يوم في سجون السيسي
|
محمد جلال القصاص
@mgelkassas |
بسم الله الرحمن الرحيم لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
يوم في سجون السيسي
بعد سبعة أيامٍ قضيتها حيث لا أعلم، في مكانٍ منخفضٍ ضيقٍ (متران في أربعة مع 16 معتقلًا)، به حمام واحد بلا باب طافح على الدوام، لا تدخله الشمس ولا النور، وتطفح المجاري في أحد جانبيه من حين لحين؛ وفي صباح اليوم الثامن صحوت على يدٍ غليظة تفتح الباب بشدة، وأصوات عالية تصيح في المعتقلين توقظهم بوحشية وفظاظة، وتنادي على أسماء ثلاثة أنا أحدهم. وطلبوا منا التجهز في دقيقتين.
ظن أصحاب السجن أننا خارجون من هذا القبر إلى بيوتنا، فالتفوا حولنا كل يهمس بما قد أهمَّه: أنا فلان بن فلان من مدينة كذا .. من قرية كذا، أخبر أهلي عن حالي.. طمئنهم.. لا تخبرهم بما يزعجهم، يحمل همَّ أهله ويرجوا سعادتهم وهو في محنة، وآخر يهنئ بالخروج (يحسب أننا خارجون إفراج)، وآخر صامت يقبل ويودع وكأن لا لقاء... وهي نفوس وأفهام..
ما أن خرجنا من هذا القبر.. فقط على شبرٍ من باب القبر وجدنا الأفق قد سد بعددٍ غفير من عسكر الأمن المركزي، وعسكر مصلحة السجون، والمباحث. وجوه كئيبة.. وأعداد كثيفة.. بنادق وطبنجات، ميري ومدني.. ملثم وسافر.. كأنها حرب.. كأن قد جاءوا للقبض على عتاة المجرمين، ولم نمهل لحظة...
دفعونا للحائط بغلظة.. وقيدونا بالحديد (كلبشات)، ثم مدت يدت غليظة تربط العين بعصابتين .. عصابة بعد عصابة، وتشد كل عصابة قدر استطاعتها، كأن قد خاف من العين أن تجري من مقلتيها، أو كأن قد أقسم ليدخلن العين في الرأس فلا تَرى ولا تُرى. وجعلوا يدفعوننا... ويتصايحون حولنا..وانتهينا في "عربة الترحيلات" ....
في عربة الترحيلات:
جلست وأصحابي.. مقيدين بالحديد وأعيننا معصوبة بعصابتين مشدودتين، تئن يدي من ضيق الحديد، وتئن عيني ورأسي من شدة العصابة على العين وخلف الرأس..
كان أول ما سمعت في عربة الترحيلات أحد الجنود يتحدث لجندي آخر: "كل يومين يجيبوا لنا كلب نموته (نقتله) في مكان بعيد... ما يقتلوه هنا وخلاص".
فقلت –في نفسي- هو الموت.. بعد قليل بين يدي الكريم، سبحانه وتعالى وعز وجل، أنعم وأعطى وأمر ونهى، وبعد قليل يحاسب؛ وجعلت أجتهد في الذكر...
قضينا أربع ساعات بالطريق، حينًا يسبون ويشتمون بألفاظ شديدة الوقاحة، وحينًا يتداولون نكتًا جنسية على الإخوان والسلفية والمتدينين عمومًا، وحين يوهموننا بأننا ذاهبون للأسكندرية (برج العرب تحديدًا حيث الرئيس محمد مرسي)، وحينًا يتحدثون في "الغيط والزراعة"، وحينًا يتناوشون لحسابٍ بينهم، أحدهم لم يدفع رسوم الطعام والشراب التي عليه من الرحلة السابقة (جنيه ونصف)، ويسبونه طلبًا للجنيه ونصف، ويسبهم دفعًا لهم كي لا يدفع (جنيه ونصف)، وأحدهم يحاول أن ينام، ويوقظه الباقون حقدًا وحسدًا، يقولون: له تنام هنا وتذهب لتعمل في البيت؟!!
كان من الحراس اثنان من قريتي، أحدهم من حارتي التي تربيت فيها، وقرين في نفس العمر، ولم أجد منه أي مودة، ولم أطلب منه شيء، عرفته من حديثه مع أقرانه عن الأرض والزراعة، وكلح هو في آخر النهار وسألني: هل تريد مني شيء فضحكت ثم قلت له أبدًا فقط إن رأيت أحدا من أهلي طمنه.. ولم يفعل.
في هذه اللحظات التي انقطع الرجاء فيها من البقاء في الحياة، ألح سؤال: كيف استطاعت منظومة الإجرام أن توظف هؤلاء ضد فطرتهم؟، كيف انقلب هؤلاء على إنسانيتهم وعاداتهم وتقاليدهم؟، كيف ساد الغبي الغليظ؟!!
أغلب الناس لا هم لهم إلا قوت يومهم.. وقليل من الشبهات تكفيه لارتكاب أي شيء يؤمن له الرزق، حالة من اتباع الهوى يدعمها أوهام (ظنون)،كما وصفهم خالقهم، سبحانه وتعالى ذكره، : {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ } [النجم : 23]، وهي حالة من سوء الظن بالله، فلو آمنوا بربهم لرزقهم وبارك لهم، "{وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ } [الأعراف : 96]، وهي حالة من الغباء، فما هم فيه من شدة في عملهم وفي أهليهم وفي لهيب صدورهم، إذ ليس مع المعصية طمأنينة وراحة، أكثر بكثير مما قد يجدونهم لو استقاموا على الطريقة، {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [النحل : 97].
وصلنا حيث لا نعلم.. وصعدنا أربعة أدوار، ثم جلسنا على الأرض.. لا يسمح لنا بالتحدث ولا زال القيد بأيدينا.. والعصابة بغلظتها وقسوتها على أعيننا..
طلب أحد الزملاء أن يذهب للحمام فرفضوا.. وطلب آخر الوضوء فرد العسكري بمنطق الفقيه العالم: يجوز لك التيمم... هذا ونحن نسمع خرير الماء على بعد أمتار؛ فطلب فك القيد كي يتمم فما فكوا قيدًا.. ولا نزعوا عصابةً، ولا أذنوا بالوضوء أو الحمام...
فجأة تبدل المشهد... تبدل المشهد كليةً...
حضر بعضهم وجعل ينادي علينا.. وفكوا العصابة، وفكوا القيد، وجعل يعتب عليهم برفق: انتم ليه عاملين فيهم كده؟!
فنظرت في وجهه، فوجدت وجهًا مظلمًا، فقلت منهم... مشيت معه في مكان أنيق.. شديد الأناقة.. الطرقات فسيحة.. والحائط برخامٍ، ألوانٌ هادئة جميلة.. فقلت بقول الله : "فكلي واشربي وقري عيني"، يأمر مريم –عليها السلام- وهي تلد حملًا بلا زوج، وهي هاربة من أعين الناس وألسنتهم، بأن تستمتع باللحظة الحالية، ولا تفكر فيما سيأتي وإن كان قريبًا، جعلت أمتع عيني بالنظر للديكور، والمكان الفسيح، وأسأل الله من فضله، وأن يبدل حالنا لخير وحالهم لشر؛ وانتهى بي إلى غرفة مكتوب عليها "نيابة أمن الدولة العليا".دخلت الغرفة وبدأ التحقيق..
أهم ما في مكتب النيابة أنه دافئ، وأنني بلا قيد ولا عصابة عين، وأن التحقيق بلا سب ولا شتم ولا تهديد.. نوع آخر من الإجرام والخداع.. وفسحة من الوقت الله أعلم بما بعدها.
كان وكيل النيابة مؤدبًا، هادئًا، لم يبدو عدوانيًا كما ضباط أمن الدولة...
مضت ساعات التحقيق وخرجت من النيابة فوجدتهم على الباب بالحديد... وعاد القيد وعاد الغليظ البذيء .. قيدونا ثانية.. والقونا على الأرض (البلاط) في شدة البرد، في مكان مفتوح به تيار هواء في الدور الرابع ( في نهاية شهر نوفمبر)، هم يرتدون الملابس الصوفية الغليظة ونحن شبه عراة، على هذا الحال ما يزيد عن عشر ساعات، لا يسمح لنا أن نبرح مكاننا.. ولم يقدموا لنا طعامًا ولا شرابًا، وهم يأكلون ويشربون ويعبثون بالهواتف،.. وبعد عشر ساعات من هذا الحال تنادوا للرحيل، فأستوثقوا من الحديد، وشدوا عصابة العين وعادت الكرة سبًا وشتمًا ودفعًا وبذاءةً...
شدوا عصابة العين ثانية.. وركبنا سيارة الترحيلات.. وعادت البذاءة والسب والشتم كالذي كان في رحلة القدوم... وبعد ساعتين تقريبًا من السير والوقوف نزلنا لمعتقل طرة..
علمت وقتها –من حديثهم- أن لا قتل، وأنهم كذبة، وأننا سائرون للسجن. لم يكن بخاطري إلا أن يكرمني الله بمعتقل قريب من أهلي حتى لا أشق عليهم في الزيارة، ثم قلت أفوض أمري لربي يختار لي، وقطعت الوقت ثناءً ورجاء... أملًا في منزلٍ مبارك وأجرٍ مضاعف.
في المعتقل: نزلنا المعتقل على حالتنا الأولى، مقيدين معصوبي الأعين.. فكوا القيد.. وفكوا عصابة العين، فوجدت الأفق قد سد بعصابة من الأشرار سود الوجوه بعضهم يحمل السلاح وبعضهم يرتدي ملابس مدنية..وكلهم بذيء. جردونا من الثياب تقريبًا... يقولون: فحص طبي.. وأخذوا ملابسنا وأعطونا ملابس السجن الخفيفة التي بالكاد تستر ولا تدفيء.
يتحدثون بالإشارة، وقليل من الكلمات، وفهمت من إشارتهم أن كل واحد من الثلاثة يسجن في زنزانة لوحده..
مضينا برفقة اثنان (شاويش ومخبر)، وفتحت خمسة بوابات حديد.. بوابة بعد بوابة.. كل بوابة عليها حرس... ومغلقة بأقفال ثقيلة... وكلما تجاوزت بوابة أشعر أن الحياة ترحل. سألت أحدهم أين أنا الآن؟، فأجابني بالكذب: في الملحق (سجن من سجون طرة)، وما كنت في "الملحق".. كان يكذب ويضللنا كعادتهم. وطلبت منه أن لا أسجن مع جنائيين..أظن أن السكن بالاختيار. فأجاب هذا الرديء –قطع الله دابره وله قصة بعد ذلك أشد من هذه-: "مفيش هنا سياسيين.. كله جنائيين". وهو يعلم أنه كذَّاب، وهو يعلم أني سأعلم بعد قليل أنه كذاب، ولكنه يحرص على أن يحزنني ولو لدقائق.. منتهى الغلظة والبعض، ويتصرف بتلقائية، أصبح الشر سجية.. قلت: لا حول ولا قوة إلا بالله. حسبي الله وكفى... المبنى أصفر مهبب، أربعة أدوار، على هيئة دائرة مستطيلة، تتواجه الزنازين في صفين، وأمام كل صف رف (بلكونة) عرضها متر وربع المتر، محاطة بقضبان حديد زرقاء مهببة هي الأخرى إن لامستها توسخت يداك، قميء، وباب الزنزانة قصير غليظ.. مكتوب أعلاه عبارات تحدد هوية المسجونين بداخله: "جرائم نفس"، "مخدرات" ... دخلت زنزانة (5) بالدور الثاني مكتوب عليها: "جرائم نفس" ، فقلت بعد قليل أرافق مجرمًا قاتلًا.... فتح باب الزنزانة.. ووجدت شخصًا غريب السنحة، ملتحي حسبته للحظة الأولى قوقازي ولكن لا تبدو عليه أمارات الإجرام، منزوي في زاوية من الزنزانة وحيدًا، كيئبًا؛ سلمت عليه، وسألته: حضرتكمصري؟، فقال: نعم، فحمدت الله على كل حال، وأنا مستيقن أن ما أراده الله خير، وأن الله لا يأتي منه إلا الخير. لم يكن صاحب السجن هذا يقبل أحدًا معه في الزنزانة.. كان يقاتل كي يبقى منفردًا لا يخالط أحد، يقول –بعد ذلك- قبلتك لما رأيت من سوء حالتك.. أشفق علي لما يراه علي من حالي .. سقطت نائمًا.. سقطت على بلاط أملس.. شديد البرد.. ولا ارتدي من الثياب إلا "سترة السجن" التي تستر ولا تدفء.. لم اشعر بالبرد.. ولا بأني نائم على البلاط الأملس.. ونمت.. صحوت على صوتٍ بغيض آخر ينادي بي... ووجدتني أمام كائن كعجل الجاموس، في ضخامته وجهلة وغبائه.. وسوء خلقه.. ... يتهددني ويتوعدني إن أثرت شغبًا بالسجن، ويسألني: لم قد أوصوا بك شرًا؟، الحديث معه يحتاج مقال وحده على قصره. وانقضى يوم من أيام السجن .. لم يكن هذا اليوم أسوأ الأيام ولا أحسنها.. ولكنه يوم في سجون السيسي قطع الله دابره عاجلًا غير آجل. محمد جلال القصاص 13/ 11 /2015 |
الدرة (( إني رأيتُ وقوفَ الماء يفسدهُ، إِنْ سَاحَ طَابَ وَإنْ لَمْ يَجْرِ لَمْ يَطِبِ )) الامام الشافعي
الأربعاء، 13 نوفمبر 2019
يوم في سجون السيسي
الاشتراك في:
تعليقات الرسالة (Atom)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق