الثلاثاء، 13 مايو 2025

الغرب يزيف التاريخ.. لماذا تحتاج أمتنا إلى قراءة تاريخ الأندلس المجهول؟

 الغرب يزيف التاريخ..

لماذا تحتاج أمتنا إلى قراءة تاريخ الأندلس المجهول؟




من حق أمتنا أن تقرأ تاريخها لتسترد ذاكرتها، وتبني مستقبلها بالمعرفة، فالاستعمار الغربي منع الأمة الإسلامية من معرفة الكثير من الحقائق التي يمكن أن تسهم في زيادة وعيها، ومن أهم تلك الحقائق ما حدث في الأندلس.

وأنا أدعو لإعداد جيل جديد من المؤرخين الذين يبحثون عن الحقائق التي أخفاها الاستعمار، ويكافحون لتقديم رؤيتهم المستقلة للأحداث، ويبحثون عن تفسير لها، فالمعركة حول التاريخ ترتبط بتحرير الإنسان والأوطان والعقول والقلوب، والاستقلال يجب أن يقوم على أساس الوعي بكفاح الأمة للمحافظة على هويتها ووظيفتها الحضارية.

في عام 1992م، كنت أقوم بتدريس مقرر نشأة وسائل الإعلام وتطورها في كلية الإعلام جامعة القاهرة، وبالرغم من تخصصي في تاريخ الصحافة، فإنني كنت ملتزمًا بتدريس كتاب أستاذي خليل صابات، وفي إحدى المحاضرات وجدت أن الأستاذ أقحم عبارة لم أجد مبررًا لها في هذا المقرر؛ وهي أن أم أبي عبدالله محمد الثاني المعروف بأبي عبدالله الصغير آخر ملوك غرناطة قالت له عندما رأته يبكي وهو يغادر عاصمة ملكه: ابك كالنساء على ملك لم تدافع عنه كالرجال!

تجاوزت العبارة ولم أقلها في المحاضرة، لكنني عندما عدت إلى بيتي بكيت بألم وحرقة وحسرة، وطرحت على نفسي سؤالًا: 
هل تخلى المسلمون عن غرناطة ولم يدافعوا عنها وتركوها للصليبيين بدون مقاومة؟! ألم يدافعوا عن الأندلس كالرجال؟! 
ومن الذي نقل تلك المقولة؟! ولماذا؟! 
لم يتقبل عقلي الذي تعلم النقد والبحث ذلك، وقررت أن أبحث عن الحقيقة، كيف يمكن أن تسقط الحضارة العظيمة التي بناها المسلمون في الأندلس دون أن يدافعوا عنها كالرجال؟!


جريمة ضد الإنسانية


وإليك الآن بعض الحقائق التي اكتشفتها بعد معاناة طويلة، وبحث شاق، التي أكافح لتحويلها إلى روايات، لأكتبها بقلب الأديب، فأنا أرى أن الأدب هو الأكثر قدرة على تصوير مآسي التاريخ وقصص البطولة، وأنه يمكن أن يسهم في إعادة الوعي والذاكرة والحلم إلى الأمة.

من أهم هذه الحقائق أن الصراع بين الأمة الإسلامية والصليبيين مفتوح ومستمر ومتطور، ويتخذ أشكالًا مختلفة، ويحقق الطرفان انتصارات ويتعرضان لهزائم، وأن الهزائم العسكرية لا يمكن أن تنتج تأثيرها إلا عندما تتحول إلى هزائم نفسية، لذلك عمل الغرب لتحويل هزيمة المسلمين العسكرية المادية أمام جيوشه إلى هزيمة نفسية تكسر القلوب، وتدفع العقول إلى التوقف عن البحث عن أسباب النهضة والصعود، واستخدم الغرب الدعاية لترويج سردية تشكل إدانة للمسلمين وتبرئة الصليبيين، وتحميل المسلمين المسؤولية؛ فهم ضعفاء لم يتمكنوا من الدفاع عن حضارتهم ودينهم، وإخفاء الحقائق التي تنفي صحة تلك السردية.

الأندلس.. وحالة الانكسار

ولقد عملت طوال حياتي على مواجهة الغزو الثقافي، وتحرير الأمة من الهزيمة النفسية، وأرى أن التاريخ يسهم في بناء إستراتيجية شاملة لمواجهة الهزيمة النفسية؛ حيث يوضح أن الأمة تستطيع أن تنهض وتقدم مفاجآت يعجز الذين يركزون على قراءة الواقع عن تصورها؛ كما حدث عندما انتصر صلاح الدين الأيوبي على الصليبيين، وكما تمكنت الأمة من الانتصار على التتار.

ولكن لماذا الأندلس؟! كان سقوط الأندلس هزيمة مريرة وقاسية للأمة الإسلامية استغلها الغرب لإلحاق هزيمة نفسية بالأمة، لذلك دفع بعض الكتَّاب والمؤرخين للتركيز على لحظة الانهيار والسقوط، وتحميل المسؤولية للمسلمين، والادعاء أنهم لم يدافعوا عنها كالرجال، وأدى ذلك إلى حالة انكسار نفسي عانى منه الكثير من المخلصين فتجنبوا مواجهة الحقيقة، والبحث عن الأسباب، وتوعية الأمة.

ولأن الأندلس كانت تشكل نموذجًا لتقدم الأمة الإسلامية الحضاري، وتجلت فيها قدراتهم على الإبداع في كل المجالات العلمية والأدبية؛ فقد شكل سقوطها صدمة نفسية وحضارية؛ وهذا يسهم في تفسير الكثير من الأحداث، من أهمها أن فرديناند ويزابيلا قرر إحراق كل كتب المسلمين، وظلت النيران مشتعلة ثلاثة أيام بلياليها في مكتبات الأندلس، وتم حرق ملايين الكتب، وهذا يشكل جريمة في حق الحضارة والإنسانية والفكر والعلم والأدب والتاريخ والمعرفة والتعليم.

لكن بعض المثقفين الصليبيين تمكنوا من إخفاء بعض الكتب في مجال العلوم المادية التطبيقية، التي تضمنت شرحًا للمنهج التجريبي، وتمكنوا من نقلها إلى بعض دول أوروبا، وهذه الكتب شكلت أساسًا للثورة الصناعية التي كانت أهم أسباب تقدم أوروبا والموجة الاستعمارية الحديثة التي سيطرت الدول الغربية فيها على معظم أراضي المسلمين، وإخضاع الشعوب.

هذه الثورة الصناعية كان يمكن أن يقيمها المسلمون في الأندلس، فقد وضعوا أسسها العلمية، وطوروا منهجها، لكن الاستبداد كان أهم العوامل التي جعلت المسلمين ينشغلون بخلافاتهم الآنية عن رؤية المستقبل، ودفعت بعض ملوكهم للتحالف مع الصليبيين.

من دروس الهزيمة المرة


في الوقت الذي كانت فيه أوروبا كلها تجمع قوتها، وتوحد جيوشها تحت قيادة وايزابيلا، كان ملوك المسلمين قد وجهوا جيوشهم للحرب ضد بعضهم وتحالف بعضهم مع الصليبيين، وخذلت الأمة كلها المسلمين في الأندلس، وبالرغم من كل ذلك حقق المسلمون انتصارات عظيمة، ودافعوا ببطولة عن مدن الأندلس، لكن بعضهم رأى أن انسحابهم من بعض المدن للتحصن في مدن أخرى يمكن أن يوقف هجوم الصليبيين، وكانت تلك بداية الهزيمة التي بدأت تتسلل إلى النفوس، وتغذيها الدعاية الأوروبية التي كانت قد تطورت خلال الحروب الصليبية.

ولقد تملكت نفوس الصليبيين شهوة الانتقام لهزائمهم أمام المسلمين في فلسطين، والنصر العظيم الذي حققه صلاح الدين الأيوبي، فاستغلوا لحظة ضعف المسلمين في الأندلس بسبب الاستبداد؛ فوجهوا كل جيوشهم بهدف الاستيلاء على الأندلس، وتدمير الحضارة التي يفخر بها المسلمون، وهذا يشكل هزيمة نفسية للمسلمين أشد وأقسى من الهزيمة العسكرية.

لماذا يجب دراسة قصة الصغير؟

لكي نعرف سبب الهزيمة يجب أن ندرس قصة عبدالله الصغير بوعي، لندرك أن الاستبداد لا يمكن أن يحقق نصرًا مهما كانت قوته، فوصوله إلى الحكم كان بداية السقوط، فالصراع كان قد اشتد داخل أسرة بني الأحمر الحاكمة، وكان أبوه أبو الحسن قد تعامل مع أهل غرناطة بقسوة شديدة، وفرض عليهم الضرائب القاسية، فتدهورت الأوضاع؛ ما دفع بعض قبائل غرناطة للتحالف مع عبدالله الصغير لإعلانه ملكًا بدلًا من والده عام 1482م، لكن قبائل أخرى أيدت أبا الحسن ضد ابنه، وبدأت مرحلة صراع على العرش بين عبدالله الصغير وأبيه وعمه الزغل، وأدى هذا الصراع إلى تمزيق الدولة، وأضعف مقاومتها ضد الهجوم الصليبي.

بعد أن استقر له الحكم حاول تصوير نفسه بأنه ملك شاب قوي، فشن حملة على الصليبيين انتهت بهزيمته عام 1483م في موقعة «لوس كولورادوس»، وتم أسره؛ حيث مكث في الأسر عدة سنوات، عقد بعدها صفقة مع وايزابيلا؛ بأن يكون حاكمًا على غرناطة تحت سلطتهم، وعاد ليحارب عمه الزغل بدعم الصليبيين.

وبعد أن أدرك الصليبيون ضعف قوة المسلمين نتيجة هذا الصراع، بدؤوا يفرضون الحصار على غرناطة الذي استمر 9 أشهر نفدت فيها المؤن وعانى الناس من الجوع والمرض، وكان عبدالله الصغير يفاوض الصليبيين سرًا للاستسلام وتسليم المدينة.

إنهم ينقضون المواثيق!

كان موقف الصغير ضعيفًا في الدفاع عن المدينة، وهذا يثير الشكوك حول شخصيته وعلاقته بالصليبيين، ومع ذلك فقد عقد معهم معاهدة في يناير 1492م تتضمن تسليم مدينة غرناطة لوايزابيلا في مقابل ضمان حياة سكان غرناطة وعدم التعرض لهم والإبقاء على حياتهم وممتلكاتهم، والسماح للمسلمين بالاحتفاظ بدينهم وشعائرهم، وعدم إجبارهم على التحول إلى المسيحية، واحتفاظ المسلمين بممتلكاتهم خاصة المساجد، وعدم منع من يرغب في الرحيل، وأن يحملوا معهم أموالهم.

وبمقتضى هذه الاتفاقية فتح الصغير أبواب المدينة ودخل وايزابيلا قصر الحمراء، ليشكل ذلك نهاية الحكم الإسلامي للأندلس.

لكن هل التزم الصليبيون بالمعاهدة؟ وماذا فعلوا في غرناطة بعد الاستيلاء عليها؟! نكمل القصة في الحلقة التالية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق