عندما يحين الوقت لتتكلم السياسة بدلاً من البنادق..
حركة التاريخ بين سلام «أوجلان» في تركيا ومولوتوف الليبراليين في مصر
القاهرة: مؤمن الهباء
كانت واحدة من لحظات التحول التاريخي الفارقة عندما فاجأ زعيم حزب «العمال الكردستاني» «عبدالله أوجلان» العالمَ بالدعوة إلى إنهاء الحرب الشرسة التي يخوضها الأكراد في تركيا منذ 30 عاماً، وبلغت كلفتها نحو 40 ألف قتيل، وأكثر من 100 ألف مصاب، و400 مليار دولار، وقد جاءت دعوة «أوجلان» في رسالة وجهها من محبسه الانفرادي الذي يقضي فيه عقوبة السجن مدى الحياة إلى مئات الآلاف من السكان في مدينة «ديار بكر» الكردية جنوب شرقي تركيا، أثناء احتفالهم بعيد «النوروز»، وقرأها نائبان من حزبه باللغتين التركية والكردية.
وحملت الرسالة التاريخية دعوة للأكراد إلى إلقاء السلاح، ووقف إطلاق النار مع الحكومة التركية، والاتجاه إلى الحل السياسي بعد أن أصبحت الأبواب مفتوحة الآن أمام العملية الديمقراطية في البلاد، وأشارت الرسالة إلى أن هذه ليست النهاية، وإنما بداية مرحلة جديدة من النضال لنيل الحقوق، مرحلة يجب أن تتكلم فيها السياسة بدلاً من البنادق.
على الجانب الآخر، وجدت دعوة «أوجلان» ترحيباً حذراً من رئيس الحكومة «رجب طيب أردوغان» الذي علق بقوله:
إنه ينتظر أفعالاً لا أقوالاً، بينما ذكر خبراء في الشؤون التركية أن هذا التحول التاريخي جاء بعد مباحثات سلام سرية جرت على مدار الشهور القليلة الماضية بين المخابرات التركية «وأوجلان»، عندما أدرك الطرفان أن الحرب لم تعد خياراً، نحن إذن أمام واحدة من أخطر الحروب الأهلية وهي تضع أوزارها، ويتجه قائد المعارضة المسلحة إلى العمل السياسي اقتناعاً بالمناخ الديمقراطي، وبأن الحرب لم تعد خياراً، ولقد كان الرجل واضحاً في رسالته بأنه لن يتخلى عن قضيته، وإنما فقط سيغير الوسيلة، لتصبح السياسة بدلاً من السلاح.
اختار «أوجلان» أن يسير مع حركة التاريخ وتطور العقل الإنساني الذي صار ينفر من الحروب الأهلية والصراعات العرقية، ويفضل التنافس السياسي في إطار الدولة الوطنية المدنية الحديثة، وقد ساعده على ذلك الاتجاه نظام رشيد يتزعمه «أردوغان» الذي قاد حكومة واعدة سياسياً واقتصادياً، ونجح في تثبيت قواعد الديمقراطية.
في مصر الأمر مختلف! يحدث هذا في الأناضول، بينما تسير العملية الديمقراطية في مصر بعد الثورة عكس حركة التاريخ؛ بسبب عجز النخبة السياسية وفسادها؛ مما أدى إلى أن تتحول الممارسة السياسية إلى عنف واستقطاب وصراع ينذر كل يوم بحرب أهلية متصاعدة، يتساقط فيها الضحايا وتُحرق وتخرب فيها المنشآت والمباني والممتلكات الخاصة والعامة. الحرب الأهلية في تركيا تقترب من النهاية، والحرب الأهلية في مصر تشتعل يوماً بعد يوم، والسبب الواضح لذلك أن النخبة السياسية التي تدعي الليبرالية والمدنية فشلت في الالتزام بقواعد الديمقراطية فاختارت الحرب..
الحرب الكلامية في القنوات الفضائية، والتحريض السافر، وبث الأكاذيب والدعاية السوداء، ثم حرب المقرات الحزبية، ثم حرب الشوارع والميادين..
أما السبب غير الواضح فتتشابك فيه خيوط المؤامرات الداخلية والخارجية، وتنفيذ أجندات الفوضى الخلاَّقة ومخططات التفكيك لأقدم دولة مركزية عرفها التاريخ.
لا تسأل وسط هذه المعمعة اليومية عن العقل المصري الذي جرى تغييبه عن قصد، ولا عن الأخلاق المصرية والتقاليد الراسخة التي جرى انتهاكها باسم الحرية والديمقراطية حيناً، وباسم الثورة حيناً آخر.
الذين يحرضون على العنف ويوفرون الغطاء السياسي للمليشيات المسلحة يسيرون ضد حركة التاريخ، ويأخذون مصر إلى خراب كبير قد يكلفها - لا قدر الله - مثلما تكلفت تركيا من قتلى وجرحى، وقد يمتد بها الصراع مثلما حدث في تركيا - لا قدر الله - إلى ثلاثة عقود قادمة.
والذين لا يسارعون إلى إرساء الديمقراطية الصحيحة، ولا يسارعون إلى الحوار البنَّاء، ويتخذون قرارات خاطئة في توقيتات خاطئة، هؤلاء أيضاً يسيرون عكس التاريخ، ويفشلون دائماً في إقناع خصومهم بصحة مواقفهم؛ وبالتالي يعملون على إشعال الحرائق واستمرار الصراع..وقديماً قالوا: معظم النار من مستصغر الشرر.
العالم يخرج من حروبه ويداوي جراحه ويهرول إلى موائد المفاوضات للبحث عن حلول سياسية لمشكلاته،
بينما تهرول النخبة التي تدعي الليبرالية في مصر إلى الحرب، العالم يعرف كيف يتنافس سياسياً، وكيف ينقل صراعاته من الشوارع والميادين إلى صناديق الانتخابات،
أما دعاة الليبرالية والمدنية فإن أشد ما يؤذي مشاعرهم ويستثير غضبهم الحديث عن صناديق الانتخابات، وهم يفضلون عليها أن يتحول المجتمع المصري المسالم إلى مجتمع همجي، وينقسم إلى طوائف وقبائل متناحرة لا مستقبل لها في عالم يتجه إلى السلام والاستقرار.
مؤخراً، قام وفد أمريكي يضم عدداً من أعضاء «الكونجرس» السابقين ونشطاء سياسيين بزيارة إلى مصر، وقد أعربوا في مؤتمراتهم الصحفية عن دهشتهم من إصرار بعض المعارضين المصريين على إسقاط النظام حتى لو أدى ذلك إلى إسقاط الدولة بكل مؤسساتها، وثقة هؤلاء المعارضين في قدرتهم - الافتراضية - على إعادة بناء تلك المؤسسات من جديد، ودهشتهم أيضاً من شعارات المعارضين المطالبين بعودة الجيش إلى السلطة، إذ لم يحدث أبداً أن تقوم ثورة شعبية لإسقاط حكم العسكريين المستبدين، وبعد الانتخابات الديمقراطية يطالب الفاشلون في الانتخابات بانقلاب عسكري على السطة المنتَخَبة.
نسف المؤسسات: والدهشة ذاتها أبداها الكاتب الصحفي المصري، المعارض التاريخي للإخوان، محمد حسنين هيكل، في حوار تلفزيوني قال فيه صراحة: «من العجيب أن جبهة المعارضة في مصر تطلب من الجيش أن ينزل إلى الشارع ويحقق لها ما لم تستطع تحقيقه من خلال الانتخابات، وهناك مَنْ لا يريد للرئيس المنتَخَب أن يتقدم خطوة واحدة إلى الأمام لإنجاز شيء ولا يتمنى ذلك».
وقال الصحفي أسامة الغزالي حرب، رئيس حزب «الجبهة الديمقراطية»، وعضو «جبهة الإنقاذ» المعارضة في تصريح فج لجريدة «الشروق»: «عدم نزول الجيش إلى الشارع خيانة».. ورد عليه متحدث عسكري في الصحيفة ذاتها قائلاً: «نزولنا سيكون لحماية الشعب الغلبان وليس لدعم الحركات السياسية؛ لأن عقيدة القوات المسلحة الراسخة هي أنها ملك للشعب».
هناك فعلاً من يعمل ليل نهار لنسف مؤسسات الدولة من الأساس، ولا يخفى على أحد المحاولات الدؤوبة لإثارة الفوضى في الشوارع، والحرص على اشتباكات الصبية مع الشرطة يومياً وفي أكثر من مكان؛ حتى تستمر إراقة الدماء، ويسقط ضحايا ومصابون، سواء من الشرطة أو من الصبية الذين يلقون المولوتوف على المباني ويشعلون النار في الأجهزة الحكومية والمؤسسات.
ومن المؤسف أن البعض يتصور أن إسقاط الدولة هزيمة للرئيس «محمد مرسي» وللإخوان، ولا يدرك أن ذلك هزيمة لمصر الدولة العظيمة العتيدة، وإذا سقطت هذه الدولة - لا قدر الله - وجاء رئيس آخر بالانتخابات أو بالانقلاب، فلن يجد دولة يحكمها، ولن يجد المؤسسات والأجهزة التي يحكم بها، بل لن يجد القانون والدستور، وربما يدفع الثمن بأكثر مما يدفعه الآن «د. مرسي». وهناك فعلاً من لا يريد للنظام الحالي أن يخطو أي خطوة إلى الأمام على طريق النجاح، وأي نجاح محكوم عليه بالفشل مقدماً، وماكينة التشويه والتشويش جاهزة ليلاً ونهاراً بإعلام فاسد يروج الشائعات والأكاذيب وينفق عليه بسخاء لا رقيب عليه. حملات للتشويه وقد استطاعت الماكينة الخطيرة أن تشوه الرئيس بما فيه الكفاية، وأن تشوه جماعته وحزبه، إلى الدرجة التي جعلت الرئيس لا يقدر على أن يجتمع بأحد من جماعته أو حزبه علناً خوفاً من اتهام «الأخونة» أو اتهام السيطرة، مع أن ألف باء الديمقراطية هو استناد الرئيس إلى حزب أو تنظيم قوي يناصره. واستطاعت الماكينة الخطيرة أن تشوه النائب العام، ورئيس الوزراء، ووزير الداخلية، ووزير العدل، وكل من يتولى مسؤولية في هذا البلد، بل هي ناشطة جداً في تشويه كل من يجرؤ على قول كلمة مغايرة لما يريد أصحاب الماكينة، واتهام «الأخونة» جاهز لابتزاز الآخرين وإرهابهم، مثلما كان عليه الوضع في ظل النظام البائد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق