حلايب في المزاد
هذه فضيحة إعلامية تبعث على الخجل وتكشف عن مدى تراجع المستوى المهني والأخلاقي الذي صرنا إليه.
فقد أبرزت الصحف القومية المصرية يوم السبت 6 ابريل تقريرا لوكالة أنباء الشرق الأوسط عن زيارة الرئيس محمد مرسي وأصدائها في الصحف السودانية، إذ اهتمت صحيفة «الرأي العام» بقول الرئيس المصري إن الحدود لا تمثل عائقا أمام العلاقات بين البلدين، وحديث الرئيس عمر البشير عن أن بلاده ليست عصبية في قضية الحدود «التي لم نكن طرفا في رسمها»، لكننا وجدناها ونحترمها ونقدرها. ولكنها ستزول عند تطبيق الحريات الأربع ويصبح بمقدور المواطن أن يتحرك ببطاقته وتنتقل السلع بصورة طبيعية وتكون هناك منطقة جمركية واحدة. وعند ذلك لن تكون هناك توترات أو مشاكل بشأن الحدود.
عرض تقرير الوكالة المصرية لما نشرته صحيفة «المجهر» التي كان عنوانها الرئيسي:
حدودنا مع مصر ستظل على الخرائط فقط وأرض البلدين لنا جميعا. فأشارت إلى لقاء الدكتور مرسي مع السيد الصادق المهدي زعيم حزب الأمة الذي دعا إلى تسمية «حلايب» بمنطقة «حبايب».
ونقلت عن السيد موسى محمد أحمد مساعد الرئيس السوداني ورئيس جبهة «الشرق» قوله إنه بحث مع الرئيس المصري كيفية تذليل العقبات التي تعترض العلاقة في مثلث حلايب، والعودة لحالة ما قبل عام 1995، وأن الرئيس وعد بتذليل العقبات والمشاكل والتحديات بالمنطقة (للعلم فإن جبهة الشرق التي يرأسها السيد موسى تضم أحزاب شرق السودان التي تنادى بسيادة السودان على مثلث حلايب)
والدعوة إلى العودة لوضع ما قبل عام 1995 يقصد بها استعادة الوضع الذي كان فيه مواطنو البلدين يدخلون إلى حلايب ويخرجون منها ويقضون مصالحهم فيها بلا تأشيرات دخول، ولكن ذلك الوضع تغير بعد محاولة اغتيال الرئيس السابق حسني مبارك في عام 1995 التي اتهمت حكومة السودان بالضلوع فيها، حيث أحكم الجيش المصري سيطرته عليها وفرض قيودا على دخول السودانيين إليها الذين يعدون امتدادا لقبائل البشارية التي تعيش في المنطقة.
في يوم الثلاثاء 9/4 عقد مساعد الرئيس السوداني مؤتمرا صحفيا في الخرطوم سئل فيه عن نتائج زيارة الرئيس محمد مرسي وما دار فيها بخصوص منطقة حلايب فقال ما يلى:
إنه طالب الرئيس بإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل عام 1995 (تاريخ محاولة الاغتيال) وأن الدكتور مرسي وعد ببحث الموضوع.
وأنه في حالة تعذر التوصل إلى حل يتفاهم عليه الطرفان خصوصا أن المثلث يمكن أن يصبح منطقة تكامل بينهما، فإن السودان سيلجأ إلى التحكيم الدولي لحسم الأمر.
أضاف السيد موسى محمد أحمد أن السودان يقدر الأوضاع التي تمر بها مصر، وأنه سيظل حريصا على توثيق العلاقات معها على كل المستويات.
هذه الصورة نقلت بصورة مغايرة ومحرفة في الصحافة المصرية.
فقد فهم البعض الدعوة إلى إعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل عام 1995 (التي تحدث الدكتور مرسي عنها بحذر مكتفيا بالوعد ببحثها) بأنها قبول من الرئيس المصري بتسليم المثلث الحدودي وإخضاعه للسيادة السودانية.
وإذا افترضنا حسن النية فسوف نلاحظ أن أحدا لم يدقق في التصريحات التي صدرت، ولم يتساءل عما تعنيه المطالبة بعودة الأوضاع إلى ما كانت عليه قبل عام 1995.
وحين وصلت الرسالة بهذه الصورة إلى القاهرة تلقفتها الأبواق المتربصة ووظفتها في الحرب الشرسة والعبثية الدائرة، التي تروج لأسطورة بيع مصر والتفريط في سيادتها، من سيناء التي أشيع أنه سيتم التنازل عنها لصالح حماس، إلى قناة السويس التي أشيع أنها معروضة للبيع للقطريين، وصولا إلى مثلث حلايب الذي سيهديه الرئيس مرسي للإخوة في السودان.
توالي إطلاق القذائف المسمومة التي ملأت الفضاء صخبا ندد بالتفريط في السيادة الوطنية والأمن القومي المصري، وزايد الجميع على الجميع في الغيرة على تراب مصر وأمنها المستباح، حتى من جانب الذين لم يقولوا بكلمة وباركوا انتقاص السيادة المصرية على سيناء من جانب الإسرائيليين.
وقرأنا لمن قال إن الرئيس مرسي فقد شرعيته بما أقدم عليه، وقال أحد الخبراء الاستراتيجيين بأن المعلومات إذا صحت فإنها تعد خيانة للوطن.
وكبَّر أحدهم الموضوع قائلا إن المتدينين لا يقيمون وزنا للحدود، لأنهم أمميون بحكم اعتقادهم، كأنما الذين استشهدوا منهم في الخمسينيات أثناء مقاومتهم للانجليز في قناة السويس كانوا يدافعون عن الخلافة الإسلامية وليس عن تراب مصر.
وكان أعجب ما قرأت أن أحد الزملاء المحترمين أخذ حصته في القصف باستخدامه دسيسة روجتها إحدى الصحف الصفراء وادعت فيها أن الدكتور عصام العريان، الأمين العام لحزب الحرية والعدالة ذكر في تغريدة له على تويتر إن من حق الرئيس المصري التنازل عن أي جزء من أراضي البلاد وفقا للدستور. كأنما أيد الكذبة الكبيرة بكذبتين أخريين لأن الدكتور العريان لم يقل هذا الكلام، وتغريداته متاحة للجميع، كما أنه ليس في الدستور شيء من ذلك القبيل الذي تمت الإشارة إليه.
إن آلة الحرب الإعلامية لم تعد تبالي بالقيم المهنية والأخلاقية، ولا تسأل عن المصالح العليا للوطن.
حتى بدا غاية مرادنا الآن لا أن نتوصل إلى توافق أو تصالح، وإنما أن تحتفظ الحرب بحد أدنى من النظافة ولا تنزلق إلى الدس الرخيص، بعدما أصبح الخصوم الشرفاء عملة نادرة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق