دراما عزل ترامب وأميركا المنقسمة
وصلت مسألة عزل الرئيس الأميركي دونالد ترامب، والتي بدأت قبل حوالي شهرين ونصف الشهر، إلى منعطف مهم، سوف يكون له ما بعده، وذلك بعد الإفادات والشهادات التي قدمتها 12 شخصية مؤثرة في هذا الملف أمام لجنة الاستخبارات في مجلس النواب، وتابعها ملايين الأميركيين وغيرهم حول العالم، في مشهد سيظل في الذهن عقودا. وبينما كانت مسألة عزل الرئيس ترامب في الأسابيع الأولى لبدئها أقل جاذبية وحضوراً في الفضاء العام الأميركي، إلا أنها تحوّلت في الأسبوع الماضي إلى أزمة حقيقية، سوف تساهم في زيادة الانقسام والاستقطاب في أميركا ليس فقط بين الحزبين، الجمهوري والديمقراطي، بل أيضا على مستوى البلد بأكملها. ولعلها أخطر أزمة تمر بها الأمة الأميركية منذ عقود، وتتجاوز في طبيعتها وتداعياتها فضيحة الرئيسين الأسبقين ريتشارد نيكسون وبيل كلينتون. ولعل ما يزيد الأمر سخونةً وتوتراً هذه المرة أنها تأتي والبلاد في حالة انقسام غير مسبوقة، ما يجعل مسألة عزل ترامب ليست مسألة قانونية ودستورية فحسب، وإنما أيضا سياسية واجتماعية. بل قد تتحوّل إلى نزاع أهلي، إذا ما تم عزل ترامب بالفعل، وهو ما يهدد السلم الداخلي الأميركي.
تزداد المسألة تعقيداً في نزوع الطرفين المتخاصمين (الجمهوريين والديمقراطيين) إلى توظيف المسألة وتكييفها وفقاً لأجندتهم الانتخابية وحساباتهم السياسية، فالجمهوريون يعتقدون أن مسألة
عزل ترامب ما هي سوى حلقة جديدة من حلقات التعطيل والضغط التي يمارسها الديمقراطيون عليهم منذ خسارتهم في الانتخابات الرئاسية عام 2016. وهم مقتنعون بنظرية المؤامرة، أو "مطاردة الساحرة" كما يسميها ترامب، وأن ثمّة دولة عميقة تحارب ترامب، وتسعى إلى إسقاطه منذ أول يوم له في السلطة. وهم هنا متماهون تماماً مع ترامب، وذلك في ظاهرةٍ تبدو غريبة وغير مفهومة على الساحة الأميركية، فقد كان متوقعا أن يقوم الجمهوريون بعقلنة خطاب ترامب بعد وصوله إلى الرئاسة، ولكن ما حدث هو العكس، نجح ترامب في جذب الحزب وقواعده ناحية خطابه اليميني الشعبوي، بحيث لم يعد الحزب الجمهوري كما كان في السابق. وهو تحوّل كبير سوف يقف أمامه الباحثون كثيراً لمحاولة فهمه وتفسيره، فلم يحدث أن قام رئيس أميركي بمواصفات ترامب، في انفلاته وتهوره وفضائحه، بتحويل الحزب إلى مجرد "مخلب قط" في معاركه السياسية، حيث يخاف مرشحو الحزب الجمهوري من أن يؤدي تخلّيهم عن ترامب إلى خسارتهم مقاعدهم الانتخابية سواء في مجلس الشيوخ أو مجلس النواب. وهو ما حدث بالفعل مع مرشحين رفضوا خطاب ترامب وطريقته في إدارة البلاد، فكانت النتيجة أن خسروا مقاعدهم في الانتخابات النصفية التي جرت قبل عام.
أما الديمقراطيون فيراهنون على ألا يفلت ترامب هذه المرة بفضيحته التي أساء فيها استخدام نفوذه من أجل تحقيق مكاسب سياسية شخصية، ففضيحة "أوكرانيا غيت" تتعلق بالأساس بمكالمة هاتفية أجراها مع نظيره الأوكراني، فولوديمير زيلينسكي، في 25 يوليو/ تموز الماضي، طالبه فيها بفتح وإعلان التحقيق في ملف فساد يتعلق بهنتر بايدن نجل جو بايدن، نائب الرئيس السابق والمرشح الذي ينافس على ورقة الحزب الديمقراطي للانتخابات الرئاسية المقبلة. ويعد ما فعله ترامب، إذا ثبت حقاً، مخالفاً للدستور الأميركي الذي يمنع استغلال النفوذ السياسي لتحقيق مكاسب شخصية. ولا ينسى الديمقراطيون كيف أفلت ترامب من فضيحة التورّط مع روسيا في انتخابات 2016، وكيف أن تقرير المحقق الأميركي روبرت مولر لم يدنه بشكل واضح وصريح.
والحقيقة أن الديمقراطيين يجازفون بمسألة عزل ترامب، وربما ترتدّ عليهم ما لم يكن لديهم
قدرة على إثبات استغلال ترامب نفوذه السياسي، وقدرة على إقناع بعض خصومهم الجمهوريين على التخلي عن ترامب والوقوف ضده، خصوصا في مجلس الشيوخ الذي يحتفط فيه الحزب الجمهوري بأغلبية بسيطة (53 عضوا من أصل مائة عضو)، فترامب لن يتراجع بسهولة، وهو بارع في تحويل الانتباه من التورّط واستغلال النفوذ للتشكيك في الموضوع برمته، وفي القائمين عليه، سواء من خصومهم الديمقراطيين أو من الشهود أنفسهم الذين هاجمهم علناً، مثلما حدث مع السفيرة الأميركية السابقة في أوكرانيا، ماري يوفانوفيتش، التي أقالها أواخر شهر إبريل/ نيسان بسبب عدم قبولها أن تكون جزءا من الفضيحة. وكذلك التشكيك في السفير الأميركي للاتحاد الأوروبي، غوردن سوندلاند، الذي يعتبر الشاهد الرئيسي حول المقايضة التي حاول ترامب عقدها مع زيلينسكي.
وبغض النظر عما ستسفر عنه مسألة عزل ترامب، وما إذا كانت ستؤدي بالفعل إلى عزله أم لا، فإنها سوف تترك أثراً كبيراً على المشهد السياسي والاجتماعي في أميركا التي دخلت دوامة الانقسام والاستقطاب بشكلٍ لم يحدث من قبل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق