واقعية ترامب
ينتقلُ جنون العظمة عند الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، من اليقين بالهيمنة على حكم العالم إلى التصرّف بوصفه المالك لهذا العالم، البشر والجغرافيا والتاريخ والأموال والموارد الطبيعية.
منذ اليوم الأوّل لظهوره وترامب يطبّق سياسة "أميركا أولًا" مع ما يستتبع ذلك من يقين بأنّ لها الحقّ في إعادة رسم خرائط العالم بما يحقّق مصلحتها، وهو ما ينعكس في استباحة حدود الدول وتوهّم سلطة مُطلقة في اختيار حكّام لدول الكوكب، وعزلهم وإزاحتهم واستبدالهم، والأخطر هو شرعنة أعمال القرصنة والنهب بزعم إنّ من شأن ذلك تحقيق سلام العالم على يد القيصر الساكن في البيت الأبيض.
يزدري ترامب العالمين، الثالث والأوّل على السواء، يمارس عنصريته على الأسود والأبيض، ويستهين بسيادة الدول على أراضيها وثرواتها وحقّها في اختيار من يحكمها.
وما يتكلّم به ترامب ويفعله إزاء القارة الأوروبية يذهب به على مضمار العنصرية بعيداً.
يصل هجوم ترامب أخيراً على قادة أوروبا إلى مرحلة غير مسبوقة من الاستهانة والاستخفاف بمقاربة أوروبا تجاه الحرب الروسية الأوكرانية، حيث يتهمهم بأنّهم ضُعفاء يدمّرون بلدانهم، وأنّ عليهم تغيير أيديولوجيتهم إذا ما أرادوا الاستمرار في الحلف الأميركي،
لكنه يتحوّل من النقد إلى البذاءة العنصرية حين يجدّد استهدافه عمدة لندن المسلم صادق خان، إذ يصفه بالمقزّز والشرير، وغير ذلك من مُفردات السباب النابية، لا لشيء إلا لأنّ الأخير مسلم ولا يتبنى نهجاً عدائيّاً للمهاجرين واللاجئين من دول العالم.
في الأزمة الأوكرانية الروسية، يريد ترامب فرض سلام يقوم على شرعنة القرصنة واقتطاع مساحات من الدول بحجّة الواقعية، والتي تعني وفق العقيدة الترامبية الاستسلام للأمر الواقع والتخلّي عن قيم مُحترمة وراسخة مثل قدسية التراب الوطني والكرامة الوطنية التي لا يبقى لها وجود إن رضخت الدول المُعتدى على أراضيها لغطرسة وجبروت الاحتلال الأجنبي، وهو ما يفعله ترامب في خطوه لوقف الحرب الإسرائيلية على قطاع غزّة، وهي الخطّة التي تمنح العدو الصهيوني حريّة إعادة ترسيم حدود غزّة وفرض خطوط حمراء وصفراء تُتيح لها خلق واقع جغرافي جديد تبتلع معه أكثر من نصف مساحة القطاع.
يريد ترامب من أوكرانيا الرضوخ للواقع الجغرافي الجديد بعد احتلال روسيا مساحات من أراضيها ثم يسمّي ذلك "السلام" الذي هو رسوله وصانعه، فترفض أوروبا "هذه الواقعية اللصة"، فينهال عليها بالسباب والتهديد والوعيد والاتهام بأنّها تعطّل السلام، أمّا في حالة غزّة فلا صوت يرتفع من الدول الشقيقة لفلسطين ضدّ الرئيس الأميركي، وهو يقترب من تعيين جنرال أميركي حاكمًا عسكريًا على غزّة، فيما يترأس ترامب شخصيًا رئاسة مجلس السلام المزعوم الذي يدير شؤون القطاع، ويتولى إنهاء وجود المقاومة ونزع سلاحها.
في أقصى الغرب، يتفاخر دونالد ترامب بأعمال القرصنة التي تُمارسها القوّات الأميركية على سفن النفط الفنزويلية في إطار تشديد الحصار على كاراكاس حتى إسقاط رئيسها المُنتخب وتعيين سيّدة لا تخفي عمالتها لواشنطن وانحيازها إلى تل أبيب بدلاً منه، ثم يُعلن للعالم أنّه الشخص الذي أرسله الله لكي يجلب السلام لمنطقة الكاريبي، كما في غزّة، ثم أوكرانيا، وهو السلام القائم على مكافأة الجاني وإجبار الضحية على منح الشرعية السياسية والأخلاقية لاحتلاله وقتل شعبه، بحجّة أنّ هذه هي الواقعية.
في ظهور ترامب على المسرح الأميركي رئيساً أوّل مرّة في 2017، كتب مدير معهد التاريخ المعاصر بمدينة ميونخ الألمانية أنّ هناك أوجه تشابه بين صعود النازيين في ألمانيا في عام 1930 ودونالد ترامب، خصوصاً في تآكل النظام الحزبي ومحاولة إيجاد حالة من انعدام اليقين القانوني. وفي ما بعد تناولت كتابات عديدة الموضوع ذاته.
قريبًا سيضع العالم تعريفًا للخير يقول إنّ كلّ ما هو ضدّ الترامبية خير، وكلّ ما يتناغم معها ويحترمها وينظر لها بعين التقديس هو الشرّ المطلق، وما أكثر الذين يقدّسونه في عالمنا العربي التعيس!

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق