إنهم يقتلون الحكايات الجميلة
أحمد عمر
هناك طرق يعرفها أولو العلم لتمييز العسل الأبيض من العسل الأسود. والعسل الأسود اسم لشراب قصب السكر، وشتان بينه وبين عسل النحل.
وقد انبرى أحد هواة العسل الأسود ففند هذه القصة الجميلة التي حزنت عليها، والتي تقول إن الشرطة اعتقلت رجلا كان ينظف سيارته الجديدة فوجد أن ابنه البالغ من العمر سنتين أخذ مسماراً وخدش به خد السيارة الأسيل، فغضب الأب وطفق يضرب على يد ابنه بمقبض المطرقة، فرأى الدماء فأدرك إنه آذى ابنه فأسعفه، وعندما أفاق الابن من البنج قال له: أبي، متى سينبت إصبعي؟ جرح الأنين فؤاد الأب الثاكل فخرج باكيا إلى السيارة، فوقع نظره على مكان الخدش وقرأ عبارة أحبك يا أبي التي كتبها بالمسمار، فحطّم سيارته، وفي اليوم التالي لم يحتمل الأب تأنيب الضمير على إصبع ابنه فانتحر.
وقال ناقد القصة الفحل:
هل هناك أحد ينظف سيارة بالمطرقة؟ وما علاقة المطرقة بالموضوع اصلاً؟ أيها السادة عمر الولد سنتان فهل يستطيع أن يكتب أحبك يا أبي؟ وهل يستطيع الكلام البليغ فيقول: متى سينبت إصبعي يا أبي؟ كيف قبضت الشرطة على الأب وهو منتحر؟
يحذرنا الناقد من أن ننساق وراء العاطفة ونترك العقل فلا نفكر بعمق، فتسرق منا عقولنا دون أن نشعر. الحكمة من القصة هي "لا تصدق كل ما يُقال".
لقد اختار الناقد مثالا مترعا بالعاطفة المحمودة، وليس من عيوب القصة سوى ذكر عمر الطفل، حتى إني لجمال القصة وجيشان العاطفة فيها غفلت عن عمره.
والناقد يفتري كذبا ويقول إن الأب كان ينظف السيارة بالمطرقة فليس في القصة ما يشير الى ذلك، وليس فيها ما يدل على أن الاعتقال جرى بعد الانتحار، وربما أطلق سراحه، وربما كان يصلح عطلا في السيارة، ونحمد الله أن الأب ليس سوريا.
أما عيوب النقد الأخرى فهي مشاكسة، مثل انتقاد عبارة الشعر التي نطقها الطفل فالطفل غالبا ما يقول الشعر. وفي تعريف الشعر يقول فقهاء الشعر والعارفون بصناعته إنها الطفولة المستعادة قصدا.
وذكرتني القصة أني صحت بطفلي وهو من عمر طفل القصة، صيحة كصيحة إسرائيل في السور، عند دفعه منصة التلفزيون فأسقطه، وكان يتعلم المشي ثم ضممت طفلي وندمت.
وتذكرت أن جاري وقع له أمر مشابه فصفع طفله وكبر طفله وما يزال يعاني من تبول لا إرادي ويفيق في الليل مذعورا من صفعة أبيه القديمة. ولعل القارئ يعرف قصصا مشابهة، فالسيارة والتلفزيون أمتعة ثمينة في بلادنا والبشر رخيصون.
قلنا إن الأطفال شعراء، ويمكنني أن أتذكر أني قلت لطفلي في إحدى الليالي: انظر يا بني إلى القمر إنه يشبه الموزة، فقال: اقطفه لي حتى آكله. فلا مشاحة أن الطفل قادر على استعارة أحوال النبات للإصبع، نحن نحبُّ الأطفال لأنهم شعراء، ونحبُّ الشعراء لأنهم أطفال كبار.
وتذكرت صورة الأطفال الثلاثة المعتقلين بتهمة تهريب الدخان في إدلب وأنا أقرأ قول بطل القصة الذي فقد إصبعه: متى سينبت إصبعي يا أبي، ويمكن أن نتذكر قصة قنديل أم هاشم.
إنهم يقتلون القصص الجميلة في وسائل التواصل التي يتحاذق فيها المعلقون، وقد روى لنا أحد الظرفاء قصة أكثم بن صيفيٍ بصيغة جديدة، وكان قد دعا أولاده عند موته، فاستدعى إضمامةً من السهام. وناول أكبرهم حزمة السهام فقال له اكسرها يا بني، فكسرها الابن فقال الأب: ثكلتك أمك لقد أفسدت القصة، ومات كمدا وغيظا.
ومن القصص التي أجدها كثيرا عن فضيلة الحجاب وسخرية المتحاذقين من تشبيه صاحب القصة الصبية المحجبة بقطعة السكر المكسوة، والسافرة بقطعة السكر المكشوفة للذباب، فأجد تعليقات الذباب تسخر من التشبيه.
ونقل كاتب السطور مرة قصة لعمر بن الخطاب فعلق عليها أحد المشاكسين المغرمين بالرجل العنكبوت: عمر شخصية أسطورية!
ووجدت قصة يرويها صديق لي ختمها قائلا: والله غالب على أمره، فقال له أحد محبي سلاحف النينجا: أفسدت القصة بذكر الله، فهل تؤمن بالغيبيات في عصر العلم؟ فدافع صاحب القصة عن نفسه قائلا: هي جملة تقال، مثل عزومة مراكبية، فقررت النزوح من وسائل التواصل والاعتكاف في جزيرة نائية.
وإن كاتبا حصيفا تحدث عن السيرة النبوية والمسلسلات المقتبسة منها فجاءه سؤاله: وهل تجيز تمثيل شخصية الرسول الكريم الذي أوتي شطر الحسن؟ فقال: كما يمثلون دور المسيح في أفلامه، يمثل الممثل الدور مرة واحدة ويستقيل من التمثيل، فتفقدت إصبعي وطلقت وسائل التواصل الاجتماعي وكدت أن أحطم سيارتي وحسابي الإلكتروني.
آخر الحكايات "الصادقة" هي أن إلهام شاهين، صاحبة العاصفة الغبارية وشوارع النار، نذرت أعضاءها للتبرع، فسألت صاحب الخبر عن العضو الذي تبرعت به، هل هو كبدها ام طحالها أم قرنية العين؟ فقال: بعد الموت يا أستاذ، فأعجبت بكرمها أكثر من أعجاب الصحف القومية المصرية بكرمها فطار ذكرها في بعض وسائل التواصل، وأن شعب مصر سينعم بأعضائها وقلبها النابض العطوف. وصدق ما يقال فهي صادقة، وأشك أن تجد عضوا من أعضائها ينفع بعد هذا العمر الذي قضته في النضال.
ومن الحكايات الفنية "الصادقة المصدوقة" أن دريد لحام في مناسبة تكريمه في مصر كرر نكتة قديمة قالها في مسرحية قديمة له، أنه لا يخاف إلا من الله والمخابرات، وعدّوه بطلا لأنه يشهر بالمخابرات التي ترعب الناس، ويجعلونها مقدسة في دولة الأسد العلية. ثم أعادها بالأمس فأفسد القصة، وزاد عليها فقال إنه يخاف من المخابرات أكثر من الله. ووجدناه يكرُّ على الإسلام والمسلمين لأنهم جعلوا الله مخيفا وهو محبة، فرأس الحكمة عند الفنان الشجاع والفقيه هو محبة الله. وقد صفق له الجمهور على حسن فقه الدين والدولة.
ثمة قصص سعيدة وصادقة، مثل خبر قيس سعيد بعد شهر من تعليق الدستور مصلوبا حتى باض الطير في صدره، أي صدر الدستور، أعلن تولية أنثى رئيسة للحكومة وأخبرنا هو بنفسه بأنها المرة الأولى في تونس بل في البلاد العربية، وأنه سيدخل سجل غينيس، واتصل هو بالسيدة ميركل ليبلغها الخبر مع أن ميركل رحلت وتقاعدت، وأبلغ سيدة أخرى هي السيدة لويز موشيشيكو أبو، رئيسة المنظمة الدولية الفرنكفونية، فوجدت طربا على صفحات كثيرة ورؤساء تحرير صحف عربية فرانكفونية وقالوا: ما ضرّ قيس سعيد ما فعل بعد اليوم، خلاص، سينعم الشعب التونسي بالعدل وسيرعى الذئب مع الغنم ما تولت أنثى الحكومة، فهن حسب الإحصاءات اقل فسادا من الرجل، فالمرأة لا تسرق الجيوب لكنها تسرق القلوب وقد سرقت قلوب كل هؤلاء الفرحين.
ظاهر الحكاية يقول إن الفارس قيس بن معدي كرب يحمي الظعائن، وباطنها يقول إنه يحتمي بها.
twitter.com/OmarImaromar
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق