الخميس، 4 ديسمبر 2025

من المقاطعة إلى الناقورة: سلّموا الأسرى.. سلّموا السلاح

 من المقاطعة إلى الناقورة: سلّموا الأسرى.. سلّموا السلاح

وائل قنديل

لم تنتظر إسرائيل أكثر من 24 ساعة حتى قدّمت أوّل عينة من حصاد أوّل لقاء مباشر بينها وبين الدولة اللبنانية في بلدة الناقورة بأقصى الجنوب اللبناني، وهو الاجتماع الذي زفّه رئيس الحكومة اللبنانية، نواف سلام، للجماهير خبراً سعيداً وتاريخيّاً ومبشّراً بمرحلة جديدة من السلام والأمان، حيث قصف طيران الاحتلال بعنف غير اعتيادي عدّة قرى لبنانية، زاعماً إنّها مراكز عسكرية لحزب الله اللبناني، عدوّها اللدود الذي يشاركها العداء له الرجل العائد إلى لبنان، مُحمّلًا بثقل المنصب الدولي ليرأس حكومته، في أعقاب سلسة الجرائم الصهيونية التي استشهد على أثرها رمز المقاومة  حسن نصر الله.

ما أعلنته تل أبيب وتكتّمت عليه بيروت أنّ اللقاء الأوّل لم يشتمل على التنسيقات الأمنية تحت الرعاية الأميركية فقط، بل قفز إلى مناقشة التعاون الاقتصادي في مرحلة ما بعد التخلّص من سلاح المقاومة اللبنانية، السلاح الذي اجتمع مجلس الوزراء اللبناني، عقب الضربات الصهيونية على الجنوب، لكي يستعرض ما أُنجز في الملف الذي يزعج الاحتلال ويناضل نوّاف سلام من أجل حسمه.

في أجواء دافئة مثل هذه، وخصوصاً بعد تعيين دبلوماسي لبناني سابق، وسبّاق في العداء لمشروع المقاومة، كان من المفترض أنّ العدو سوف يقدّم ما يشجع حكومة سلام على تسريع الهرولة على طريق السلام، غير أنّ الصهيوني، كعادته، لا يترك فرصة تمرّ من دون استثمارها في توجيه مزيد من الضربات للبنان، وهو موقنٌ بأنّ وضع عبارة "أهداف لحزب الله" سيجعل ردّة الفعل الرسمية أقرب إلى سكوت من ذلك النوع الذي يسمّونه "علامة الرضا".

تحت تأثير نشوة السلام القادم على أجنحة المقاتلات التي تقتل مبدأ مقاومة الاحتلال، يندفع لبنان على الدرب ذاته الذي سار فيه أنور السادات قبل أكثر من نصف قرن، والذي بدأ باجتماع يكاد يكون صورة من اجتماع الناقورة اللبنانية أوّل من أمس، حيث لم يمرّ سوى أسبوعين على عقد أوّل لقاء مباشر بين نظام السادات والصهاينة، حتى وقّع أوّل اتفاق لفضّ الاشتباك العسكري بين دولة عربية والعدو الصهيوني. بدأت القصّة في 28 أكتوبر/ تشرين الأوّل 1973 في خيمة نُصبت عند الكيلو 101 على طريق القاهرة- السويس، بإشراف الجنرال أنزيو سيلاسفيو، ممثّلاً للأمم المتحدة، وحضور وفد مصري برئاسة الفريق محمد عبد الغني الجمسي، ووفد إسرائيلي برئاسة الجنرال أهارون ياريف.

ليلة واحدة من التفاوض المباشر قادت إلى توقيع أوّل وثيقة بين دولة عربية والكيان الصهيوني منذ الهدنة في 1949، لينطلق بعدها قطار التطبيع الذي دهس كلّ قدسية للتراب وللدماء، ودشّن زمناً من الضياع، صنعه هنري كيسنجر وزير خارجية الولايات المتحدة، المُخلص لصهيونيته، والذي جاء في العام التالي (1974) لتحتفل به قاهرة السادات بعرض مُثير نال استحسانه، تبارت في تقديمه أشهر راقصتين مصريتين في ذلك الوقت.

سنوات قليلة للغاية، حتى كانت الراقصة التي أذهلت كيسنجر، نجوى فؤاد، ترقص مجدّداً لأشهر مجرمي الهمجية الإسرائيلية إرئيل شارون في فندق مينا هاوس، المُطلّ على أهرامات الجيزة، احتفالًا بتوقيع أوّل اتفاقية تطبيع بين السادات والاحتلال الصهيوني، لتكون اللبنة الأولى في بناء السلام الزائف الذي جعل إسرائيل بعد نصف قرن من بداياته تتصرّف بمُنتهى الحرية والأريحية في الشرق الأوسط كلّه، بعد أن التهمت العرب، دولة إثر أخرى، على موائد السلام الذي لم تعرفه المنطقة أبداً، فكانت "أوسلو" التي دشّنت حالة من الضياع الحضاري، جعلت وظيفة الرجل الأوّل في كيان اسمه منظّمة التحرير الفلسطينية ملاحقة ومطاردة والتحريض والإبلاغ عن كلّ أشكال المقاومة للاحتلال، ليصبح "التنسيق الأمني" بديلاً للكفاح الوطني ضدّ المحتل، لينتهي الأمر إلى أن يصبح عداء رئيس منظّمة التحرير فصائل وقوى المقاومة الفلسطينية أشدّ وأعمق من عداء واشنطن وتل أبيب لها، إلى الحدّ الذي دفعه إلى زرع مليشيات من العملاء في عمق غزّة، تعمل مع الاحتلال مباشرة لتعقّب المقاومين، ثم يطلق مقولته التاريخية المُشينة "سلموهم الأسرى يا ولاد الكلب".

في لبنان، الذي ضاق بمقاومته، وضجّ بإرثه العظيم في الكفاح ضدّ المُحتل، تأتي "الناقورة" لتذكّرنا برقصة السلام الأولى، التي قادت إلى "سلّموهم الأسرى"، إذ تمضي الأمور باندفاع أشدّ على صيحات "سلموا السلاح"، يردّدها نواف سلام ثلاث مرّات يوميّاً، بجرعة مكثّفة، وكأنّها الدواء الشافي، بينما هي في الحقيقة الوصفة النموذجية للانتحار بابتلاع مادة شديدة السمية.. واسألوا التاريخ!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق