المشهد المصرى: حكاية ملخبطة!
يقول الناس ان المشهد المصرى معقد وملىء بالامور غير المفهومة والمرتبكة والمتداخلة "والملخبطة" التى تجعله عسيرا على الفهم.
وتلك محاولة للقول بان كل شىء واضح فى الصراع الجارى، وان لاشىء غير مفهوم بل الامور واضحه تماما، الا ما كان فى ظلال الصورة وما يجرى خفية من بعض الاتفاقات او التوافقات والتى هى امور عادية فى كل ظرف ومكان.
فى الجانب الاول والاهم والمفتاح لاجلاء كل شىء فى المشهد المصرى، هو ان البلاد تشهد حالة من حالات الصراع على السلطة، وما يجعل هذا الصراع غير مفهوما او مربكا انه صراع يجرى باستخدام ادوات غير معتاد المصريون على فهمها فى هذه الخانة من الصراعات السياسية.
لقد تابع المصريون صراع عبد الناصر مع القوى القديمة الحاكمة لمصر ما قبل عام 1952، ووقتها كان الصراع واضحا بين والمجموعات السياسية المتصارعه، كما كان الصراع الاجتماعى محدد الملامح "جدا".
كانوا عسكريين وصلوا الى السلطة، وفى مواجهتهم ولاقصائهم تحركت الاحزاب والقوى القديمة –الحاكمة قبل الانقلاب-فصار الصراع واضح المعالم بين عسكريين واحزاب قديمة.
ولم يكن نشاط الحركة الجماهيرية حاضرا بتاييد هذا الطرف او ذاك على نحو منقسم وفعال فى الشوارع.كان العسكريون يتحركون بقوة المدفع والدبابة والرشاش ولم تكن القوى الحزبية القديمة فى وضعية المقاتلين المستندين الى حركة شعبية جماهيرية مقاومة.
ومن بعد تحركت قيادة الانقلاب نحو الشعب عبر اجراءات اجتماعية، حشدت فيها التاييد والدعم الشعبى، الذى لم يعد ممكنا للنخب القديمة ان تواجهه، حتى لا تظهر كصاحبة مصالح معادية لمصالح الشعب.
وعاش المصريون من بعد صراعا على السلطة سمعوا عنه فى البيانات الرئاسية من طرف السادات المنتصر على ما سمى بمراكز القوى.
لم يكن للشعب علاقة او دور اذ جرى الصراع مكتوما داخل اروقة السلطة وصنع القرار، دون ان يتدخل الجمهور العام الا بسماع الاشاعات والروايات لعدة ايام، اذ فاجا السادات معارضيه -داخل اروقة السلطة -بقرارات الاقالة والمحاكمة وانتهى كل شىء فى عدة ايام.ومن بعد جرى صراع بين المعارضة والسادات، لم تبرز فيه فكرة افصاء الرئيس من السلطة، اذ اكتفت المعارضة بابراز معارضتها لسياساته دون ضغط شعبى يرفع شعار اقصاؤه او اقالته.
الان يعيش المصريون صراعا على السلطة من نمط اخر.هو صراع يجرى على الهواء مباشرة.
ومثل هذا النمط من الصراعات المبثوثة على الهواء يربك المتابع عبر ادخاله فى دوامة التفصيل والاخبار الملتبسة والمتعددة فى اليوم الواحد وعبر الندوات والمؤتمرات التى يحرص قادتها على الالتواء فى طرح الفكرة والخط السياسى الحقيقى، اذ لا احد من الكبار يمكنه ان يتحدث صراحة وبوضوح عن انه انقلابى على سلطة شرعية، اذ الحديث يجرى عن دستور ونائب عام ومظاهرات وانتخابات وقوانين.
لكن كل ما يجرى الان اذا ما تم جمعه فى خطوطه العامة لا يظهر فى الخلاصة الكلية، الا اناس يحاولون الانقلاب على سلطة شرعية، مهما اختلفت الفعاليات ومجريات الاحداث هنا وهناك فى النوع والتوصيف، من ندوات ومظاهرات واضطرابات وعنف متنقل هنا وهناك، وفى ذلك يبدو شعار"الثورة مستمرة" هو الكاشف لحالة الصراع على السلطة..فاستمرار الثورة ليس الا تاكيد على اقصاء الحكم الراهن والانقلاب عليه..بالفعل الجماهيرى، وهو ما توضحت ابعاده مع اعتراف بعض القيادات بايمانها وممارستها للعنف !.
وهذا النمط من الصراع يحشر فيه الجمهور العام، اذ مضى عصر الانقلابات والصراعات داخل السلطة وبين العسكر والمدنيين، وهذا ما يزيد "البلة طين"، اذ المصرى يجد نفسه فى صراع حول وقائع جارية بشكل يومى يشارك فيها جمهور اخر،وهو كان طوال فترة الثورة فى حلم الاندماج الوطنى الرومانسى، كما هو قد تعود من قبل ان يكون الصراع على السلطة جاريا فى غرف مغلقة او خلف الجدران.وبالتالى صارت فكرة الصراع على السلطة حالة مستجدة عليه، فى نمطها، وهو صار مشاركا فى دوامتها دون ان يدرك توصيفها او انه فاعل دون ان يدرى فى صراع على السلطة.
اصل الحكاية
فى اصل الحكاية، فقد كان متصورا من قبل البعض انهم سيغادرون الميدان حاملين احد الزعماء ليدخل قصر مبارك ويبدا فى اصدار الاوامر، وهو ما قد جرى التمهيد له اعلاميا عبر صناعة زعيم يرعى الثورة ولا غرض له الا صناعة الثورة وخدمة الشعب.
الم تر كيف فعلوا للدكتور البرادعى قبل واثناء الثورة، اذ حرضوا الناس على حبه والشعور بالامتنان له ان جاء من الخارج "ليخلصهم" من كابوس مبارك.
والم تر كيف انضوى الرجال من كافة التيارات والرموز تحت لواء البرادعى وصاروا يلتفون حوله ويجمعون له لتوقيعات.
كان متصورا ان يجرى انقلاب عبر حالة الثورة الجماهيرية على ذات طريقة الانقلابات العسكرية، لكن على راس جمهور لا على راس قوات، لكن الحركة الجماهيرية فى الثورة، حملت مضمونا اخر يرفض هذا النمط من المصير للثورة المصرية.
لم يكن متصورا لدى من حاولوا تطبيق هذا السناريو، مدى حجم النفوذ والجماهيرية التى تتمتع بها الحركة الاسلامية فى الشارع، ولا قدرتها على ادارة العمل السياسى وقيادة الحراك الثورى، وبشكل خاص يبدوا ان السناريو كان مرتبا وفق تقدير يستبعد مشاركة الحركة السلفية فى الحراك الثورى.
كما لم يكن متصورا لدى صناع هذا السيناريو ان قيادة القوات المسلحه على هذا القدر من الثبات الوطنى فى ادارة اوضاع المرحلة الانتقالية، وانها رغم كل العلاقات مع امريكا ورغم كل الضغوط التى تمارسها هى واوروبا، لن تحيد عن المصلحه الوطنية العامة.
ويبدوا ان صانعوا هذا السيناريو قد اخطئوا ايضا، فى قياس مدى مساهمة وانخراط الراى العام المصرى بوعى وبصيرة فى تلك الثورة.
انتهت وفشلت محاولة فرض السيناريو عبر صيغة الانطلاق من الميدان الى القصر، لاحداث انقلاب لا ثورة، او لتحويل الثورة الى انقلاب، فارتبكت كل الخطط وجرى حرص من اصحاب الرؤية الانقلابية على احداث تمايز واختلال واضطراب داخل صفوف كانت متراصة طوال ايام الثورة الاولى وجرى التحول الى سيناريو اخر يقوم على تحقيق نفس الهدف، من خلال خطة اخرى، جرت فيها مواجهة القوى التى منعت تحقيق السيناريو الاول وهى بشكل خاص الحركة السلفية والقيادة العسكرية للمرحلة الانتقالية –والحركة الشعبية غير المنتمية لاحد من القوى السياسية.
السيناريو الثانى
جرى الذهاب الى سيناريو اخر، كان ملخصة ان يجرى الوصول الى نمط التغيير الذى كان مستهدفا بوصول الزعيم، لكن من اعلى هذه المره، عبر ضغط مكثف على المجلس الاعلى للقوات المسلحه، وفق عمليات معقدة من عنف وابتزاز وتهديد، كما جرت محاولة مستميتة للوصول للسلطة عبر ما سمى وقتها بالمجلس الرئاسى المدنى، وهو ما كان يتطلب حملة شرسة لتفكيك الدور الشعبى –عبر الفتن الطائفية واحداث العنف –وعبر نشر شائعات مربطة للشعب تتلخص اهدافها فى ابعاد الشعب عن ساحة الصراع الوطنى سواء عبر الهائه فى مشاكله الفئوية او عبر اشعاره بالخوف..الخ،
كما تطلب شن حملة شرسة على الحركة الاسلامية –السلفية خاصة-وهو تابعه الجميع فى ما لفق او جرى تصيده وفيما جرى من تشهير اعلامى بالتيار وفكره وشخوصه وقادته.
كان مطلوبا ومستهدفا اظهار ان العسكر فشلوا وان بقاؤهم وحدهم فى السلطة سيخرب البلاد.
وكان مستهدفا الوصول الى السلطة تدرجيا، وفى ذلك لم يكن هناك الا المواجهة بحملة شرسة على الحركة الاسلامية، وعلى الحركة الشعبية او الشعب كله.
هنا حدث التقاء فى الاهداف والضرورات بين الحركة الاسلامية وبين القادة العسكريين الذين بدى انهم اتخذوا قرارا واضحا بتسليم السلطة لبرلمان ورئيس منتخب، مع الاصرار على ضمان وضعية وتاثير ودور القوات المسلحه من جهة، والعمل على الناغم مع الضغوط المختلفة من كافة الاطراف.كما حاز الطرفان الاسلامى والعسكرى على رضا وقناعة الجمهور العام، وفق ما اظهرته نتائج التصويت والانتخابات ونسبة الحضور فيها.
وقد جرت واقعه له دلالة حاسمة.
فحين احتشدت بعض من الجموع فى ميدان التحرير وصارت تضع اسم البرادعى رئيسا للوزراء، تحدث المشير طنطاوى مهددا –بلطف –بالعودة الى الشعب فى استفتاء حول المرحلة الانتقالية، ثم قام بتعيين الدكتور كما الجنزروى رئيسا للوزراء.
كان اعلانا بعدم تمكين من استهدفوا تمكينه.
وقد قرا الكثيرون السيناريو كالتالى :لقد استهدف الانقلابيون الوصول الى موقع رئيس الوزراء، لكى يصنعوا مركزين للحكم، سرعان ما ستصطف القوى الغربية الى جانب احدهما وهو البرادعى لصناعة ازمة فى داخل السلطة تنتهى باقصاء المجلس الاعلى للقوات المسلحه.وفى الجانب الاخر جرت محاولة لاقرار مبادىء دستورية (وثيقة السلمى ومحاولات يحيى الجمل ) تمنع اقرار دستور يستجيب لراى غالبية الشعب فيما بعد.وفشلت المحاولة الانقلابية مرة اخرى.
السيناريو الثالث
مضى قطار الاستفتاءات والانتخابات –التى فرض اجراؤها فرضا على من رفض رافعا شعار الدستور اولا- ولم تنجح محاولاتهم الانقلابية عبر المبادىء الدستورية الملزمة من قبل بعض النخب للشعب، وفشلت حكايات المجلس الرئاسى المدنى وحكاية تولى رئيس وزراء بضغط من حشدوهم، وانتخب برلمان حازت الحركة الاسلامية على مقاعد حاسمة فى داخله (نواب وشورى ) ولم تعد هناك من محطات الا انتخابات الرئاسة.فجرى اللجوء الى سيناريو قطع الطريق على القطار، مع احتشاد كل القوى غير الاسلامية مع بعضها البعض.
ظهرت المحكمة الدستورية كاداة تعطيل، فجرى حل مجلس الشعب، وجرت الاعيب قانونية وسياسية لتعطيل اجراء الانتخابات الرئاسية، وجرت تفاصيل اخرى كثيرة خلال الانتخابات الرئاسية التى شهدت صراعا سياسيا وقانونيا وجماهيريا وكثير من وقائع العنف.وانتخب ووصل الى كرسى الرئاسة من لا ترضى عنه تلك القوى التى مارست فعلا انقلابيا دائما –سياسيا وجماهيريا وعنفيا-فجرى الانتقال الى سيناريو اسقاط الرئيس قانونيا وسياسيا وجماهيريا عبر تعطيل ومحاصرة قدرته على الانجاز، اى جرت محاولة للاستيلاء على السلطة عبر حركة انقلابية محددة الابعاد والاهداف والوسائل، وقد وصلت ثقة الانقلابيين بنجاحهم ان ذهب احد القادة الانقلابيين الى احد وزراء الحكومة الحالية المنتمى لتيار سياسى وطلب منه الاستقالة من الحكومة، فى مقابل الحصول على موقع رئيس الوزراء بعد انهاء حكم الرئيس مرسى.
السيناريو الحالى
وصل الرئيس للحكم، وعبر صناديق الانتخاب وسحبت ورقة المجلس الاعلى للقوات المسلحة من دفة ادارة الحكم والصراع على السلطة،وصار منطقيا ان تنتهى حكاية المجلس الرئاسى المدنى..صرنا امام مرحلة جديدة، وهنا ظهر اكثر من اى وقت مضى، كيف تجرى لعبة خلط الاوراق وكيف ان الامور صارت مربكة وان قراءة الاحداث صارت صعبة ومعقدة.المواطن والمتابع يجد من كانوا فى صفوف موحدة فى ميدان التحرير صاروا خصوما وربما اعداء. وكيف ان من انتخب صار هناك من يشكك فى مشروعية وصوله للسلطة، وبدات معركة مطاردة للرئيس وللاخوان، وبدى للمتابعين ان لا شىء تغير على صعيد الممارسة السياسية، اذ تحول الهجوم بنفس الاليات من المجلس العسكرى وفق شعار يسقط حكم العسكر الى شعار يسقط حكم المرشد، وتوسع الصراع حول البعد الاجتماعى للثورة، فيما بدى انها محاولة لجذب قطاعات جماهيرية للالتحاق بالخطة الانقلابية.وجرت احداث عنف لا يتوقعها العقل الجماهيرى العام ضد مقرات حزب الرئيس وجماعته، ووصلت الامور حد محاولات اقتحام مقر الرئيس واسقاطه ومطاردته فى مسكنه.انفتح صراع عميق وخطير ومتصاعد، واختلط الحابل بالنابل فصار بعض من فى المعارضة لا يجد ما يشين فى الاستعانة بمن سبق ان تم اقصاؤهم من الحكم المباركى –الفلول-وصارت البلطجة عنوانا للفعل السياسى واختلطت صورة المتظاهر بصورة البلطجى قاذف الحجارة والمولوتوف ولم تعد المساجد والهجوم عليها فعلا محرما وجرى توظيف كل شىء فى الصراع السياسى او فى الصراع على السلطة او فى الصراع لاغاء نتائج الانتخابات.وتذكر المراقبون ما جرى لحركة حماس بعدما وصلت للحكم عبر الانتخابات والصناديق.
المشهد واضح !
المشهد السياسى واضح، وجلى الوضوح اذا رايناه من زاوية الصراع الجارى منذ بداية الثورة وحتى الان.
هناك قوى كانت رتبت نفسها وربطت مصالحها باطراف اقليمية ودولية للوثوب الى السلطة، وهى تغير سيناريوهاتها دون ان يتغير هدفها فى الوصول للسلطة بطريقة انقلابية، اذ هى عاجزة عن الوصول للحكم عبر صناديق الانتخاب بحكم عدائها الجوهرى لمصالح وفكر الجمهور العام والمجتمع بالاجمال.وكل ما جرى ويجرى يتعلق بتعويق التغيير الحقيقى للثورة المصرية التى كان يريد البعض لها ان تكون حالة من حالات التطوير لنظام مبارك دون المساس باسس النظام الفكرية فى الارتباط والتبعية للغرب فكريا وسياسيا واقتصاديا وعسكريا، ولذا لم يشعر هذا البعض بالخجل حين ذهبوا علامية نحو التحالف مع انصار مبارك، ولا فى المطالبة وممارسة كل الالاعيب الاعلامية والسياسية والى درجة احداث الفتن الوطنية لعودة الحكم العسكرى، ولا بالتوظيف السياسى لاحداث الفتن الطائفية، ولا فى العصف بقواعد الديموقراطية ولا فى عدم احترام ارادة الشعب المصرى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق