قراءة في كتاب "سوريا.. الدولة المتوحشة" للباحث الفرنسي ميشيل سورا
مجموعة تقارير عن كتاب سوريا الدولة المتوحشة” الصادر عن الشبكة العربية للأبحاث والنشر للكاتب والباحث الفرنسي ميشيل سورا الذي حلل الدولة الطائفية في سوريا منذ نهاية السبعينيات قبل أن يختطف في بيروت ويسكت صوته.
ميشيل سورا يكشف الدولة المتوحشة في سوريا
(ج1)
كانت الحرب الأهلية اللبنانية في أوجها عام 1985 بينما كان الباحث الفرنسي الشاب ميشيل سويا عائدا للتو إلى بيروت لرؤية زوجته وطفلتيه.
وبينما كان يهم بالخروج من المطار مع صديقه تعرض للاختطاف على يد مجموعة عرفت نفسها بـ "منظمة الجهاد الإسلامي" مطالبة بالإفراج عن عدد من المحتجزين في باريس -من بينهم أنيس النقاش- على خلفية عملية مسلحة.
وعام 2012 وبعد أشهر من اندلاع الثورة السورية، جمعت عائلة سورا أبحاثه ونشرتها بالفرنسية، وعام 2017 نشرت الترجمة العربية تحت عنوان "سوريا.. الدولة المتوحشة" فأثارت اهتمام العديد من الكتاب والباحثين.
منهجية خلدونية
اعتمد سورا المنهجية الخلدونية في تحليل نشأة الدول وانهيارها، حيث أوضح ابن خلدون أن الاستيلاء على الحكم بالقوة يرتكز على شحن العصبية القبلية أو الدينية وتوظيف دعوة دينية أو سياسية غطاء لها، وصولا إلى المُلك الذي يدوم باستمرار شحن هذه العصبية وتقويتها.
اعتمد سورا المنهجية الخلدونية في تحليل نشأة الدول وانهيارها، حيث أوضح ابن خلدون أن الاستيلاء على الحكم بالقوة يرتكز على شحن العصبية القبلية أو الدينية وتوظيف دعوة دينية أو سياسية غطاء لها، وصولا إلى المُلك الذي يدوم باستمرار شحن هذه العصبية وتقويتها.
وقد طبق سورا كلام ابن خلدون على الساحة السورية، وتوصل إلى أن العلويين يمثلون لب الفكرة التي تفيد بأن أقلية دينية تمثل أقل من 10% ذات أصول قروية وجبلية من شمال غرب البلاد كجماعة استولت على الدولة، مجيرة لحسابها الخاص مبادئ القومية العربية والاشتراكية.
أحادية تمثيل العلويين
الباحث والمؤرخ السوري فاروق مردم بيك تحدث عن كيفية بناء حافظ الأسد أحادية التمثيل العلوي وتخلصه من الوجوه العلوية اللامعة مثل صلاح جديد الذي سجن حتى الممات، ومحمد عمران الذي قتل في طرابلس.
الباحث والمؤرخ السوري فاروق مردم بيك تحدث عن كيفية بناء حافظ الأسد أحادية التمثيل العلوي وتخلصه من الوجوه العلوية اللامعة مثل صلاح جديد الذي سجن حتى الممات، ومحمد عمران الذي قتل في طرابلس.
وبعد أن أوصل الأسد الحياة السياسية في سوريا إلى مستوى الصفر -كما عبر سورا- تصاعدت حدة الاحتجاجات على النظام الحاكم وصولا إلى عام 1979.
وقد اهتم سورا بتحليل ما جرى عام 1979 معتبرا إياه ذروة الحراك الشعبي.
وقد اهتم سورا بتحليل ما جرى عام 1979 معتبرا إياه ذروة الحراك الشعبي.
انكشاف النظام
ويقول أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة السوربون برهان غليون إن ما ميز هذا الحراك أن المشاركين فيه من النقابات والطبقة الوسطى التي لم يستطع تجاهلها والتي أظهرت انكشاف نظام الأسد سياسيا.
ويقول أستاذ علم الاجتماع السياسي بجامعة السوربون برهان غليون إن ما ميز هذا الحراك أن المشاركين فيه من النقابات والطبقة الوسطى التي لم يستطع تجاهلها والتي أظهرت انكشاف نظام الأسد سياسيا.
بدوره يقول الباحث في التاريخ السوري نشوان الأتاسي إن النقابات في ذلك الوقت كانت تتمتع باستقلالية ثم فقدتها بعد ذلك كليا، وكانت في ذلك الحراك تطالب بإلغاء قانون الطوارئ والعودة للحريات ومنها حرية الصحافة.
كتابة صارمة
كانت كتابة سورا منهجية ملتزمة وصارمة، كما يشير مردم بيك. وقد نشرت كتاباته في المجلات البحثية باسم مستعار.
كانت كتابة سورا منهجية ملتزمة وصارمة، كما يشير مردم بيك. وقد نشرت كتاباته في المجلات البحثية باسم مستعار.
أستاذ العلوم السياسية بالجامعة الأميركية في باريس زياد ماجد يتحدث عن أن البيئة المخابراتية استطاعت التوصل إلى أن سورا صاحب هذه الكتابات التي أوجعت النظام السوري، وكانت تعاكس ما تكتبه الصحافة الغربية عموما.
وفي الجزء الثاني من "الدولة المتوحشة" تفاصيل أخرى كتبها سورا قبل أن يكتب الخاطفون نهايته.
وفي الجزء الثاني من "الدولة المتوحشة" تفاصيل أخرى كتبها سورا قبل أن يكتب الخاطفون نهايته.
ميشيل سورا يكشف الدولة المتوحشة بسوريا
(ج2)
واصل برنامج "خارج النص" في الحلقة الثانية التي بثت الأحد (2018/3/18) قراءة كتاب "سوريا.. الدولة المتوحشة" للباحث الفرنسي ميشيل سورا الذي بدأ كتابته نهاية السبعينيات باسم مستعار، ثم اختطف من مطار بيروت عام 1985 مع صديقه جان بول كوفمان، بما يؤكد أن الاسم المستعار قد اكتشف وحان عقابه.
في عام 1988 وبعد ثلاث سنوات من اختطاف ميشيل سورا وصديقه، عاد كوفمان إلى باريس وحيدا، أما سورا فقد امتنعت مجموعة لبنانية تسمي نفسها منظمة الجهاد الإسلامي عن تسليم جثمانه، بعدما أعدمته.
وفي عام 2006 وبعد احتجاز الجثمان عشرين عاما، سلم حزب الله الجثمان إلى الحكومة اللبنانية.
باستثناء سورا
يقول زياد ماجد أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية بباريس، إن كل الرهائن الأميركيين والأوروبيين سُلموا أحياء إلى بلادهم بصفقات مع إيران، وعلى الدوام كان النظام السوري عرّاب هذه الصفقات، أما ميشيل سورا فكان الاستثناء.
يقول زياد ماجد أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية بباريس، إن كل الرهائن الأميركيين والأوروبيين سُلموا أحياء إلى بلادهم بصفقات مع إيران، وعلى الدوام كان النظام السوري عرّاب هذه الصفقات، أما ميشيل سورا فكان الاستثناء.
ويضيف أن إعدامه واحتجاز رفاته رمزية مكثفة تشير إلى مقدار الحقد عليه وعلى كتاباته.
فكك سورا بنية النظام وسياساته وكيفية بنائه التحالفات مع إيران الخمينية والسعودية والاتحاد السوفياتي، وفي عام 1982 حين أعمل قتلا وتنكيلا بمدينة حماة كان يعرف أنها رسالة جيدة للغرب تفيد بأنه استطاع وأد مشروع إسلامي في سوريا.
نهر العنف
يقول سورا "مثلت مجزرة حماة نهر العنف الذي يشق البلاد كالجرح المفتوح"، واستنكر بشدة التعاطي الإعلامي والدبلوماسي الغربي المنحاز للنظام.
يقول سورا "مثلت مجزرة حماة نهر العنف الذي يشق البلاد كالجرح المفتوح"، واستنكر بشدة التعاطي الإعلامي والدبلوماسي الغربي المنحاز للنظام.
وبينما كانت التيارات اليسارية تنظر إلى النظام السوري بوصفه الابن البار للاتحاد السوفياتي، استطاع سورا كشف عمق التحالف بينه وبين الولايات المتحدة الأميركية.
ورأى سورا في كتابه أن حافظ الأسد يريد السيطرة على القضية الفلسطينية ليحتكر حق تمثيل القومية العربية، واعتبره هدف النظام الحقيقي.
ويقول الباحث في التاريخ السوري نشوان الأتاسي إن ياسر عرفات كان عدوا مشتركا لإسرائيل ولنظام الأسد، مشيرا إلى خطاب لإسحاق رابين قال فيه إنه لن يعترض على قيام الجيش السوري بقتل "إرهابيي عرفات".
ويضيف أن دخول الجيش السوري إلى لبنان جاء بتوافق إسرائيلي أميركي، بينما اعترض عليه الاتحاد السوفياتي وقطع المساعدات العسكرية عن سوريا لعامين.
الهلال الشيعي
ومبكرا في عام 1983، رصد سورا ما كان يردده حافظ الأسد ونظامه من شعارات الوحدة العربية بينما كان ينخرط في محور مناقض، المحور الذي بات يعرف اليوم بـ"الهلال الشيعي".
ومبكرا في عام 1983، رصد سورا ما كان يردده حافظ الأسد ونظامه من شعارات الوحدة العربية بينما كان ينخرط في محور مناقض، المحور الذي بات يعرف اليوم بـ"الهلال الشيعي".
ويقول في كتابه إن "مشروع النظام الحاكم في بناء محور شيعي من لبنان حتى حدود باكستان يتيح له -علاوة على تعزيز موقفه داخل البلاد ضد الإسلام الأصولي- أن يضع تحت رحمته دول الخليج المنتجة للنفط، وهي أهم ممولي خزينته".
ووفق ما يقول نشوان الأتاسي، فإن اللافت للنظر أن ما كتبه ميشيل سورا في بداية الثمانينيات يمكن اعتماده في تحليل النظام حتى الآن، وإن هذه القدرة الاستشرافية لا يملكها إلا قلة من الناس.
وما زلت اليوم بعد مرور سنوات طويلة على تلك الرحلة أعيش حالة الذهول كلما استرجعت مشهد مدينة بيروت الغربية وأنا أدخلها لأول مرة، منظر الدمار والخراب الكلي على طرفي الطريق ولمسافة طويلة، كانت كمشهدِ من فلم رعب استثنائي، رائحة الموت والسواد كان في ذروة ما يمكن أن أتخيله.
استعدت تلك الذكرى وأنا أدخل بعد عشرين عاما مدينة حلب عابرا منها إلى تركيا، كانت المقارنة المتطابقة حاضرة بشكل كامل، ما بين بيروت 1990 وما بين حلب 2014، لم يكن هناك من أضافة بين المشهدين سوى حضوري للخراب الأخير في حلب، والكيفية التي تم بها.
ولأن حجم الألم كان أكبر من أفواهنا، كما كان حجم التزوير أعتى من قدرتنا على المناكفة، فقد سرني كثيرا كتاب وجدته البرهان والحجة، يمكن للسوريين أن يرفعوه كدليل على وحشية هذا النظام وهو كتاب “سوريا الدولة المتوحشة” لميشيل سورا.
كنت وأنا أقرأ كتابه أِشعر بتنامي الامتنان لهذا الفرنسي من أصل تونسي الذي شاركنا مصيرنا بدمه، كما أحسن إلينا حين فكك بنية النظام الأسدي الذي جاءت نتيجة بحثه أنه لم يكن ذا هدف وطني أو قومي أو غيره من الأهداف التي كان يدعيها، سوى هدف واحد هو تثبيت حكمه واستمراره.
وكما يفكك بنية النظام فإن ميشيل سورا يفكك بنية المجتمع والطوائف وعلاقة كل منهما الآخر، وبطريقة منطقية يضعنا أمام ذواتنا كأفراد ومجتمعات، وبحرفية الأكاديمي يكشف أقنعة الأنظمة الكاذبة، كما يكشف سبل المجتمعات والمدن في الدفاع عن وجودها، ومن خلال قواعد علم الاجتماع والحوادث التاريخية التي عاشتها سوريا في ماضيها القريب نكتشف كيف وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم.
في شباط 1982، بينما كانت قوات الحرس الجمهوري للنظام السوري تقصف حماة، رابع أكبر مدينة سورية بتعداد سكان يتجاوز ربع المليون نسمة، في نطاق عملية عسكرية كبيرة جدا، انتهت بسقوط ما يقدر بعشرة آلاف قتيل… كانت الصحافة الغربية تقدم ما يشبه التبريرات لذلك العمل بصفته شرا لا بد منه لإزاحة شبح الخمينية عن بلاد الهلال الخصيب…
بهذه المقدمة يبدأ الكتاب من ذروة الجريمة السورية في تاريخ سوريا الحديث، ليغوص في الحياة السياسية والاجتماعية التي سادت بعيد سيطرة البعث على الحكم، ليعمل مبضع المؤرخ والباحث في مجزرة حماه، مغرقا في تاريخ الطوائف السورية وتوجهاتها، وانعكاس ذلك التاريخ على مواقف اليوم، وما بين علم الاجتماع والحوادث التاريخية يضع مقولات الأسد الأب على محك الحقيقية ليجردها بشكل يصل حد السخرية أحيانا لكنه يبقي على منهجه العلمي طريقا له.
كما يستعرض الصراعات العسكرية والسياسية التي مر بها النظام السوري، معرجا على أبرز تلك الحوادث كمجزرة سجن تدمر ومحاولات الانقلابات الفاشلة التي جرت، وصولا إلى الطائفة العلوية وانتقام الريف من المدينة وترييف المدن، ليسهب في وصف حركة الإخوان المسلمين إلى الاقتصاد والتعليم وبنى المدن السورية.
ويفرد في بحثه الأخير تحليلا لمدينة طرابلس كنموذج لتحليل الصراعات الطائفية وارتباطها بالنظام السوري، ذلك كله قبل أن يستعرض المكونات السورية جميعها من كرد وأرمن وشركس وبدو ويهود.
من هو ميشيل سورا الذي قرأ النظام وكتبه بشكل تنبؤي؟
يقدم صديقه “جيل كيبل” وهو أستاذ ورئيس برنامج الدراسات الشرق أوسطية والمتوسطية في معهد الدراسات السياسية بفرنسا، وأوليفييه مونغان” بمقدمة الكتاب في النسخة الأولى تعريفا كاملاً يوفي سورا حقه جاء فيه:
“في الخامس من شهر آذار 1986 أعلنت منظمة الجهاد الإسلامي إعدام الباحث المتخصص ميشيل سورا، والواقع أنه كان قد توفي قبل ذاك التاريخ بعدة أشهر، بعد أن عانى طويلا سوء المعاملة ونقص العناية الطبية حيث كان مسجونا رهينة في قاع زنزانة في مكان ما في لبنان.
لكن حرب الأكاذيب – وهي إحدى دعامات الإرهاب في الشرق الأوسط – أرادت أن تستغل وفاة ميشيل سورا إعلاميا، وأن يكون لرحيله وقعا على الأحداث، فجاء الإعلان عن وفاته في وقت مفيد للتأثير في منحى الانتخابات التشريعية الجارية في ذلك الوقت، وألبس موته لباس “إعدام جاسوس” لنحل هذا العمل تبريرا أخلاقيا.
لماذا هذا السعي الحثيث لتشويه ذكرى ميشيل سورا بعد أن اختير هو فقط من بين الرهائن الفرنسيين لقتله بكل سفالة؟
الجواب عن هذا موجود النصوص التي كتبها سورا، وفيها تحليل دقيق ومن دون تكلف للمشهد السياسي في الشرق في ثمانينات القرن العشرين.
لن يعجب القتلة هذا الكتاب، كما لن يعجب رؤساءهم الحريصين على منع أي بحث اجتماعي وعلمي، في حين يوكلون مهمة رسم صورة المجتمع إلى عملائهم من أصحاب الدعاية ممن يمجدون الحزب الواحد ويؤلهون القائد الفذ.
ولد ميشيل سورا سنة 1947 في مدينة بنزرت في تونس، وقضى فيها طفولته حتى جاءت أحداث سنة 1961 حين قصفت الطائرات الفرنسية البلدة، مما شكل لديه صدمة نفسية.
أكمل ميشيل دراسته في مدينة ليون، لكنه لم ينجح أبدا في الارتباط بفرنسا الأم، سافر في عام 1971 إلى بيروت ليستعرب، يوم كانت العاصمة الثقافية للعالم العربي بقدر ما كانت مدينة عالمية يمكن للمرء أن يتنفس فيها حرية لا تعرفها حاضرات الشرق الأخرى، جال في صيف تلك السنة في المخيمات الفلسطينية في المنطقة بصحبة شبان أوربيين كانوا يرون في القضية الفلسطينية تجسيدا للأفكار الثورية.
تابع دراسته من سنة 1972 حتى 1974 في دمشق، حيث ترجم في إطار رسالة الماجستير قصص غسان كنفاني، ثم أصبح سنة 1974 أستاذ التاريخ المعاصر في كلية الآداب في بيروت، وكان يدَّرس في الوقت نفسه اللغة الفرنسية في المخيمات التزام نضالي منه.
سنة 1975 بدأت حياته المهنية العلمية بالمعنى الحقيقي للكلمة عندما حصل على منحة باحث مقيم في المعهد الفرنسي للدراسات العربية في دمشق، حيث كتب أطروحة دكتوراه حول ساطع الحصري، أحد مؤسسي القومية العربي وبقي في دمشق حتى سنة 1978.
كان ميشيل سورا شخصا رصينا ومنعزلا، عن خجل أكثر منه عن تردد، وكان يتمتع بقوة إقناع عقلية كبيرة، والواقع أنه كان من القلة النادرة من علماء الاجتماع المستعربين، في أواسط السبعينيات الذين عاشوا على أرض الواقع التي يجرون عليها أبحاثهم.
بعد أن انتهت إقامته في دمشق عاد إلى بيروت وانضم من سنة 1978 حتى 1980 إلى فريق عمل مركز الدراسات والأبحاث عن الشرق الأوسط المعاصر، ثم أصبح سنة 1983 السكرتير العلمي للمركز، كانت هذه العودة إلى بيروت ذروة ما تمناه بقوة وصدق، إذ صار بوسعه العمل على ذلك التعايش العربي الفرنسي الذي يحمله في داخله.
وقد توصل سورا من خلال دراسته وتفكره في الدولة والمجتمع في سورية إلى استعادة مفهوم جوهري قال به المؤرخ ابن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي، ألا وهو “العصبية” التي تصنع من التلاحم الفئوي في الحي أو القبيلة أو الدين، العامل المفسر الأولي لتطور المجتمعات العربية وبناء السلطة.
كان عليه استكمال النموذج النظري للعصبية، والعمل عليه مجددا من أجل شرح النظام الاجتماعي السوري وتوضيحه، فدرس ميشيل سورا الدولة السورية التي تميزت بالقمع الوحشي والاستخدام المدروس للإرهاب، وأظهر بعدها البربري بمعناه الهمجي المتوحش، ثم التفت الى الطبقات والمجموعات الاجتماعية التي كانت ترى في تلك الدولة الضمانة لاستمرار اعمالها وتدفع الأرباح عليها، على الرغم من البربرية التي تمارسها هذه الدولة نفسها، ضمن هذا المنظور كان ميشيل ينوي القيام بدراسة الطبقات الوسطى في سورية مما كان سيتيح له استكمال تحليله بكامل ابعاده، إلا أن اغتياله حال دون ذلك”.
تزوج ميشيل سورا من السورية ماري معمارباشي قبل اختطافه، مؤسساً لحياة أحب أن يعيشها في الشرق الذي اغتاله.
أحد زملاء معتقله “جان بول كوفمان” يصف في فيلم لعمر أميرالاي بعنوان “في يوم عنف عادي، صديقي ميشيل سورا..” الذي أنتج 1996، كيف كان يسخر منه جلادوه وهو يحتضر مريضا، لتستعيد فرنسا جثمان سورا عام 2006، بمساعدة من قاتليه.
هو كتاب من الكتب القليلة التي وضعت المجتمع والنظام السوري تحت مجهر التحليل والتشريح والمراقبة، ونحن سواء اتفقنا أم اختلفنا معه، فإن كل جهد مبذول في هذا السياق هو جهد إيجابي، يساعد في تبديد ضبابية النظام السوري وغموض آلياته، كما يعيد النظر في المفاهيم والبديهيات التي مر على السوريين زمنا طويلاً مؤمنين بصوابيتها، ولربما كانت السبب في اضمحلال ثورتهم.
في 22 أيار 1985 قامت حركة “الجهاد الإسلامي” التي تحولت فيما بعد لحزب الله باختطاف ميشيل سورا وصديقه جان بول كوفمان من على طريق المطار أثناء عودتهما من فرنسا إلى بيروت، وذلك بعد متابعة من قبل المخابرات السورية التي كانت تترصده لنشره مقالات ودراسات في صحف عالمية باسم مستعار أحيانا وباسمه الحقيقي أحيانا أخرى، حول مجزرة حماه وسياسة القمع الوحشية للنظام السوري وكشفه لقومات النظام في استخدام العنف البدائي والعاري لتوطيد سلطته.
ولقد استشعر سورا في وقت مبكر خطورة النظام السوري على سوريا وتنبأ بمستوى الوحشية التي لم يتردد في استخدامها في حماه، كما عاد واستخدمها في كل المدن السورية في 2011، ولا سيما أنه قد عاش في دمشق ولامس حجم الأرهاب الذي تمارسه على الناس، وهو ما دفعه للإقامة في بيروت، لكن النظام السوري لن يهمل باحثا فضح زيف شرعيته التي بناها عبر سنين وكان من الطبيعي أن يلاحقه لينال منه في أول فرصة سنحت له عبر ذراعه في لبنان حزب الله.
وما يؤكد علاقة النظام السوري بمتل ميشيل سورا هو ممارسته لدور الوسيط في كل عمليات التفاوض ما بين الحكومة الفرنسية وحزب الله فيما يتعلق بالأسرى الفرنسيين.
في يؤكد جان بول كوفمان وهو من رفيق سورا في المعتقل والشاهد الأخير في حديثه بفيلم “يوم عنف عادي” على مسؤولية الجهاد الإسلامي عن اختطافهم قائلا: “مساء اختطافنا غابت المرسيدس البيضاء للخاطفين في مرآب تحت الأرض، فانغلق وراءنا باب مصيدة، استمرت ثلاثة أعوام طوال عشنا خلالها عالما من الاقصاء والجنون، فالجماعة التي اختطفتنا وهي الجهاد الإسلامي كانت تطالبنا بالتواطؤ الكامل معها وتفرض علينا الانصياع المطلق لها”.
في 28 تموز 1985 نقل كل كوفمان وسورا الى منزل بلا نوافذ غير بعيد من مطار خلدة، تعرضا فيه للتعذيب، ليأخذوا بعدها سورا إلى مكان أخر، وينقطع صوته عن زملائه.
يقول كوفمان: “بالنسبة لي ثمة أمر واحد مؤكد، إن ما حدث لميشيل كان إعداما وقتلا متعمدا ارتكب عن سوء نية من قبل خاطفينا وعن احتقار ولؤم عندهم
ويوضح كوفمان: “في 28 كانون الأول 1985 في عيد القديسيين نقلوه فظننا أنهم سيطلقون سراحه، وفي اليوم التالي قلت لرفاقي ثمة أمر غريب، لدي انطباع أن ميشيل ما يزال هنا، بقي ميشيل عشرة أيام بجوارنا وفي 12 كانون الثاني 1986 خلال الليل حدثت جلبة غريبة، وفي اليوم التالي اختفى صوت ميشيل المتحشرج وسعاله وفي تلك اللحظة أدركنا أن ميشيل لم يعد بيننا”.
تأتي القيمة المضافة لكتاب «سوريا الدولة المتوحشة» في هذا الوقت بالذات ـ غير أن صاحبه دفع حياته ثمناً لهذا المؤلَّف- عبر التأكيد على أن نظام الأسد ليست لديه حلول إلا المزيد من القمع والإجرام، مهما كلف الأمر، فرفعت الأسد خلال المؤتمر القطري السابع لحزب البعث عام 1979 أبدى استعداده لقتل مليون إنسان مقابل استمرار الثورة، التي ما هي إلا انقلاب حزب البعث وسيطرته على مقاليد الحكم عام 63 من القرن المنصرم. وعندما اندلعت الثورة السورية المطالبة بالحرية والكرامة، كانت ردود النظام وأنصاره واضحة ومباشرة، حيث الحلول العدمية لا غيرها، متمثلة بـ«الأسد أو لا أحد» و«الأسد أو تحرق البلد»، وهي ما سماها الكاتب في بحوثه الاجتماعية «منطق الكل أو اللاشيء، «لأن أي تساهل يعني فلتان السلطة من أيديهم، وبالتالي عودتهم إلى ما كانوا عليه قبل تسنّمهم السلطة، فيزخر المخيال العلوي الجمعي بكم هائل من المعاملة السيئة التي كانوا يُعامَلونها في بعض المدن، وهو ما يمكن من خلاله فهم كيف أن العنف هو السبيل الوحيد للبقاء في السلطة، ومن خلاله يمكن تفسير الهمجية التي تم بها التعامل في حماة عام 82، والوحشية الكبيرة ومجازرها المتنقلة التي تم التعامل بها مع الثورة التي اندلعت عام 2011.
دراسات وبحوث اجتماعية
الكتاب دراسات ومقالات اجتماعية ميدانية قام بها الباحث على مدى عشر سنين من العيش في سوريا ولبنان، بين عامي 75 و85 من القرن الماضي وترجمه أمل سارة ومارك بيالو، وقدم له برهان غليون وجيل كيبيل، يؤكد المطبوع كيف أن نظام الأسد دأب على قتل كل نشاط مدني في سوريا، ففي عام 1980 ألغى النظام النقابات المهنية، وزج بأعضاء الأحزاب المعارضة في السجون، وعمل على عسكرة صراعه مع الإخوان، حتى يستطيع القضاء عليه، عبر ضوء أخضر من المجتمع الدولي الذي كان يخشى أن يسيطر خميني آخر على السلطة في سوريا، ولو عاصر الكاتب أحداث الثورة السورية، لاكتشف أن تحليله السابق ينطبق حرفياً الآن على الوضع في سوريا، من خلال دفع الثورة للعسكرة، كي يسهل القضاء عليها، وإطلاق سراح العناصر المتطرفة، كي تكون هي واجهة الثورة دوليا، وعليه إفقادها كثيراً من التعاطف الدولي الذي كانت تحظى به.
نظرية ابن خلدون
تفكيك البنية الطائفية للنظام عبر تطبيق نظرية ابن خلدون حول الحكم، التي تتكون من العصبية والدعوة والمُلك، فالعصبية الطائفية هي ما جمع صلاح جديد ومحمد عمران وحافظ أسد وغيرهم، فسرحوا عدداً كبيراً من الضباط السنة وأنزلوا مكانهم علويين، وهذه العصبية هي ما جعلت النظام القومي العربي «العلماني» يتحالف مع الثورة الإسلامية في إيران، ورجل الدين الشيعي موسى الصدر في لبنان، وايواء المعارضة العراقية، حيث كانت النية القديمة هي تشكيل هلال شيعي يخنق دول الخليج، رغم أن الأخيرة هي التي كانت تمول النظام، وهذا هو استشراف للهلال الشيعي قبل عشرين عاماً من وقوعه، في ما حذر منه الملك الأردني قبل عدة سنوات. الدعوة ما هي إلا دعوة حزب البعث العربي الاشتراكي كواجهة تختبئ خلفها الطائفة، حتى عندما اندلعت أحداث حماة تمت تصفية الكثير من البعثيين، ولم يكن من عاصم سوى الانتماء إلى الطائفة، فمن خلالها يعرف «القمح من الزؤان» كما قال الكاتب. بخصوص المُلك أو السلطة فهي الهدف الأول والأخير الذي مارس ويمارس النظام من أجله القتل.
حزب الله إجرام منذ البداية
الكتاب الذي هو عبارة عن مقالات، رغم أنها وُقعت بأسماء وهمية إلا أنه تمت معرفة الكاتب، هو ما جعل حزب الله اللبناني يقتل ميشيل سورا، كنتيجة لكشف مفاعيل التعامل الطائفي منذ وقت مبكر، فيتطرق سورا بكتابه الذي تم جمعه بعد موته إلى التركيبة الطائفية والعرقية في سوريا، وبالتالي يسهب في الحديث عن جماعة الإخوان المسلمين التي رأى أنها تنطبق عليها القواعد ذاتها لنظرية الحكم لدى ابن خلدون وأنها والنظام يمثلان مظاهر ما قبل الدولة.
تخريب بنية المجتمع وترييف المدن
لقد عمل النظام على تخريب بنية المجتمع السوري، من خلال تكريس الاختلافات بين عناصر المجتمع وزيادة الفروق، بين الريف والمدينة وكذلك بين المدن ببعضها، فضلاً عن إثارة المخاوف بين طوائف المجتمع عبر تقديم نفسه كحامٍ للأقليات، وبالتالي نكوص المجتمع وعودة الناس إلى هويات ما قبل الدولة، «منذ عشرين سنة كنا ناصريين، شيوعيين، بعثيين، أو قوميين عربا، واليوم نحن سنة، مسيحيون، علويون، دروز وغيرهم» ناهيك عن ترييف المجتمع السوري، فسيطرة البعث على الحكم تمثل برأي الباحث المستعرب «ثأر الأرياف التي سيطرت على المدن بالمعنى الحرفي»، ولا يفوت الكاتب الحديث عن الشبيبة الذين كانوا يدخلون المدارس والكليات بأسلحتهم لترهيب الناس، وهؤلاء ذاتهم الذين كان يسمح لهم بدخول الجامعات بدون تحقيق معدل العلامات المطلوب، ما أفرز جيلاً من الجهلة حاملي الشهادات.
رغم أن المقالات التي يتألف منها الكتاب كُتبت قبل أكثر من عشرين عاماً، إلا أنها مازالت إلى يومنا هذا قادرة على أن تكون وحدات قياس للمجتمع السوري الذي لم يـــــزده الاستبداد إلا تفسخاً، ولا يختلف الوضع الآن عما بعد تدمير حمــــاة سوى أن في كل مدينة سورية أصبحت هناك حماة جديدة، ومئات آلاف المعتقلين والمفقـــودين، وملايين المهجرين والمشردين، بينما النظام الذي كان قوياً في عهد حافظ اصبح لعبة بيد الروس والإيرانيين اليوم، والبلد ليس فيها احتلال واحد بل احتلالات.
٭ كاتب سوري
قراءة رائد رزوق
بعد عشرين عاما من نبوءة ميشيل سورا.. كتاب “سورية الدولة المتوحشة” يبصر النور
بعد انتهائي من امتحان الشهادة الثانوية، وتحت ضغط وضع العائلة المادي المعهود، قصدت بيروت كالكثير من أبناء سوريا بحثا عن فرصة عمل دون أي تأهيل مهني ودون أي هدف أو معرفة لمصيري بعد وصولي إلى نهاية رحلة محفوفة بالغموض.وما زلت اليوم بعد مرور سنوات طويلة على تلك الرحلة أعيش حالة الذهول كلما استرجعت مشهد مدينة بيروت الغربية وأنا أدخلها لأول مرة، منظر الدمار والخراب الكلي على طرفي الطريق ولمسافة طويلة، كانت كمشهدِ من فلم رعب استثنائي، رائحة الموت والسواد كان في ذروة ما يمكن أن أتخيله.
استعدت تلك الذكرى وأنا أدخل بعد عشرين عاما مدينة حلب عابرا منها إلى تركيا، كانت المقارنة المتطابقة حاضرة بشكل كامل، ما بين بيروت 1990 وما بين حلب 2014، لم يكن هناك من أضافة بين المشهدين سوى حضوري للخراب الأخير في حلب، والكيفية التي تم بها.
ولأن حجم الألم كان أكبر من أفواهنا، كما كان حجم التزوير أعتى من قدرتنا على المناكفة، فقد سرني كثيرا كتاب وجدته البرهان والحجة، يمكن للسوريين أن يرفعوه كدليل على وحشية هذا النظام وهو كتاب “سوريا الدولة المتوحشة” لميشيل سورا.
كنت وأنا أقرأ كتابه أِشعر بتنامي الامتنان لهذا الفرنسي من أصل تونسي الذي شاركنا مصيرنا بدمه، كما أحسن إلينا حين فكك بنية النظام الأسدي الذي جاءت نتيجة بحثه أنه لم يكن ذا هدف وطني أو قومي أو غيره من الأهداف التي كان يدعيها، سوى هدف واحد هو تثبيت حكمه واستمراره.
وكما يفكك بنية النظام فإن ميشيل سورا يفكك بنية المجتمع والطوائف وعلاقة كل منهما الآخر، وبطريقة منطقية يضعنا أمام ذواتنا كأفراد ومجتمعات، وبحرفية الأكاديمي يكشف أقنعة الأنظمة الكاذبة، كما يكشف سبل المجتمعات والمدن في الدفاع عن وجودها، ومن خلال قواعد علم الاجتماع والحوادث التاريخية التي عاشتها سوريا في ماضيها القريب نكتشف كيف وصلنا إلى ما نحن عليه اليوم.
في شباط 1982، بينما كانت قوات الحرس الجمهوري للنظام السوري تقصف حماة، رابع أكبر مدينة سورية بتعداد سكان يتجاوز ربع المليون نسمة، في نطاق عملية عسكرية كبيرة جدا، انتهت بسقوط ما يقدر بعشرة آلاف قتيل… كانت الصحافة الغربية تقدم ما يشبه التبريرات لذلك العمل بصفته شرا لا بد منه لإزاحة شبح الخمينية عن بلاد الهلال الخصيب…
بهذه المقدمة يبدأ الكتاب من ذروة الجريمة السورية في تاريخ سوريا الحديث، ليغوص في الحياة السياسية والاجتماعية التي سادت بعيد سيطرة البعث على الحكم، ليعمل مبضع المؤرخ والباحث في مجزرة حماه، مغرقا في تاريخ الطوائف السورية وتوجهاتها، وانعكاس ذلك التاريخ على مواقف اليوم، وما بين علم الاجتماع والحوادث التاريخية يضع مقولات الأسد الأب على محك الحقيقية ليجردها بشكل يصل حد السخرية أحيانا لكنه يبقي على منهجه العلمي طريقا له.
كما يستعرض الصراعات العسكرية والسياسية التي مر بها النظام السوري، معرجا على أبرز تلك الحوادث كمجزرة سجن تدمر ومحاولات الانقلابات الفاشلة التي جرت، وصولا إلى الطائفة العلوية وانتقام الريف من المدينة وترييف المدن، ليسهب في وصف حركة الإخوان المسلمين إلى الاقتصاد والتعليم وبنى المدن السورية.
ويفرد في بحثه الأخير تحليلا لمدينة طرابلس كنموذج لتحليل الصراعات الطائفية وارتباطها بالنظام السوري، ذلك كله قبل أن يستعرض المكونات السورية جميعها من كرد وأرمن وشركس وبدو ويهود.
من هو ميشيل سورا الذي قرأ النظام وكتبه بشكل تنبؤي؟
يقدم صديقه “جيل كيبل” وهو أستاذ ورئيس برنامج الدراسات الشرق أوسطية والمتوسطية في معهد الدراسات السياسية بفرنسا، وأوليفييه مونغان” بمقدمة الكتاب في النسخة الأولى تعريفا كاملاً يوفي سورا حقه جاء فيه:
“في الخامس من شهر آذار 1986 أعلنت منظمة الجهاد الإسلامي إعدام الباحث المتخصص ميشيل سورا، والواقع أنه كان قد توفي قبل ذاك التاريخ بعدة أشهر، بعد أن عانى طويلا سوء المعاملة ونقص العناية الطبية حيث كان مسجونا رهينة في قاع زنزانة في مكان ما في لبنان.
لكن حرب الأكاذيب – وهي إحدى دعامات الإرهاب في الشرق الأوسط – أرادت أن تستغل وفاة ميشيل سورا إعلاميا، وأن يكون لرحيله وقعا على الأحداث، فجاء الإعلان عن وفاته في وقت مفيد للتأثير في منحى الانتخابات التشريعية الجارية في ذلك الوقت، وألبس موته لباس “إعدام جاسوس” لنحل هذا العمل تبريرا أخلاقيا.
لماذا هذا السعي الحثيث لتشويه ذكرى ميشيل سورا بعد أن اختير هو فقط من بين الرهائن الفرنسيين لقتله بكل سفالة؟
الجواب عن هذا موجود النصوص التي كتبها سورا، وفيها تحليل دقيق ومن دون تكلف للمشهد السياسي في الشرق في ثمانينات القرن العشرين.
لن يعجب القتلة هذا الكتاب، كما لن يعجب رؤساءهم الحريصين على منع أي بحث اجتماعي وعلمي، في حين يوكلون مهمة رسم صورة المجتمع إلى عملائهم من أصحاب الدعاية ممن يمجدون الحزب الواحد ويؤلهون القائد الفذ.
ولد ميشيل سورا سنة 1947 في مدينة بنزرت في تونس، وقضى فيها طفولته حتى جاءت أحداث سنة 1961 حين قصفت الطائرات الفرنسية البلدة، مما شكل لديه صدمة نفسية.
أكمل ميشيل دراسته في مدينة ليون، لكنه لم ينجح أبدا في الارتباط بفرنسا الأم، سافر في عام 1971 إلى بيروت ليستعرب، يوم كانت العاصمة الثقافية للعالم العربي بقدر ما كانت مدينة عالمية يمكن للمرء أن يتنفس فيها حرية لا تعرفها حاضرات الشرق الأخرى، جال في صيف تلك السنة في المخيمات الفلسطينية في المنطقة بصحبة شبان أوربيين كانوا يرون في القضية الفلسطينية تجسيدا للأفكار الثورية.
تابع دراسته من سنة 1972 حتى 1974 في دمشق، حيث ترجم في إطار رسالة الماجستير قصص غسان كنفاني، ثم أصبح سنة 1974 أستاذ التاريخ المعاصر في كلية الآداب في بيروت، وكان يدَّرس في الوقت نفسه اللغة الفرنسية في المخيمات التزام نضالي منه.
سنة 1975 بدأت حياته المهنية العلمية بالمعنى الحقيقي للكلمة عندما حصل على منحة باحث مقيم في المعهد الفرنسي للدراسات العربية في دمشق، حيث كتب أطروحة دكتوراه حول ساطع الحصري، أحد مؤسسي القومية العربي وبقي في دمشق حتى سنة 1978.
كان ميشيل سورا شخصا رصينا ومنعزلا، عن خجل أكثر منه عن تردد، وكان يتمتع بقوة إقناع عقلية كبيرة، والواقع أنه كان من القلة النادرة من علماء الاجتماع المستعربين، في أواسط السبعينيات الذين عاشوا على أرض الواقع التي يجرون عليها أبحاثهم.
بعد أن انتهت إقامته في دمشق عاد إلى بيروت وانضم من سنة 1978 حتى 1980 إلى فريق عمل مركز الدراسات والأبحاث عن الشرق الأوسط المعاصر، ثم أصبح سنة 1983 السكرتير العلمي للمركز، كانت هذه العودة إلى بيروت ذروة ما تمناه بقوة وصدق، إذ صار بوسعه العمل على ذلك التعايش العربي الفرنسي الذي يحمله في داخله.
وقد توصل سورا من خلال دراسته وتفكره في الدولة والمجتمع في سورية إلى استعادة مفهوم جوهري قال به المؤرخ ابن خلدون في القرن الرابع عشر الميلادي، ألا وهو “العصبية” التي تصنع من التلاحم الفئوي في الحي أو القبيلة أو الدين، العامل المفسر الأولي لتطور المجتمعات العربية وبناء السلطة.
كان عليه استكمال النموذج النظري للعصبية، والعمل عليه مجددا من أجل شرح النظام الاجتماعي السوري وتوضيحه، فدرس ميشيل سورا الدولة السورية التي تميزت بالقمع الوحشي والاستخدام المدروس للإرهاب، وأظهر بعدها البربري بمعناه الهمجي المتوحش، ثم التفت الى الطبقات والمجموعات الاجتماعية التي كانت ترى في تلك الدولة الضمانة لاستمرار اعمالها وتدفع الأرباح عليها، على الرغم من البربرية التي تمارسها هذه الدولة نفسها، ضمن هذا المنظور كان ميشيل ينوي القيام بدراسة الطبقات الوسطى في سورية مما كان سيتيح له استكمال تحليله بكامل ابعاده، إلا أن اغتياله حال دون ذلك”.
تزوج ميشيل سورا من السورية ماري معمارباشي قبل اختطافه، مؤسساً لحياة أحب أن يعيشها في الشرق الذي اغتاله.
أحد زملاء معتقله “جان بول كوفمان” يصف في فيلم لعمر أميرالاي بعنوان “في يوم عنف عادي، صديقي ميشيل سورا..” الذي أنتج 1996، كيف كان يسخر منه جلادوه وهو يحتضر مريضا، لتستعيد فرنسا جثمان سورا عام 2006، بمساعدة من قاتليه.
هو كتاب من الكتب القليلة التي وضعت المجتمع والنظام السوري تحت مجهر التحليل والتشريح والمراقبة، ونحن سواء اتفقنا أم اختلفنا معه، فإن كل جهد مبذول في هذا السياق هو جهد إيجابي، يساعد في تبديد ضبابية النظام السوري وغموض آلياته، كما يعيد النظر في المفاهيم والبديهيات التي مر على السوريين زمنا طويلاً مؤمنين بصوابيتها، ولربما كانت السبب في اضمحلال ثورتهم.
قراءةمصطفى عباس
من هم قتلة ميشيل سورا ولماذا قتلوهفي 22 أيار 1985 قامت حركة “الجهاد الإسلامي” التي تحولت فيما بعد لحزب الله باختطاف ميشيل سورا وصديقه جان بول كوفمان من على طريق المطار أثناء عودتهما من فرنسا إلى بيروت، وذلك بعد متابعة من قبل المخابرات السورية التي كانت تترصده لنشره مقالات ودراسات في صحف عالمية باسم مستعار أحيانا وباسمه الحقيقي أحيانا أخرى، حول مجزرة حماه وسياسة القمع الوحشية للنظام السوري وكشفه لقومات النظام في استخدام العنف البدائي والعاري لتوطيد سلطته.
ولقد استشعر سورا في وقت مبكر خطورة النظام السوري على سوريا وتنبأ بمستوى الوحشية التي لم يتردد في استخدامها في حماه، كما عاد واستخدمها في كل المدن السورية في 2011، ولا سيما أنه قد عاش في دمشق ولامس حجم الأرهاب الذي تمارسه على الناس، وهو ما دفعه للإقامة في بيروت، لكن النظام السوري لن يهمل باحثا فضح زيف شرعيته التي بناها عبر سنين وكان من الطبيعي أن يلاحقه لينال منه في أول فرصة سنحت له عبر ذراعه في لبنان حزب الله.
وما يؤكد علاقة النظام السوري بمتل ميشيل سورا هو ممارسته لدور الوسيط في كل عمليات التفاوض ما بين الحكومة الفرنسية وحزب الله فيما يتعلق بالأسرى الفرنسيين.
في يؤكد جان بول كوفمان وهو من رفيق سورا في المعتقل والشاهد الأخير في حديثه بفيلم “يوم عنف عادي” على مسؤولية الجهاد الإسلامي عن اختطافهم قائلا: “مساء اختطافنا غابت المرسيدس البيضاء للخاطفين في مرآب تحت الأرض، فانغلق وراءنا باب مصيدة، استمرت ثلاثة أعوام طوال عشنا خلالها عالما من الاقصاء والجنون، فالجماعة التي اختطفتنا وهي الجهاد الإسلامي كانت تطالبنا بالتواطؤ الكامل معها وتفرض علينا الانصياع المطلق لها”.
في 28 تموز 1985 نقل كل كوفمان وسورا الى منزل بلا نوافذ غير بعيد من مطار خلدة، تعرضا فيه للتعذيب، ليأخذوا بعدها سورا إلى مكان أخر، وينقطع صوته عن زملائه.
يقول كوفمان: “بالنسبة لي ثمة أمر واحد مؤكد، إن ما حدث لميشيل كان إعداما وقتلا متعمدا ارتكب عن سوء نية من قبل خاطفينا وعن احتقار ولؤم عندهم
ويوضح كوفمان: “في 28 كانون الأول 1985 في عيد القديسيين نقلوه فظننا أنهم سيطلقون سراحه، وفي اليوم التالي قلت لرفاقي ثمة أمر غريب، لدي انطباع أن ميشيل ما يزال هنا، بقي ميشيل عشرة أيام بجوارنا وفي 12 كانون الثاني 1986 خلال الليل حدثت جلبة غريبة، وفي اليوم التالي اختفى صوت ميشيل المتحشرج وسعاله وفي تلك اللحظة أدركنا أن ميشيل لم يعد بيننا”.
تأتي القيمة المضافة لكتاب «سوريا الدولة المتوحشة» في هذا الوقت بالذات ـ غير أن صاحبه دفع حياته ثمناً لهذا المؤلَّف- عبر التأكيد على أن نظام الأسد ليست لديه حلول إلا المزيد من القمع والإجرام، مهما كلف الأمر، فرفعت الأسد خلال المؤتمر القطري السابع لحزب البعث عام 1979 أبدى استعداده لقتل مليون إنسان مقابل استمرار الثورة، التي ما هي إلا انقلاب حزب البعث وسيطرته على مقاليد الحكم عام 63 من القرن المنصرم. وعندما اندلعت الثورة السورية المطالبة بالحرية والكرامة، كانت ردود النظام وأنصاره واضحة ومباشرة، حيث الحلول العدمية لا غيرها، متمثلة بـ«الأسد أو لا أحد» و«الأسد أو تحرق البلد»، وهي ما سماها الكاتب في بحوثه الاجتماعية «منطق الكل أو اللاشيء، «لأن أي تساهل يعني فلتان السلطة من أيديهم، وبالتالي عودتهم إلى ما كانوا عليه قبل تسنّمهم السلطة، فيزخر المخيال العلوي الجمعي بكم هائل من المعاملة السيئة التي كانوا يُعامَلونها في بعض المدن، وهو ما يمكن من خلاله فهم كيف أن العنف هو السبيل الوحيد للبقاء في السلطة، ومن خلاله يمكن تفسير الهمجية التي تم بها التعامل في حماة عام 82، والوحشية الكبيرة ومجازرها المتنقلة التي تم التعامل بها مع الثورة التي اندلعت عام 2011.
دراسات وبحوث اجتماعية
الكتاب دراسات ومقالات اجتماعية ميدانية قام بها الباحث على مدى عشر سنين من العيش في سوريا ولبنان، بين عامي 75 و85 من القرن الماضي وترجمه أمل سارة ومارك بيالو، وقدم له برهان غليون وجيل كيبيل، يؤكد المطبوع كيف أن نظام الأسد دأب على قتل كل نشاط مدني في سوريا، ففي عام 1980 ألغى النظام النقابات المهنية، وزج بأعضاء الأحزاب المعارضة في السجون، وعمل على عسكرة صراعه مع الإخوان، حتى يستطيع القضاء عليه، عبر ضوء أخضر من المجتمع الدولي الذي كان يخشى أن يسيطر خميني آخر على السلطة في سوريا، ولو عاصر الكاتب أحداث الثورة السورية، لاكتشف أن تحليله السابق ينطبق حرفياً الآن على الوضع في سوريا، من خلال دفع الثورة للعسكرة، كي يسهل القضاء عليها، وإطلاق سراح العناصر المتطرفة، كي تكون هي واجهة الثورة دوليا، وعليه إفقادها كثيراً من التعاطف الدولي الذي كانت تحظى به.
نظرية ابن خلدون
تفكيك البنية الطائفية للنظام عبر تطبيق نظرية ابن خلدون حول الحكم، التي تتكون من العصبية والدعوة والمُلك، فالعصبية الطائفية هي ما جمع صلاح جديد ومحمد عمران وحافظ أسد وغيرهم، فسرحوا عدداً كبيراً من الضباط السنة وأنزلوا مكانهم علويين، وهذه العصبية هي ما جعلت النظام القومي العربي «العلماني» يتحالف مع الثورة الإسلامية في إيران، ورجل الدين الشيعي موسى الصدر في لبنان، وايواء المعارضة العراقية، حيث كانت النية القديمة هي تشكيل هلال شيعي يخنق دول الخليج، رغم أن الأخيرة هي التي كانت تمول النظام، وهذا هو استشراف للهلال الشيعي قبل عشرين عاماً من وقوعه، في ما حذر منه الملك الأردني قبل عدة سنوات. الدعوة ما هي إلا دعوة حزب البعث العربي الاشتراكي كواجهة تختبئ خلفها الطائفة، حتى عندما اندلعت أحداث حماة تمت تصفية الكثير من البعثيين، ولم يكن من عاصم سوى الانتماء إلى الطائفة، فمن خلالها يعرف «القمح من الزؤان» كما قال الكاتب. بخصوص المُلك أو السلطة فهي الهدف الأول والأخير الذي مارس ويمارس النظام من أجله القتل.
حزب الله إجرام منذ البداية
الكتاب الذي هو عبارة عن مقالات، رغم أنها وُقعت بأسماء وهمية إلا أنه تمت معرفة الكاتب، هو ما جعل حزب الله اللبناني يقتل ميشيل سورا، كنتيجة لكشف مفاعيل التعامل الطائفي منذ وقت مبكر، فيتطرق سورا بكتابه الذي تم جمعه بعد موته إلى التركيبة الطائفية والعرقية في سوريا، وبالتالي يسهب في الحديث عن جماعة الإخوان المسلمين التي رأى أنها تنطبق عليها القواعد ذاتها لنظرية الحكم لدى ابن خلدون وأنها والنظام يمثلان مظاهر ما قبل الدولة.
تخريب بنية المجتمع وترييف المدن
لقد عمل النظام على تخريب بنية المجتمع السوري، من خلال تكريس الاختلافات بين عناصر المجتمع وزيادة الفروق، بين الريف والمدينة وكذلك بين المدن ببعضها، فضلاً عن إثارة المخاوف بين طوائف المجتمع عبر تقديم نفسه كحامٍ للأقليات، وبالتالي نكوص المجتمع وعودة الناس إلى هويات ما قبل الدولة، «منذ عشرين سنة كنا ناصريين، شيوعيين، بعثيين، أو قوميين عربا، واليوم نحن سنة، مسيحيون، علويون، دروز وغيرهم» ناهيك عن ترييف المجتمع السوري، فسيطرة البعث على الحكم تمثل برأي الباحث المستعرب «ثأر الأرياف التي سيطرت على المدن بالمعنى الحرفي»، ولا يفوت الكاتب الحديث عن الشبيبة الذين كانوا يدخلون المدارس والكليات بأسلحتهم لترهيب الناس، وهؤلاء ذاتهم الذين كان يسمح لهم بدخول الجامعات بدون تحقيق معدل العلامات المطلوب، ما أفرز جيلاً من الجهلة حاملي الشهادات.
رغم أن المقالات التي يتألف منها الكتاب كُتبت قبل أكثر من عشرين عاماً، إلا أنها مازالت إلى يومنا هذا قادرة على أن تكون وحدات قياس للمجتمع السوري الذي لم يـــــزده الاستبداد إلا تفسخاً، ولا يختلف الوضع الآن عما بعد تدمير حمــــاة سوى أن في كل مدينة سورية أصبحت هناك حماة جديدة، ومئات آلاف المعتقلين والمفقـــودين، وملايين المهجرين والمشردين، بينما النظام الذي كان قوياً في عهد حافظ اصبح لعبة بيد الروس والإيرانيين اليوم، والبلد ليس فيها احتلال واحد بل احتلالات.
٭ كاتب سوري
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق