قادة الثورة يحتفون بسيد قطب!
سيد قطب وجمال عبد الناصر
محمد بركة
كانت العَلاقةُ بين سيد قطب (1906م - 1966م) وضباط 23 يوليو1952م- عَلاقةً حميمة قبل اندلاع الثورة وبعدها، بل كان يُعدُّ سيد قطب الْمُنَظِّر الفكري للثورة؛ فقد كانوا يتشاورون مع سيد قطب حول ترتيبات الثورة وأسس نجاحها، والذي يؤكِّد ذلك أنَّه تم تعيينه من قِبَل قيادة الثورة مستشارًا لها في الأمور الداخلية, وتغيير مناهج التعليم.
وكان سيِّد قطب هو المدني الوحيد الذي يحضر مجلس قيادة الثورة، وكان كِتابُه الفكري الإسلامي الأول "العدالة الاجتماعية في الإسلام" من أوائل الكتب التي كان ضباط الحركة يتدارسونها في لقاءاتهم السرية، وقد شَبَّه بعضهم سيد قطب بخطيب الثورة الفرنسية الشهير "ميرابو".
وكان سيد قطب أول من أطلق لفظ "ثورة" على حركة الضباط التي كانت توصف بأنَّها المبارَكة، وليس طه حسين كما يشاع.
يروي الأديب السعودي "أحمد عبد الغفور عطار" (1915م – 1991م)، مؤسس صحيفة "عكاظ"، والصديق الأثير لسيد قطب- عن صلة سيد قطب برجال الثورة بعد قيامهم بها، فيقول:
"بلغ من احترام الثورة لسيد قطب، وعرفانها بجميله وفضله- أنَّ كل أعضاء مجلس قيادة الثورة كانوا ملتفين حوله، ويرجعون إليه في كثبر من الأمور، حتى إنَّه كان هو المدني الوحيد الذي يحضر جلسات المجلس أحيانًا، وكانوا يترددون على منزله في حلوان...
قرر مجلس قيادة الثورة- ونشرتْ القرار مجلة آخر ساعة- أنْ يُسند إلى سيِّد قطب منصب وزير المعارف، ولكنَّ سيد قطب اعتذر، ورجوه أنْ يتولى منصب المدير العام للإذاعة فاعتذر، وأخيرًا وافق على أنْ يكون السكرتير العام لهيئة التحرير، ولبث فيها شهرًا؛ وبدأ الخلاف بين سيد قطب وبين جمال عبد الناصر وزملائه؛ فاضطر سيد قطب إلى الاستقالة من هيئة التحرير".
قال سيِّد قطب، وهو يحكي عن صلته برجال الثورة بعد قيامها:
"استغرقت في العمل مع رجال ثورة 23 يوليو 52 حتى شهر فبراير 1953م عندما بدأ تفكيري وتفكيرهم يفترق حول: هيئة التحرير، ومنهج تكوينها، وحول مسائل أخرى في ذلك الحين لا داعي لتفصيلها... كنت أعمل أكثر من اثنتي عشرة ساعة- يوميًّا- قريبًا من رجال الثورة".
قادة الثورة يحتفون بسيد قطب
ومن تقدير وتوقير رجال الثورة لسيد قطب أنَّهم أقاموا حفل تكريم له بعد شهر من قيام الثورة... وكان أساس الحفل محاضرة لسيد قطب بعنوان: "التحرر الروحي والفكري في الإسلام"، دُعِي سيِّد لإلقائها في نادي الضباط بالزمالك في شهر أغسطس، وذهب سيِّد لإلقاء المحاضرة في الموعد المحدد، وكان معه صديقه الأديب السعودي، أحمد عبد الغفور عطار، وبدل أنْ يُلقي سيِّد محاضرته حوَّل قادةُ الثورة الحفلَ إلى كلماتٍ وخطابات للإشادة بسيِّد وبيانِ مناقبِه.
قال أحمد عبد الغفور عطار واصفًا الحفل:
"وفي الموعد المحدد حضرتُ معه، وكان النادي مزدحمًا بحدائقه وأبهائه الفسيحة، وحضرها جمع لا يحصى من الشعب، وحضر إلى النادي أبناء الأقطار العربية والإسلامية الموجودون في مصر، وكثير من رجال السلك السياسي، وكبار زعماء الأدب والفكر والقانون والشريعة، وأساتذة من الجامعات والكليات والمعاهد.
وكان مقررًا حضور "محمد نجيب" وتوليه تقديم سيِّد قطب إلَّا أنَّ عذرًا عارضًا اضطر محمد نجيب للتخلف، وبعث برسالةٍ تُليت على الحضور، تلاها أحد الضباط، وموجز كلمة محمد نجيب:
أنَّه كان حريصًا على أنْ يحضر المحاضرة، ويفيد من علم سيد قطب، ووصف سيِّد بأنَّه مُعلِّم الثورة ورائدها وراعيها... وبعث نجيب برسالته مع أنور السادات، وأناب عنه جمال عبد الناصر.
وحوَّل الضباط محاضرة سيِّد إلى مناسبةٍ للاحتفال والاحتفاء به، وبيان مناقبه، وبدل أنْ يحاضِر سيِّد فيهم صار الخطباء يتكلمون عن سيِّد، ويثنون عليه، وهو جالس!.
افتتح أحد الضباط الحفل بآيات من القرآن، وقال أحد كبار الضباط:
كان مقررًا أنْ يقوم الرئيس "محمد نجيب" بتقديم أستاذنا العظيم، ورائد ثورتنا المبارَكة، مفكر الإسلام الأول في عصرنا- الأستاذ سيد قطب، ولكنَّ أمرًا حال دون حضوره... وأُرِيدَ مني تقديم الأستاذ سيد قطب، وإنْ كان غنيًّا عن التقديم وعن التعريف.
وكان حاضرًا الحفلَ الدكتورُ طه حسين؛ فتقدم وألقى كلمة رائعة قال فيها:
إنَّ في سيد قطب خَصلتين، هما: المثالية، والعِناد؛ فهو ليس مثاليًّا فقط، ولكنَّه مثالي في المثالية. وذكر سيِّدَ قطب وأثرَه في الثورة ورجالها، واختتم كلامه بالقول: إنَّ سيد قطب انتهى في الأدب إلى القمة والقيادة، وكذلك في خدمة مصر والإسلام.
ثم وقف سيِّد قطب وألقى كلمةً مرتجلة، وسط تصفيق المصفقين، وهتاف الهاتفين له:
قال عن الثورة: إنَّ الثورة قد بدأت حقًّا، وليس لنا أنْ نثني عليها؛ لأنَّها لم تفعل بعد شيئًا يذكر، فخروج الملك ليس غاية الثورة، بل الغاية منها العودة بالبلاد إلى الإسلام.
ثم قال سيد قطب: لقد كنتُ في عهد الملكية مهيأً نفسيًّا للسجن في كل لحظة، وما آمن على نفسي في هذا العهد أيضًا؛ فأنا في هذا العهد مهيأٌ نفسيًّا للسجن، ولغير السجن، أكثر من ذي قبل.
وهنا وقف "جمال عبد الناصر" وقال بصوته الجهوري ما نصه:
أخي الكبير سيِّد: واللهِ، لن يصلوا إليك إلَّا على أجسادنا، جثثًا هامدة، ونعاهدك باسم الله، بل نجدد عهدنا لك على أنْ نكون فداءً لك حتى الموت، وصفق الناس تصفيقًا حادًّا متواصلًا، مع الهتاف المتكرر بحياة سيد قطب!.
ثم وقف الضابط "محمود العزب" وتكلم عن دور سيِّد قطب في التمهيد للثورة، وعن حضوره لبيت سيِّد قبيل الثورة، وأنَّه وجد عنده عبد الناصر، وغيره من ضباط الثورة!، وبيَّن نظرة رجال الثورة لسيِّد.
بينما عقب الأستاذ "أحمد عبد الغفور عطار" على كلام الدكتور طه حسين عن سيِّد، فقال عطار عن سيِّد: إنَّ سيِّد عنيد في الحق؛ فهو إذا اعتقد شيئًا أصر عليه، ولا يعتقد إلَّا الحق، وهو عنيد في كفاحه وجهاده.
وعندما انتهى الحفل كان البكباشي "جمال عبد الناصر" في وداع سيد قطب، وكان الضباط والجنود وجماهير الناس تهتف بحياة سيد.
وكان الإعدام هو الجزاء!
ولكن اعتقل سيد قطب عام 1954م لمدة شهرين مع قيادات الإخوان المسلمين، ثم أعيد اعتقاله مرة أخرى بعد حادث المنشية، وصدر ضده حكم بالسجن 15 سنة، ثم تَوَسَّطَ له الرئيس العراقي "عبد السلام عارف" فأُفْرِجَ عنه بعفوٍ رئاسي.
وفي عام 1965م أعاد عبد الناصر المواجهة مرة أخرى مع سيِّد قطب؛ فأعلن من موسكو- وكان في زيارة لها- عن اكتشاف مؤامرة دبَّرها الإخوان المسلمون بقيادة سيِّد قطب لاغتياله، وقَلْب نظام الحكم؛ فاعتقل سيد مرة ثالثة، وذاق أصنافًا وألوانًا من العذاب على يد زبانية التعذيب في العهد الناصري!.
وألقى عبد الناصر ورقته الأخيرة إلى قطب لعله يلين إلى السلطان الجالس على الكرسي؛ فأرسل إليه في ليلة تنفيذ الحكم عارضًا عليه الاعتذار، أو أنْ يكتب سطرًا واحدًا يطلب فيه الرحمة من جمال عبد الناصر... ولكنْ ما كان لمثل سيِّد- في جرأته وإيمانه بما يعتقد- أنْ يقبل بمثل هذا العرض؛ فرفض العرض الأخير في حياته كلها،قائلًا كلماته الخالدة:
"إنَّ إصبع السبابة الذي يشهد لله بالوحدانية في الصلاة يَأْبَى أنْ يكتب كلمةً يتقرب بها لحاكم طاغية؛ فإنْ كنتُ مسجونًا بالحق فأنا أرتضى حكم الحق، وإنْ كنتُ مسجونًا بالباطل فأنا أكبرُ من أنْ أسترحم الباطل".
وفي يوم 28 من أغسطس 1966م تلقَّى عبد الناصر رسالةً من الملك فيصل بن عبد العزيز؛ يتوسط فيها للعفو عن سيِّد قطب الذي قضت المحكمة العسكرية بإعدامه، وأوصل "سامي شرف" البرقية لجمال عبد الناصر في ذلك المساء، فقال جمال عبد الناصر لسامي شرف:
أعدموه في الفجر "بكرة"، وأعرض عليَّ الرسالة بعد الإعدام!.
ثم أرسل عبد الناصر برقية اعتذار للملك مُتَعَلِّلًا بأنَّ رسالة الملك وصلته بعد تنفيذ الحكم!.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق