والصّبح إذا تنفّس
كم مرّةً أيقظتنا أنامل الصبح ولم نلتفت لصوت أنفاسه الهادئ والساكن، يمتدّ إلى أنفسنا بلطف بالغ وحنوّ.. يهدهد مسامعنا.. يلطّف الأجواء؟ ها هو الصبح الجميل يتنفّس كلّ يوم ونحن لاهون بالضجّة، مأخوذون بالأصوات العابرة. العبرة أن نأخذ العبرة من صدى الأنفاس.. من يقظة الصبح الجميل.. أن نلتفت لتلك الأنفاس العذبة المشرقة التي توقظ قلوبنا بلطف لتسكب الدمعة في مآقيها؛ فتغسلها وتحيي الإحساس فيها وتحيينا.
كلّ شيء في الأرض يتنفّس، أحيًّا كان أم سببًا من أسباب الحياة؛ فإن فقد الأنفاس صار فراغًا وخواءً وهباءً، وظلًّا مهملًا متروكًا أقرب منه للموت لا للحياة.. الأزهار الحلوة تتنفّس.. ترسل شذاها العذب النقيّ من أثر استنشاق بهيّ لومض النور المندمج برفق وانسجام مع لمسات الدفء والعبق.
الأشجار تتنفّس.. تبعث أنفاسها الخفيفة المتمهّلة برفق وعلى هوادة؛ لتلطّف الأجواء وتبعث في الكون شيئًا طويلًا ممتدًّا من نسيم صبرها وصمودها وكفاحها وحكمتها.. شيئًا عميقًا يبقى ويمتدّ أثره ويطول أكثر وقت العتمة، حين تسطو عليه يد الليل الجافية القاسية، وتحاول قسرًا أن تخنق أنفاسه بظلامها والوحشة؛ لتمحو نوره وتجتثّه دون عطف أو رحمة.
الإنسان يتنفّس.. جسديًّا كحدّ أدنى، أو على المستوى السطحيّ فحسب.. حتّى الجلد يتنفّس! فإن فارقته الأنفاس لفترة تقشّر الجلد وتفتّت وخلّف وراءه قشورًا هشّةً واهية، تخدش الأنظار والأفئدة والسطوح والأعماق بقسوتها وجفافها من مياه الحياة.
جوفيًّا، وفي أبعد أغوار العمق، وعلى المدى الموغل البعيد، حتّى الروح تتنفّس، فإن أهملتها وأبعدتها عن تنفّس أنسام الذكر، جفّت، ومالت، وبهت بريقها، وذهب الماء وصار الجذع محنيًّا أصفر ذابلًا، كصحراء شاحبة تصبو لقطرة ماء وقد أضناها الحرّ والعطش.
حتّى الصحراء تتنفّس! مع كلّ هذا الجرد والعطش.. هي قادرة على تجديد هوائها وتبديد عطشها، ومنح نفسها فرصةً أخرى للعيش وسط كلّ هذا الجفاف والظمأ والقسوة التي تحدّق بها من كلّ جانب، وتحكم عليها قضبان الحياة، وأقفال الموت والاختناق والحريق.. قطرة واحدة من يد الله المتصرّف فيها كما يشاء قادرة على أن تعيد لها الحياة والظلّ والنفس بعد الاختناق، وتبعث فيها الدفء والنور والأنسام من جديد؛ ليحيا فيها من تداخلت أنفاسه مع أنفاسها حتّى اندمجت الأنفاس وصارت تنبض من داخلها.. قطرة واحدة من يد الله تحييها لأنّها سلّمت أمرها إليه، ولم تركن إلى الأسباب
كلّ امرء في أرضه يتنفّس.. الإنسان مرتبط بأصله وطبيعته؛ فإن فارقها كان لزامًا عليه أن يتخبّط في الاختناق والعطش، تمامًا كما الأسماك حين تفارق الماء وتلفظ الأنفاس الأخيرة بعض الوقت، قبل أن يداهمها الموت والفاجعة الكبرى بعد انقطاع النفس الأخير.
يسبح الإنسان في محيطه الذي اعتاده وتمثّله وتنفّس فيه تمامًا كما السمكة، وحين تقتلعه يد الظروف الجافّة القاحلة من أرضه ومحيطه، تجفّف ماءه، تدعوه للهجرة بلا عودة.. تضعه بين خيارين: إمّا الموت في أرض الحياة الأصليّة التي جفّ ماؤها وفسد هواؤها، وإمّا البحث عن هواء وماء عذب جديد، وإن كان لا يلائم تربته الأصليّة التي منها انبثق.
وحده الأمل بالله يبقى حافزًا للإنسان للبحث عن بقايا الماء والهواء، وتطويعه لأيّ تربة جديدة يزرع فيها ويستكمل فيها نموّه، مهما كان نوعها وأيًّا كان مصدرها.
وحده الله سبحانه هو القادر على تسخير الماء والأنفاس للإنسان كما يشاء، وجعله قادرًا على التأقلم مع كلّ بقعة يحطّ عليها أو يزورها. وحدها الثقة بالله واليقين به تؤمّن للإنسان القدرة على المضيّ والجريان دون الركود، وعلى تخطّي حاجز الركون وفترة الجفاف المرحليّ، وتهيّئه لنقلة فريدة نوعيّة، يرتوي فيها من قطرات ماء جديدة عذبة تروي عطشه؛ فيتنسّم أنفاسًا جديدة، وإن كان الاستمداد غريبًا عليه؛ فهو بالأنفاس وبالمياه الداخليّة يحيا ويتنفّس قبل الماء والهواء الخارجيّ.
أنفاس الصبح تتّصل بكلّ فرد منّا، وتشير إلى أعماقنا وحقيقتنا، وتهمس بمصيرنا ومآلنا، وتنطق سرّ خلاصنا ونجاتنا بكلّ جلاء ووضوح.. تنتزع الإجابة القصوى عن السؤال.
أنفاس الصبح هي دلالة على قدرة المرء على الإشراق من داخل نفسه تدريجيًّا؛ ليتخطّى شيئًا فشيئًا حاجز الظلمة والجفاف، إذا ما سلّم النفس وأسند الأمر كلّه لله، يسوسه ويتولّاه ويدبّره.
أنفاس الصبح لنعلم أنّ الله الحيّ وحده هو القادر على أن يوقظ الأنفاس فينا ويحيينا كما أحيا الصبح بالأنفاس؛ فأشرقت أنواره واتّقدت من بعد عسعسة الليل الطويل.
أنفاس الصبح لنوطّن أنفسنا على استمداد الدفء والنور والإشراق من الأصل، فلا نتعلّق بالأسباب العابرة الفانية التي نحسبها هي الأصل والموطن.. فالأصل هو استمداد أسباب الحياة من خالقها وصانعها، والبارئ فيها الروح.. الأصل في الإشراق أن يكون مرتبطًا بمن سوّاه وسخّره ليكون آيةً للناس، ودلالةً لهم على البارئ المبدع العظيم، القادر على إخراج الشيء من عكسه ونقيضه!
فهو سبحانه الذي {يولج ٱلّيل فى ٱلنّهار ويولج ٱلنّهار فى ٱلّيل وسخّر ٱلشّمس وٱلقمر كلّ يجرى لأجلۢ مّسمًّى}، وهو الذي {يخرج الحيّ من الميّت ويخرج الميّت من الحيّ ويحيي الأرض بعد موتها}، {ومن آياته أن خلقكم مّن تراب ثمّ إذا أنتم بشر تنتشرون}، وهو الذي {ينزّل من السّماء ماءً فيحيي به الأرض بعد موتها ۚ إنّ في ذٰلك لآيات لّقوم يعقلون}.. وهو سبحانه الذي يجعل لمن يتّقيه مخرجًا ويرزقه من حيث لا يحتسب.. هو الله وحده، مالك الملك، الخالق المهيمن، الوهّاب الرزّاق الفتّاح الذي تكمن بيده كلّ مفاتيح الفرج، وإن كان القفل مصنوعًا بلا مفتاح؛ فالله بيده الخير كلّه، وهو القادر على تفريج الكرب كلّه، ودفع البلاء وتسهيل الشدّة، وتليين الصعاب وفتح الأقفال كلّها، وتبديد الظلمات ومحو العتمة وإبلاج النور من بعد الظلمة، وهو على كلّ شيء قدير، {فسبحان اللّه حين تمسون وحين تصبحون}.
لكلّ ضيق فرج، ومن بعد الشدّة رخاء.. هكذا تتوالى النوائب والخطوب فتمحوها البشائر والمنح، ويتعاقب الليل والنهار؛ لتندفق الأنوار فيندثر العتم وتنطفئ الظّلم.. كذلك يزهق الباطل ويختفي ويذهب جفاءً؛ ليسطع الحقّ ويبقى ما ينفع الناس ويمكث في الأرض.. هكذا الإنسان يحيا ويهتدي ويفوز، حين يحيا قلبه بنور الله والإيمان، وتشرق روحه بأمر ربّها الذي سلّمت له وإليه استسلمت وخضعت وأطاعت. هكذا ننجو ونحيا ونتنفّس.
المهمّ أن يكون الماء فينا، المهمّ أن يكون الاستمداد داخليًّا ومتّصلًا بالأصل والمنبع؛ لتطمئنّ النفس، وتشرق الروح، وينبض القلب السليم ويحيا.. والأهمّ أن نعلم أن الله وحده هو مسبّب الأسباب القادر على كلّ شيء، والذي لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء.
{والصّبح إذا تنفّس}.. يا له من قسم عظيم أقسم به الله جلّ جلاله في كتابه العظيم، فيه آية للناس بيّنة عظيمة لو كانوا يعلمون، ويتدبّرون بخلق الله وآياته في الكون وفي قرآنه!
فلنجعل الصبح قدوتنا.. فليكن الإشراق فينا متّجهًا لوجهته الأصليّة والأصيلة، منبثقًا منها ومشيرًا إليها.. فلنستمدّ الأنفاس والأنوار من الخالق الحكيم سبحانه حتى نشرق ونسطع من الداخل، ويعمّ النور في الأرجاء.. في الداخل شمس مشرقة لا تغرب ولا تغيب.. في الداخل نور دافق لايخبو ولا يتبدّد.. في الداخل ماء عذب وهواء ناضر عليل لا يجفّ ولا يزول ولا ينقطع، إذا ما وطّن المرء قلبه مع الله، وسلّم الأمر ليد الله.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق