السياسة وليس القضاء
فهمي هويدي
في عالم السياسة لا يكفي ان تكون صاحب قضية عادلة، لأنك لكي تكسبها ينبغي أن تختار الوقت المناسب لإثارتها، والأسلوب المناسب لعرضها، أقول ذلك بمناسبة الضجة المثارة في مصر هذه الأيام بسبب مناقشة مشروع قانون السلطة القضائية أمام مجلس الشورى.
وهو ما اعتبره البعض مذبحة للقضاة تارة وأخونة للقضاء تارة أخرى وهدما لصرح العدالة في مصر عند فريق ثالث.
كنا خارجين لتونا من أزمة بلدة الخصوص والتوتر الطائفي الذي عاشته مصر عقبها، وكانت تلك مجرد حلقة في مسلسل الأزمات التي عبرت عنها ممارسات جماعات «الألتراس» والمليونيات التي كادت تتحول إلى طقس أسبوعي.
وبموازاة ذلك عشنا مشاهد أزمة النائب العام وتبرئة مبارك من بعض القضايا المرفوعة ضده. وفي حين انشغل البعض بإعادة مبارك إلى سجن طرة بعد ظهوره متعافيا ومبتسما وملوحا لأنصاره، فإن آخرين انشغلوا بالأزمة التي حدثت بين السلفيين والإخوان والجفوة التي نشأت بين الطرفين.
في هذه الأجواء عرض مشروع قانون السلطة القضائية على مجلس الشورى، وأحدث ما أحدثه من فرقعة وضجيج، حتى تحول إلى عنوان رئيسي للصحف اليومية، الأمر الذي أثار غضب رجال القضاء والنيابة فتجمعوا وأدانوا وهددوا. من ثم دخلنا في معركة جديدة جعلت المشهد المصري أكثر سخونة وتعقيدا.
اشتباك بعض الزعامات القضائية مع النظام لم يكن جديدا. ذلك أنه لم يعد سرا ان العلاقة بين الطرفين ليست على ما يرام على الأقل منذ أعلن رئيس نادى القضاة في ٧ حزيران الماضي صراحة مخاصمته للنظام القائم ورفضه التعامل معه، وقبول أي شيء منه، كما لم يعد سرا ان بعض أحكام القضاء جرى تسييسها تأثرا بتلك الجفوة أو الخصومة.
إلى جانب ذلك فإن مطلب إصلاح القضاء من خلال إصدار قانون جديد للسلطة القضائية يزيل آثار عدوان السلطة وتطويعها، لذلك المرفق المهم كان مطلبا ملحا للقضاة أنفسهم منذ ستينيات القرن الماضي، لوقف عمليات الإلحاق والإفساد التي مارستها الأنظمة منذ ذلك الوقت.
ورغم أن مطلب إصدار قانون جديد للسلطة القضائية له مبرراته المقنعة، فإنني اعتبرت أن طرح الموضوع أمام مجلس الشورى في الوقت الراهن لم يكن مناسبا، على الأقل لأن من شأنه أن يعمق الأزمة بين السلطة والقضاء، فضلا عن أنه يضيف حريقا جديدا إلى حملة الحرائق المشتعلة فعلا في الساحة السياسية، في حين ان التهدئة هي المطلوبة لإعادة الأوضاع إلى طبيعتها قدر الإمكان في مصر، ثم أنني اعتبرت ان ملف القضاء مهم حقا، لكنه لا يشكل أولوية ملحة في الوقت الراهن لأن ملفي الأمن والاقتصاد يتقدمان عليه. لذلك قلت إن إشغالنا بملف القضاء سبب لنا تعثرا نحن في غنى عنه، ثم انه جاء دليلا على أن ثمة خللا في ترتيب أولويات الهم العام كان يتعين علينا أن نتجنبه.
حين تحريت الأمر تبين ما يلي:
* أن الحكومة لم تكن طرفا في الموضوع، خصوصا أنها اختارت من البداية أن تترك الأمور السياسية للرئاسة.
* أن الرئاسة كانت مترددة بشأنه، كما أن حزب الحرية والعدالة اختار أن يقف بعيدا عنه، في حين أن حزب الوسط هو الذي أثار الموضوع أمام مجلس الشورى ووضع الجميع أمام الأمر الواقع.
* اتصلت هاتفيا بالمهندس أبوالعلا ماضي رئيس حزب الوسط فأيد المعلومتين، وقال إن فكرة المشروع ليست جديدة، لأن الحزب كان قد قدمها إلى مجلس الشعب(أو النواب) قبل حله بحكم الدستورية العليا، ولكن التطورات شهدتها مصر أخيرا اقتضت تطويره وتقديمه مختصرا إلى مجلس الشورى. وقد أسيء تصويره وتعمد البعض تشويهه. فليس صحيحا مثلا انه يعرض القضاة لمذبحة لأن المذبحة تعتمد على الانتقاء في حين أن المشروع يؤسس لقواعد عامة تصحح أوضاعا وتسري على الجميع. ومسألة خفض التقاعد التي اتخذها البعض ذريعة لتحريض القضاة وتعبئتهم ضد المشروع، ليست أهم ما فيه وإنما هي آخر نقطة فيه، وهي بمثابة اجتهاد أيده البعض ورفضه البعض الآخر.
* قال المهندس أبوالعلا ماضي أيضا إن المسألة في جوهرها أكبر من حكاية السن، ذلك أن الأطراف التي تقود تحريض القضاة لها موقفها المبدئي الرافض للنظام ومؤسساته المنتخبة، فضلا عن أن لها حساباتها الخاصة التي لا علاقة لها بالمصلحة الوطنية العليا.
خلاصة ما خرجت به من محاولة تحري الموضوع أن القضية باتت جزءا من الصراع السياسي الدائر في مصر، وأن المشكلة في الاستقطاب الراهن وليست في سن القضاة أو غيره، وأن المجني عليه في القضية هو الثورة والوطن.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق