علي باشا مبارك
رجل المهمات الصعبة
1239 – 1311
1824 – 1893
لقد جاء علي مبارك في زمن صعب؛ إذ لم يكن في مصر آنذاك أسس الدولة الحديثة في جوانب كثيرة، فجاء هذا الرجل الفذّ بأفكار وأعمال يعجز عنها جماعة من الناس، ولم تأت هذه الأعمال من رجل ورث المجد كابراً عن كابر، وخلفاً عن سلف، ولم تأت من شخص نشأ في أسرة غنية مرفهة أو مشهورة بالعالم، إنما كان علي مبارك عصامياً نشأ في أسرة فقيرة من ريف مصر، وعانى في سبيل تحصيل العلم أشد الشدائد وأقسى المحن.
ولد الأستاذ علي مبارك في قرية برنبال الجديدة التابعة لمركز المنصورة في محافظة الدقهلية، وكانت أسرته كثيرة العدد قليلة ذات اليد، ووالده رقيق الحال يسمى مبارك بن سليمان بن إبراهيم الروَجي، كان إماماً وخطيباً وقاضياً في قريته، ورث تلك الوظائف عن آبائه، وقد فرحت القرية كلها به لأنه جاء بعد سبع بنات، وبسبب الظلم المسلط على الفلاحين آنذاك تركت العائلة القرية وتنقلت في البلاد إلى أن استقرت في عرب السماعنة، وهناك حَسُن حال العائلة شيئاً ما، وأرسل مبارك ابنه علياً إلى الكُتّاب لكن الطفل ضاق ذرعاً بسوء معاملة الشيخ، فرفض البقاء في الكُتاب، ثم أرسله أبوه إلى أحد الكتبة ليعلمه فبقي معه مدة لكنه نفر منه لاستغلاله إياه وإيذائه له، فهرب منه وهام على وجهه في البلاد حتى وصل إلى قرية بجهة المطرية فأصابته الكوليرا، فأخذه رجل من أهل القرية وعالجه أربعين يوماً وأهله يبحثون عنه، فلما عرفوا مكانه هرب منهم لكنهم استطاعوا الوصول إليه فأرجعوه إلى القرية، فأخذه والده إلى كاتب المساحة ليتعلم عنده، لكنه وجده خَرِب الذمة فنفر منه ورجع إلى أبيه الذي ألحقه بعمل لدى كاتب مأمورية أبي كبير براتب خمسين قرشاً في الشهر لكن الكاتب لم يكن يُسلم له راتبه، فلما قبض الغلام حاصل أبي كبير أمسك منه راتبه فلما عرف ذلك المأمور حقد عليه فسجنه ووضع الحديد في رقبته، ولبث في السجن أكثر من عشرين يوماً في أحوال صعبة، ثم أُفرج عنه بوساطة اجتهد فيها أبوه حتى أخرجه من السجن، وذهب به إلى مأمور زراعة القطن ليعمل عنده، وهنا تغيرت حياته كلها؛ إذ إنه رأى المأمور فوجده أسود حبشياً، ووجد كبار القوم يقفون بين يديه ويتقربون إليه، فعجب الغلام من ذلك، وسأل عن السبب فاهتدى إلى أن ذلك المأمور درس في مدرسة الجهادية بالقصر العيني، فاجتهد بكل وسيلة للالتحاق بتلك المدرسة في القاهرة، ولم تفلح توسلات أبيه وبكاؤه بين يديه لإثنائه عن ذلك، واستطاع الغلام بذكائه الفطري أن يُقنع مَن جاء من القاهرة ليختار نجباء التلاميذ الصغار ليلحقهم بمدرسة القصر العيني، أقنعه بصلاحيته للدراسة فأُخذ إلى القاهرة، وقد كان عمره آنذاك اثني عشر عاماً، وذلك في سنة 1251/1835، ودخل المدرسة التي لم تكن مدرسة بالمعنى المعروف بل هي أشبه بثكنة عسكرية، والدروس ضعيفة، والطعام لا يكاد يكفي الطفل الصغير، حتى صار يمص العظم الذي يتركه الآكلون، والضرب والسب هو الأمر السائد في المدرسة، فمرض الغلام وأُصيب بالجرب فنقل إلى المستشفى وبقي فيه مدة حتى جاء أبوه ليأخذه خفية فرفض لأن مَن يهرب من المدرسة يُنكل بأهله ويقبض عليهم حتى يسلم الفارّ نفسه!! فعاد إلى المدرسة وبقي فيها سنة، ثم نُقل إلى المدرسة التجهيزية بأبي زعبل، وأصبح الغلام تدريجاً مقبلاً على الدراسة بل نبغ فيها حتى اختير لمدرسة المهندسخانة -مثل كلية الهندسة اليوم- ببولاق وذلك سنة 1255/1839، فأقام بها خمس سنين وكان دائماً أول فرقته، وفي ذلك الوقت أراد محمد علي باشا حاكم مصر أن يرسل أبناءه إلى فرنسا للدراسة فيها، وأمر باختيار بعض الطلاب النابغين ليدرسوا مع أبنائه، فاختير علي مبارك، وكان ناظر المهندسحانة فرنسياً يُدعى لامبير وكان يريد أن يستبقي علي مبارك ليكون معلماً في المدرسة وحاول إغراءه لكنه رفض وسافر إلى فرنسا سنة 1265/1849 وكان في البعثة اثنان من أبناء محمد علي واثنان من أحفاده، أحدهما اسمه إسماعيل بن إبراهيم، وهو الخديوي إسماعيل فيما بعد، ولذا سميت البعثة ببعثة الأنجال.
ومن همته العالية أنه لما سافر إلى فرنسا لم يكن يعرف الفرنسية، وطلب القائمون الفرنسيون على البعثة من الطلاب الذين يعرفون الفرنسية أن يعلموها للطلاب الذين لا يعرفونها فرفض الطلاب، فما كان من علي مبارك إلا أن تعلم الفرنسية دون معلم من كتب اقتناها في تعليم الأطفال الفرنسية، واجتهد في التعلم حتى لم يكن ينام من الليل إلا قليلاً، واجتهد في طلب العلم حتى أنه صار مقدماً بين الطلاب، وبعد سنتين تجاوز الامتحان في الشؤون العسكرية بتفوق، ثم التحق بالجيش الفرنسي في الفرقة الثالثة من المهندسين الحربيين فظل بها قرابة عام، ثم توفي إبراهيم باشا وتولى الحكم في مصر عباس الأول حفيد محمد علي، فأرجع الطلاب إلى مصر، لِما اشتُهر عنه من كراهيته تعليم المصريين حتى لا تتفتح أعينهم على حقوقهم.
ولما عاد إلى مصر تقلب في الوظائف الرسمية والأعمال المهمة في زمن عباس الأول ومَن بعده سعيد وإسماعيل وتوفيق، فمن ذلك:
- عضوية لجنة اختيار المهندسين وإحلال الأقوياء مكان الضعفاء، وتيسير الملاحة بالنيل.
- تنظيم المدارس الملكية وترتيب ميزانيتها، ومنها مدرسته الأولى المهندسخانة، واختيار الكتب الملائمة لها.
- المشاركة في الحملة المصرية لمؤازرة الدولة العثمانية في حربها ضد روسيا وهي المعروفة بحرب القرم، وذلك سنة 1270/ 1854، وقد مكث في سفره هذا سنتين ونصف السنة، تعلم فيها اللغة التركية، وكان مسؤولاً عن التجنيد في مدينة طرابزون على البحر الأسود، فأحسن القيام بمهمته حتى حمد له سعيه أعيان المدينة، وأقام مستشفى عسكرياً بالجهود الذاتية.
- إدارة القناطر الخيرية، فأجرى تعديلات في نظام الري وتحويل الماء حتى وصل الماء إلى مساحات شاسعة كانت محرومة منه، فكافأة الخديوي بثلاثمائة فدان.
- إدارة السكة الحديدية، فكان يباشر العمل فيها من الظهر إلى الغروب كل يوم.
- إدارة نظارة الأوقاف، أي وزير الأوقاف، وقد وجدها مهملة فأحياها وضبطها وأحسن استغلال ريعها، وأنقذها من أطماع النُظّار وإهمالهم.
- إنشاء دار الكتب المصرية التي سُميت آنذاك بـ "الكُتبخانة الخديوية" وذلك سنة 1287/1870، فأنقذ الله -تعالى- بها ما لا يُحصى من الكتب المهملة في المساجد والجوامع والمكتبات الخاصة، وتلك الكتب كانت نهباً للأيدي السارقة، والأرَضة التي فتكت بالكثير منها، فسهل على الطلاب الوصول إليها والانتفاع بها.
- نظارة الأشغال، وهذا مثل وزارة الشؤون البلدية في يومنا هذا، فقام بتخطيط القاهرة وتنظيمها، وفتح كثيراً من الشوارع فيها مثل شارع محمد علي وميدانه بالقلعة، وشارع الأزبكية وميدانها، وشارع عابدين وباب اللوق ولا زال تخطيطه قائماً في القاهرة إلى الآن، وأضاء شوارع القاهرة بالغاز، وبنى مستشفى القصر العيني، ومدرسة للطب، وعمل مجاري القاهرة، وأنشأ المذبح "السَلَخانة"، وعمل الجسر بين قصر النيل والجزيرة، وأقام المنتزهات على ضفاف النيل، وفرش الطرق بالحصى للحد من الغبار، وأوصل مياه النيل إلى كثير من جهات القاهرة فدخل إلى بيوتها، وكذلك أحدث في الإسكندرية تجديدات مهمة، وطهر التـرع والمصارف، وشق ترعة الإبراهيمية والإسماعيلية وكثيراً من الترع، وأقام الجسور والقناطر على النيل، وأنشأ دور الدواوين بالمحافظات والمديريات، وأصلح السجون بعد أن كانت أقبية وكهوفاً مظلمة، وبنى المستشفيات بعد أن كانت في الدكاكين والاسطبلات، وشق الشوارع وغرس الأشجار على جوانبها، واجتهد في كل ذلك حتى قال: "وهذه الأعمال جميعها أو أكثرها كنت أباشر أوامرها من رسومات وشروط مع المقاولين ونحو ذلك فكنت في مدة إحالة هذه الدواوين عليّ مشغولاً بالمصالح المِيريّة، وتنفيذ الأغراض الخديوية -أي الرئاسية- ليلاً ونهاراً حتى لا أرى وقتاً ألتفت فيه لأحوالي الخاصة بي، ولا أدخل بيتي إلا ليلاً، بل كنت أفكر في الليل فيما يُفعل بالنهار" ومن أهم ما صنعه في وزارة الأشغال أنه ألغى نظام سُخرة الفلاحين، وأحل مكانه نظام المقاولين.
- أشرف على حفل افتتاح قناة السويس الذي دُعي إليه ملوك وأمراء أوروبا، ثم عينه الخديوي إسماعيل ممثلاً لمصر في النـزاع القائم بين الحكومة المصرية وشركة قناة السويس، فنجح في فض النـزاع.
أهم أعماله:
لكن أهم أعماله على الإطلاق إصلاح التعليم، وقد بذل في ذلك جهداً كبيراً حتى يمكن لي أن ألقبه "أبو التعليم المصري الحديث"، وقد ظهرت جهوده واضحة في الأعمال التالية:
- مَدّن التعليم بعد أن كان عسكرياً داخلياً معتمداً على القسوة والسباب.
- عمل لائحة للمدارس ضبطت شؤون الإدارة والطلاب بعد أن كان الأمر فوضى مرسلاً بدون ضوابط وسميت لائحة رجب -نسبة لشهر رجب الذي انطلق فيه هذا المشروع، وذلك يوم كان المصريون والعرب يراعون الشهور العربية ويقدمونها على غيرها- وذلك في 1284/1868، وأجرى كثيراً من ريع الأوقاف الخيرية على التعليم، وقد كان يجمع بين إدارتي التعليم والأوقاف فسهُل عليه ذلك.
- رفع أجور المدرسين وخدم المدارس.
- جعل التعليم مجانياً للفقراء.
- نظم التدريس في الكتاتيب، وقد كانت هي القاعدة العريضة للتعليم آنذاك.
- أنشأ مدارس في معظم المدن وفتح مدارس للبنات.
- ألف كثيراً من الكتب المدرسية، ووضع المناهج لعدد من المدارس العليا خاصة الهندسة والحربية، واشترك مع آخرين في تأليف بعض الكتب، وأنشأ مطبعتين لطباعة الكتب المدرسية.
- باشر بنفسه التعليم في أوقات كثيرة حتى زمن وزارته وبعدها، وكان يشرف على الطلاب بنفسه ويعلمهم كيف يلبسون وكيف يقرأون وكيف يكتبون، ويشرف على المعلمين وينصحهم، وكان -لهمته العالية- يجهد في تعليم الطلاب بكل وسيلة حتى أنه كان يكتب لهم بالفحم على البلاط، ويخط لهم على التراب، ويعلمهم في الخيام، وذلك لقلة الوسائل التعليمية آنذاك، وكان يعلمهم القواعد الهندسية بالعصا والحبل!!
- أنشأ دار العلوم المشهورة اليوم بالقاهرة، وجعل لطلابها مكافأة شهرية وصلت إلى مائة قرش، وكان هذا قَدْراً ضخماً من المال يمنح لطالب آنذاك.
- أنشأ الصحافة المدرسية، وأول صحيفة كانت "روضة المدارس" وابتدأت منتصف محرم سنة 1287، 17 فبراير 1870، وجعل رفاعة بك رافع الطهطاوي مشرفاً عليها، وكتب فيها بنفسه.
مؤلفاته:
ألف علي مبارك مؤلفات عديدة كان أعظمها مطلقاً "الخُطط التوقيفية" في عشرين مجلداً، وصف فيها مدن مصر وقراها وآثارها وجغرافيتها وتاريخها في العصور القديمة والحديثة، وتعد إكمالاً لخطط المقريزي، وجعل الستة أجزاء الأولى للقاهرة والسابع للإسكندرية، والأجزاء الأخرى لسائر المدن المصرية وبلداتها وقراها.
وألّف "عَلَم الدين" في أربعة أجزاء، وهو كتاب تدور أحداثه على عالم أزهري سماه عَلَم الدين، ورجل انجليزي وفد إلى مصر وتعلم العربية، وفيه معلومات مهمة ونوادر وبحوث.
وألف "تذكرة المهندسين"، و"تقريب الهندسة"، و"طريق الهجاء والتمرين"، و"تنوير الأفهام في تَغَذِّي الأجسام"، و"نخبة الفكر في تدبير نيل مصر"، و"آثار الإسلام في المدنية والعمران" وهو آخر كتبه، و"الميزان في الأقيسة والمكاييل والأوزان" و"حقائق الأخبار في أوصاف البحار"، و"سوق الجيوش"، و"الاستحكامات العسكرية" واشترك في ترجمة كتاب "تاريخ العرب" للمؤلف الفرنسي سيد يو، وغير ذلك.
مواقف في حياته:
ـ شُغل عن والدته فلم يرها ولم يسمع صوتها مدة أربع عشرة سنة، منذ أُخذ إلى مدرسة القصر العيني إلى أن عاد من فرنسا واشتغل بالمهام العديدة التي كُلف بها، فلا تسأل عن اللقاء وما جرى فيه من بث العواطف والأشواق.
ـ كان علي مبارك وهو طالب يستصعب جداً مادتي الهندسة والحساب "الرياضيات"، فإذا به ينبغ فيهما نبوغاً عجيباً سواء كان نبوغاً علمياً أو عملياً.
ـ ومن همته أنه كان يبيت غالب أيامه جائعاً وهو طالب في طفولته، بل كان يمص العظام التي أكلها الآخرون، ثم إذا به يصبح في شبابه وكهولته وزيراً لعدد من الوزارات.
ـ عانى كثيراً من الحسد والوشايات حتى عُزل مراراً من كثير من وظائفه، ثم يعود إليها ثم يُعزل، لكنه بقي ثابتاً على شيء واحد وهدف محدد وهو خدمة الناس وإصلاح شؤونهم.
ـ شارك في الجمعية العمومية التي عقدت من أربعمائة من أعيان المصريين للنظر في أمر الحملة الإنجليزية الهمجية على مصر سنة 1299/1882، ثم كان رئيساً للجنة من ستة أشخاص سافرت إلى الإسكندرية للاتصال بالخديوي توفيق الذي كان ممالئاً للإنجليز ضد الثورة العُرابية، وكان من غرض اللجنة عقد مصالحة بين الخديوي والضابط الثائر أحمد عرابي لكن الأمور لم تَسِر على ما يرام.
ـ بقي علي مبارك ناظراً للمعارف "وزيراً" حتى سنة 1308/1891، فلما استقالت وزارة رياض باشا عاد إلى بلده لتفقد أراضيه وإصلاحها، لكن القدر لم يُمهله فمرض في مثانته وعاد إلى القاهرة فاشتد عليه المرض حتى توفي سنة 1310/1893 بمنـزله بالحلمية، رحمه الله تعالى وأعلى درجته.
ـ وهكذا كان علي مبارك معلماً ووزيراً للتعليم، ومهندساً بارعاً بُني بتوجيهه وإشرافه كل المعالم الحضارية -تقريباً- في مصر الحديثة، وهو المؤلف البارع الذي سَهّل على الطلاب كثيراً من العلوم، وهو المصلح الاجتماعي الذي رفع كثيراً من المظالم عن الفلاحين، وهو الإداري الحازم الذي وضع من النظم واللوائح ما أصلح به شأن الأوقاف والتعليم، فشخصيته متعددة المواهب، وأعماله كثيرة لكنه أضحى من العظماء المنسيين وإنا لله وإنا إليه راجعون.
المصدر : موقع التاريخ (عند النقل ذكر المصدر)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق