غزة عادت وحدها.. تقاوم وتتظاهر
في السابق، كانت غزة تقاوم، وحدها، بينما الشارع العربي الغاضب يتظاهر دفاعًا عنها، وتأييدًا لمقاومتها، واعتذارًا عن عجزٍ شاملٍ يمنعه من فعل أي شيءٍ وهو مكبل بالقيود.
كان السماح بالتظاهر، أيضًا، نوعًا من التعبير عن خجل لدى بعض أنظمةٍ عربيةٍ لا تقوى على اتخاذ موقف للجم العدوان، فتمنح الشارع حق الهتاف والدعاء، وأحيانًا تسيير قوافل مساعدات للجرحى والمصابين، والذين هدمت بيوتهم.
كان ذلك موجودًا بنسب متفاوتةٍ في عواصم ومدن عربية، حتى سنوات قليلة مضت، إذ لم يمكن معقولًا أن تضطلع غزة بالمقاومة، نيابةً عن كل العرب، بين الجمهور يقف صامتًا متفرجًا، وقد كان يسعد غزة كثيرًا ويشعرها بأن ثمّة حواضن شعبية عربية لبسالتها، وإن كانت معطلة أو مغلقة.
الآن، تغيرت معادلة "غزة تقاوم بالسلاح وعواصم العرب تدعم بالهتاف"، ودخلنا في معادلة جديدة، تدعو إلى الخجل، إذ صارت غزة تقاوم وحدها، وتتظاهر وحدها، أيضًا، بعد أن صار التظاهر من أجل غزة في عواصم عربية كثيرة مغامرة محفوفة بمخاطر الاعتقال والسجن، والاتهام بدعم الإرهاب.
كان لافتًا، عقب العنوان الصهيوني الأخير، أن تخرج التظاهرات في قلب غزة، دعمًا لمقاومة غزة، واحتجاجًا على التهدئة المفروضة عليها من سماسرة عرب احترفوا دور المنقذ للكيان الصهيوني من انتقام غزة وثأرها لشهدائها، إذ يسارعون فور إتمام العدو جريمته، وقبل أن ترد غزة الضربة، إلى لعب دور الوسيط، الذي يهرع بإبريق الماء والمنشفة لكي يغسل المعتدي يديه من دماء الشعب الفلسطيني في غزة، وينقذ المستعمرين من زحمة التكدس في الملاجئ تحت الأرض، مع انطلاق صافرات الإنذار.
مساء الخميس الماضي، وبعد أن أكمل العدو جريمته، تظاهر مئات الفلسطينيين في قطاع غزة، احتجاجاً على اتفاق التهدئة المبرم بين المقاومة الفلسطينية والاحتلال الإسرائيلي برعاية مصرية وأممية، في أعقاب جولة التصعيد التي اندلعت بعد اغتيال بهاء أبو العطا القيادي البارز في سرايا القدس، الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي، وأسفرت عن استشهاد نحو 36 فلسطينياً وإصابة أكثر من مائة آخرين بجراح متفاوتة، بالإضافة لتضرر أكثر من 500 وحدة سكنية، من بينها تدمير 30 وحدة سكنية بشكل كلي، بفعل القصف الإسرائيلي.
ماذا يعني ذلك؟ يعني ببساطة أن غزة خرجت من تحت نار العدوان، لتكتب شهادة وفاة العرب، وتعلن موتهم رسميا، بعد أن باتت تشكّ في صحة المعادلة القديمة: هي تقاوم ببسالة، والشارع العربي يتظاهر بغضبٍ صادق، طلبا لدعمها وإسنادها والثأر لشهدائها.. يعني أيضًا أن غزة عادت تستشعر أنها وحدها، بعد أن قتل تحالف الاحتلال والاستبداد الرجل الذي أعلن يومًا "غزة لم تعد وحدها".
ولكن تظاهرات غزة تحمل، كذلك، رسائل جديدة لمن يقودون المقاومة، مفادها بأن غضب الشارع صار أكبر وأعلى من أداء المقاومة، الأمر الذي يتطلب التوقف بالدراسة والتحليل في حصيلة السنوات القليلة الماضية، والتي شهدت تآكلًا ملحوظًا في المسافة بين المقاومة والنظام الرسمي العربي.
على أن تراجع مظاهر التعبير عن الغضب من أجل القضية الرئيسية في شوارع العرب، يقابله انتعاش لمحصول الغضب في أماكن أخرى.
صباح السبت أرسل لدي صديق مقطعًا مصوّرًا لتظاهرات هادرة من أجل غزة في باريس، يتم فيها إحراق العلم الصهيوني وإطلاق الشعارات المندّدة بالتآمر الدولي والإقليمي على الشعب الفلسطيني، ويتحدّث فيها أشخاص يقولون إن القدس المحتلة هي الوجهة والبوصلة لكل عربي حر، فشعرت بالخجل والأسى على عواصم ومدن عربية، محكومة بالطغيان والتبعية، لم تعد تقدر على تسيير تظاهرة واحدة في شوارعها تهتف ضد الكيان الصهيوني.
فيما بعد، أرسل إلي من يقول إن هذا المقطع المصور قديم، ويخص مناسبة أخرى، غير أنه بعد ساعاتٍ كان مراسل "العربي الجديد" في باريس ينشر أن جمعية "يوروــ فلسطين" وجمعيات أخرى نظمت في ساحة الأبرياء، قرب محطة "شاتليه ليهال" في وسط باريس، تجمعاً لفرنسيين وعرب للتنديد بالجرائم الأخيرة في قطاع غزة. وطالب المشاركون بدعم الشعب الفلسطيني في نضاله العادل، ووقف العدوان الإسرائيلي المستمر والصمت الأوروبي، والصمت الفرنسي المريب أحياناً والمتواطئ أحياناً أخرى.
في العاصمة البريطانية، أيضًا، تجد في مناسبات مماثلة ملصقات داعمة للشعب الفلسطيني ومناهضة للاعتداءات الصهيونية، على محطات الباصات، تحمل عبارات مثل "إسرائيل تقتل الأطفال مجدّدًا.. استمتعوا بعطلة نهاية الأسبوع".
والشاهد أن الضمير الإنساني كله يرفض الظلم وينحاز لأصحاب الحق، ويستطيع أن يعبر عن نفسه في كل مكان، إلا في عواصم العرب التي تتنافس على الرضا الصهيوني.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق