حين ينتفض العاديّون
من هونغ كونغ شرقاً إلى الجزائر غرباً، ومن فرنسا شمالاً إلى تشيلي جنوباً، ينتفض العاديون من أجل التغيير. وتبدو انتفاضاتهم كما لو كانت موجةً عالميةً ترفض الأسس التي يقوم عليها النظامان الاقتصادي والاجتماعي حالياً. وإذا كان ثمّة تشابه بين هذه الموجة وتلك التي سبقت قبل عقد، إلا أنها هذه المرة تبدو أكثر إصراراً وتحدّياً للأوضاع القائمة، وسعياً نحو تغييرها.
ملاحظات عدة يمكن رصدها فيما يخص الانتفاضات الحالية التي يشهدها العالم. أولها يتعلق بالمنخرطين والفاعلين في هذه التظاهرات، وهم في الأغلب أناسٌ عاديون، ليس لديهم خلفية سياسية بالمعنى المباشر، خرجوا من أجل التعبير عن مطالبهم، بعدما فقدوا الثقة في الطبقة السياسية في بلدانهم، سواء في السلطة أو المعارضة. أي أنهم جاءوا من الهامش السياسي، وليس من المركز الذي كان يحتكر السياسة عقودا، ولعل هذا ما يشكل مفاجأة كبيرة للسياسيين والباحثين على حد سواء. وهو ما يذكرنا بما كتبه الباحث السوسيولوجي، آصف بيات، قبل عقد حول "العاديّين" الذين سوف يغيّرون العالم، خصوصا في منطقة الشرق الأوسط. هؤلاء العاديّون انتقلوا فجأة من الهامش إلى المركز، وليكونوا في قلب الحدث، بحيث أصبحوا محلّ الاهتمامين، الإعلامي والسياسي، ويحاولون فرض مطالبهم وأجندتهم على ذلك "المركز" الذي تجاهلهم وهمّشهم، حتى ثاروا ضده وعليه.
ثانياً، ثمّة إصرار لدى هؤلاء العادّيين على عدم العودة إلى ديارهم من دون تحقيق مطالبهم، خصوصا الاقتصادية والاجتماعية، حتى لو تطلّب الأمر استمرار التظاهر والبقاء في الشارع أسابيع وشهورا، بل وحتى سنوات كما الحال مع تظاهرات "السترات الصفراء" التي بدأت قبل حوالي عام في فرنسا، ولا تزال تحتل وسط باريس. ففي هونغ كونغ والجزائر، ومن قبلهما السودان، وصولاً إلى العراق ولبنان حالياً، لا يزال المتظاهرون يخرجون إلى الشوارع والميادين المهمّة من أجل الاعتراض على سياسات حكوماتهم وقراراتها. وذلك على الرغم من القمع والقتل والعنف الذي يتعرّضون له، وراح ضحيته عشرات، سواء في هونغ كونغ أو العراق، ومن قبلهما في السودان الذي استمرت انتفاضته من ديسمبر/ كانون الأول 2018،
وحتى تحقيق مطالبه في أغسطس/ آب 2019، وهي ظاهرة تستحق التوقف والدراسة، حيث أنها تذكّرنا بمظاهرات الحركات الحقوقية والمدنية والطلابية التي ظهرت أواخر الستينات، وامتدت حتى منتصف السبعينات، وساهمت في تغيير مجتمعاتٍ عديدة في أوروبا وأميركا.
ثالثاً، ثمّة تكتيكات متنوعة وجديدة يلجأ إليها هؤلاء العاديّون في احتجاجاتهم وتظاهراتهم. وفضلاً عن تكتيكات الاحتجاج وأساليبه المعروفة، كالتظاهر والاعتصام والإضراب، فهناك أساليب مغايرة، كاحتلال الشوارع والميادين، واستخدام التكنولوجيا في المناورة مع السلطات، وتوظيف وسائل التواصل الاجتماعي من أجل التغلب على عمليات المراقبة والتضييق التي تمارسها الحكومات عليهم. ولعله سبب رئيسي لصمود هذه الاحتجاجات أسابيع وشهورا قدرتُها على ابتكار وسائل وأدوات جديدة للاحتجاج، تضع السلطات في موضع المدافع أكثر من المهاجم.
رابعاً، لا توجد قيادة مركزية للتظاهر والاحتجاج. ويعتمد العاديّون على الحراك اللامركزي سواء قيادياً أو جغرافياً. وهي ظاهرة بدأت في احتجاجات 2011 التي لم يكن لها قيادة واضحة، وهو ما ساهم في نجاحها في إطاحة أنظمة الفساد والاستبداد، بغض النظر عن المآلات لاحقاً. ففي التظاهرات الحالية في لبنان أو العراق أو هونغ كونغ أو فرنسا، لا توجد قيادة أو زعامة محدّدة للحراك، وإنما توجد قيادات ميدانية يقتصر دورها على تنظيم الفاعليات والتحرّكات على الأرض، وليس التحدّث باسم الجمهور. وهو ما يعكس نضجاً ووعياً بمآلات احتكار الزعامة أو التحدث باسم الجماهير مدخلا لاستقطاب الحراك وتدجينه وإفراغه من مضمونه. ولكن ذلك لم يمنع من ظهور قيادات عفوية وطبيعية من قلب الحراك ذاته، أصبحت ضميره ونبضه وجاهزة للدخول في تفاوض مع السلطات، وذلك كما حدث في الحالة السودانية التي انبثق منها تكتل "قوى إعلان الحرية والتغيير" الذي وُلد في قلب الانتفاضة الثورية، وخرجت منه قيادات تلقائية تفاوضت مع العسكر، وساهمت في وضع خريطة المرحلة الانتقالية.
أخيراً، بينما يهيمن الاقتصادي والاجتماعي على مطالب المحتجين والمتظاهرين شرقاً وغرباً، إلا أن هناك وعيا واضحا بعلاقتهما بالسياسي، ودوره في وصول الأوضاع إلى ما هي عليه الآن. لذا لا يوجد فصل في مطالب التغيير بين الأمرين. بل على العكس يرى العاديّون المنتفضون أن السياسي هو أصل المشكلة، سواء تعلّق الأمر بالفساد أو بغياب العدالة الاجتماعية أو بالبطالة وغياب الخدمات الأساسية، كالصحة والتعليم والمعاشات.
أما المدهش، حتى الآن، فهو قدرة هؤلاء "العاديّين" على تغيير قواعد اللعبة، وتحويل الهامش إلى مركز، والمركز إلى هامش، بل وإجبار المركز على الانصياع لمطالبهم، وأهمها احترام إرادتهم وكرامتهم.
ثانياً، ثمّة إصرار لدى هؤلاء العادّيين على عدم العودة إلى ديارهم من دون تحقيق مطالبهم، خصوصا الاقتصادية والاجتماعية، حتى لو تطلّب الأمر استمرار التظاهر والبقاء في الشارع أسابيع وشهورا، بل وحتى سنوات كما الحال مع تظاهرات "السترات الصفراء" التي بدأت قبل حوالي عام في فرنسا، ولا تزال تحتل وسط باريس. ففي هونغ كونغ والجزائر، ومن قبلهما السودان، وصولاً إلى العراق ولبنان حالياً، لا يزال المتظاهرون يخرجون إلى الشوارع والميادين المهمّة من أجل الاعتراض على سياسات حكوماتهم وقراراتها. وذلك على الرغم من القمع والقتل والعنف الذي يتعرّضون له، وراح ضحيته عشرات، سواء في هونغ كونغ أو العراق، ومن قبلهما في السودان الذي استمرت انتفاضته من ديسمبر/ كانون الأول 2018،
ثالثاً، ثمّة تكتيكات متنوعة وجديدة يلجأ إليها هؤلاء العاديّون في احتجاجاتهم وتظاهراتهم. وفضلاً عن تكتيكات الاحتجاج وأساليبه المعروفة، كالتظاهر والاعتصام والإضراب، فهناك أساليب مغايرة، كاحتلال الشوارع والميادين، واستخدام التكنولوجيا في المناورة مع السلطات، وتوظيف وسائل التواصل الاجتماعي من أجل التغلب على عمليات المراقبة والتضييق التي تمارسها الحكومات عليهم. ولعله سبب رئيسي لصمود هذه الاحتجاجات أسابيع وشهورا قدرتُها على ابتكار وسائل وأدوات جديدة للاحتجاج، تضع السلطات في موضع المدافع أكثر من المهاجم.
رابعاً، لا توجد قيادة مركزية للتظاهر والاحتجاج. ويعتمد العاديّون على الحراك اللامركزي سواء قيادياً أو جغرافياً. وهي ظاهرة بدأت في احتجاجات 2011 التي لم يكن لها قيادة واضحة، وهو ما ساهم في نجاحها في إطاحة أنظمة الفساد والاستبداد، بغض النظر عن المآلات لاحقاً. ففي التظاهرات الحالية في لبنان أو العراق أو هونغ كونغ أو فرنسا، لا توجد قيادة أو زعامة محدّدة للحراك، وإنما توجد قيادات ميدانية يقتصر دورها على تنظيم الفاعليات والتحرّكات على الأرض، وليس التحدّث باسم الجمهور. وهو ما يعكس نضجاً ووعياً بمآلات احتكار الزعامة أو التحدث باسم الجماهير مدخلا لاستقطاب الحراك وتدجينه وإفراغه من مضمونه. ولكن ذلك لم يمنع من ظهور قيادات عفوية وطبيعية من قلب الحراك ذاته، أصبحت ضميره ونبضه وجاهزة للدخول في تفاوض مع السلطات، وذلك كما حدث في الحالة السودانية التي انبثق منها تكتل "قوى إعلان الحرية والتغيير" الذي وُلد في قلب الانتفاضة الثورية، وخرجت منه قيادات تلقائية تفاوضت مع العسكر، وساهمت في وضع خريطة المرحلة الانتقالية.
أخيراً، بينما يهيمن الاقتصادي والاجتماعي على مطالب المحتجين والمتظاهرين شرقاً وغرباً، إلا أن هناك وعيا واضحا بعلاقتهما بالسياسي، ودوره في وصول الأوضاع إلى ما هي عليه الآن. لذا لا يوجد فصل في مطالب التغيير بين الأمرين. بل على العكس يرى العاديّون المنتفضون أن السياسي هو أصل المشكلة، سواء تعلّق الأمر بالفساد أو بغياب العدالة الاجتماعية أو بالبطالة وغياب الخدمات الأساسية، كالصحة والتعليم والمعاشات.
أما المدهش، حتى الآن، فهو قدرة هؤلاء "العاديّين" على تغيير قواعد اللعبة، وتحويل الهامش إلى مركز، والمركز إلى هامش، بل وإجبار المركز على الانصياع لمطالبهم، وأهمها احترام إرادتهم وكرامتهم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق