن الشكوك والتردد {ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ}[البقرة:2]. ويقول {وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَفِيهِ}[يونس:37]. وقال {تَنزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ[السجدة:2].
فهذا القرآن لا ريب فيه، وقضايا القرآن التي تضمنها لا ريب فيها . فأين هذا من مرضى الحيرة والمحرومين من اليقين؟!
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وصحبه

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق