خيار سيئ معقول وسط رزمة من الخيارات السيئة
علي سعادة
كثيراً ما ردد الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش كلمات وزيرة خارجيته كونداليزا رايس، التي قالت للكونغرس ذات يوم: "إن المالكي يعيش ضمن وقت مستقطع".
أمريكا القوية التي تحكم قبضتها على الكرة الأرضية، وضعت إرثها لدى رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي المتناقض والغامض، وقليلا ما اعتمدت أمريكا على زعيم أجنبي واحد في ترميم بيتها الآيل للسقوط.
بدت العلاقة بين واشنطن والمالكي متقلبة على جمر التصريحات التي تطلق في بغداد وواشنطن.
خلال لقاء لهما في عمان في أثناء ولاية بوش الابن، قال بوش وهو ينظر إلى المالكي: "هو الرجل المناسب للعراق"، هل كان المالكي -كما ذهبت "نيوزويك"- "خيارا سيئا معقولا وسط رزمة من الخيارات السيئة؟".
انخرط بوش والمالكي في رقصة بطئية غريبة وحذرة خشية الوقوع، كل منهما بحاجة إلى شريك، "لكنهما لا يحتملان الرقص معاً في قرب شديد"، والتعبير للصحفي الأمريكي مايكل هيرش.
وفي إحدى المرات اندفع بوش في هجومه على المالكي، ووصف الحكومة العراقية بأنها " ما تزال تفتقر إلى النضج السياسي"، خاصة بعد إعدام الرئيس الراحل صدام حسين.
وذكر بوش أنه أعرب للمالكي عن خيبة أمله في حكومته، وقال له مقرعاً: "الطريقة التي أعدم بها الرئيس السابق تبعث رسالة مربكة للعالم؛ مفادها أن صدام أعدم بأسلوب انتقامي".
وفي إشارة إلى نفاد الصبر المتزايد، استخدم بوش لغة صارمة في تحذير المالكي "التزام أمريكا له ليس مطلقاً"؛ وهو ما قصدته رايس بالوقت المستقطع.
إذاً نحن أمام علاقة تشاركية اضطر إليها الاثنان، ولكنها لن تدوم العمر كله مثل زواج كاثوليكي مرتبك؛ فقد لوحت تقارير أمريكية نشرت تهديدات جديدة للبيت الأبيض، بإنهاء دور الحكومة الحالية، والبحث عن أخرى، قادرة على تحسين صورة أمريكا في العراق، بعد أن باتت عاجزة وضعيفة أمام "الفوضى الخلاقة".
وكشفت صحيفتا "لوس أنجلوس تايمز" و"الواشنطن بوست" عن نية أمريكا تغيير حكومة المالكي، والبحث عن بديل مناسب؛ وهو ما دفع المالكي إلى العودة من جديد للرقص على أنغام البيت الأبيض، مستغلاً هوس باراك أوباما بالانسحاب من العراق، وترك إدارة البلاد بيد المالكي، خصوصا بعد الانتخابات المتقاربة والإشكالية التي انتهت بفوز القائمة العراقية برئاسة علاوي، بأكبر عدد من المقاعد، لكنها فشلت في تشكيل الحكومة التي عادت إلى المالكي من جديد.
وفي ظل المشهد العراقي الحالي المشطور طائفياً وعرقياً وجغرافياً، الجرح النازف المفتوح على حدود المجهول والقلق، فإن تحقيق الاستقرار في العراق لا يبدو مهمة ممكنة في ظل الحكومة الحالية؛ إذ يؤكد مراقبون وسياسيون أن هناك تنافراً بين رئيس الحكومة المالكي وعدد كبير من وزرائه، كما أن آلية المحاصصة الطائفية والسياسية بين الكتل كبلت يد المالكي إلى حد كبير.
لتأتي مجزرة الحويجية ومقتل نحو خمسين عراقيا اعتصموا سلميا في منطقة الأنبار، لتكشف عن عورة حكومة تتمترس وراء عنادها القاتل، لتصل الاتهامات بالمشاركة في المجزرة إلى ضباط كبار مقربين من المالكي.
يسود اعتقاد كبير بين الطبقة السياسية في العراق بأن المالكي "غير جاد في تحقيق المصالحة الوطنية"، بحسب النائب صالح المطلك الذي يؤكد أن "المصالحة الوطنية هي عبارة عن قرارات على ورق فقط"، و"المالكي أخفق في حل الميليشيات الشيعية المتنفذة" -حسب قوله-.
ورغم أن حكومة المالكي ولدت شبه ميتة، وأنها تعيش في غرفة الإنعاش منذ تشكيلها، فإن التفكير في البديل بالنسبة لواشنطن لا يبدو سهلاً.
ورغم وصفها بأنها "حكومة وحدة وطنية"، ترسخ الحكومة الحالية مبدأ المحاصصة الطائفية؛ عبر توزيع الحقائب الوزارية على أحزاب شيعية وسنية وكردية.
ومع ذلك، فإن المالكي يرى أنه "لم يكن نجاحنا في تجاوز الحرب الطائفية، ونهاية الدكتاتور بدون تضحيات كبيرة"، وأنه "لا يمكن أن نبني دولة في ظل ميليشيات متعددة الولاءات والانتماءات والمصالح".
لكن حصيلة المالكي في السلطة هزيلة وتفتقر إلى الانجاز، وتعاني من عدم الحسم في مسائل سياسية هامة جدا، مثل: إعادة النظر في الدستور ومشروع قانون "المساءلة والعدالة" المتعلق بتعديل قانون "اجتثات البعث"، فضلا عن مشروع قانون النفط والغاز، وتهميش السنة بطريقة مقيتة إلى ذلك.
فإن إدانة الرئيس السابق صدام حسين وإعدامه خلَّف لدى الأسرة الدولية انطباعا بأن المالكي أسير عقلية انتقامية؛ وهو ما أثار المالكي آنذاك الذي اندفع في انفعالاته وهو يهدد بإعادة النظر في العلاقة "مع كل من تسول له نفسه انتقاد الطريقة التي أعدم بها صدام حسين"، معتبراً أن ما حدث وعرض على شاشات العالم، وشحن النفوس بالحقد والضغينة المذهبية كان "شأناً داخلياً".
المالكي يحسن قيادة الهجمات العكسية لإجهاض أي مشروع للانقلاب السياسي أو العسكري على حكومته.
وكما هي علاقاته بين مد وجزر بواشنطن؛ بسبب الارتماء في الحضن الإيراني، فإن المالكي يتقلب أيضا على جمر النار في علاقاته مع جيش المهدي وزعيمه مقتدى الصدر، فقد حظي دائماً بدعم الكتلة الصدرية في البرلمان العراقي، رغم التصريحات النارية التي يطلقها الصدر بين حين وآخر.
وكثيرا ما وأد المحاولات الأمريكية لاستهداف ميليشيا المهدي، وكثيرا ما تدخل لتأمين إطلاق سراح مؤيدي الصدر الذين يريدون تحقيق هدف واحد -غير طرد الاحتلال- وهو السيطرة على الأحياء السنية عبر النهر شرقي بغداد.
وحين يركز الجيش الأمريكي جهوده على تلك المنطقة، "فإن جيش المهدي يجلس على خط 50 ياردة يأكل الفشار، ويراقب القوات الأمريكية التي تقوم بالمهمة لحسابه"
كما ذهب الكولونيل ديوك قائد الفريق الاستشاري الأمريكي في العراق؛ في إشارة إلى تكثيف الاحتلال عملياته العسكرية في المناطق السنية.
المالكي هو خريج مدرسة الإمام الصدر -كما يقول- ويقترب حزب المالكي "الدعوة الإسلامية" كثيرا في أدبياته من منطقة الصدر الراحل الفكرية.
والمالكي الذي ينحدر من أسرة زاولت السياسة -حيث كان عمه وزيراً في العهد الملكي- أكمل تعليمه الجامعي في كلية أصول الدين في بغداد نتيجة لهذا التقارب، وحصل على الماجستير من جامعة صلاح الدين في اربيل.
نسبياً كان أكثر التصاقاً بالمنطقة من غيره من قيادات "الدعوة"، بعدما أمضى في سوريا ما يقارب العقدين من الزمن بعد أن غادر إيران مع إبراهيم الجعفري؛ اثر خلاف بعض قياديي الحزب مع وجهة نظر الإمام الراحل آية الله الخميني حول "ولاية الفقيه"، ودور الحزب في حرب الخليج الأولى، وهذه الخلافات أحدثت انشقاقات في صفوف "الدعوة" في منتصف الثمانينيات، فغادرا إلى سوريا بعد أن كانا يمثلان تيارا يتمركز حول بقاء السلطة "في يد الأمة"، ورفض الانضمام إلى صفوف الجيش الإيراني لمقاتلة الجيش العراقي في أثناء حرب الخليج الأولى.
وتعرض الحزب إلى أكثر من هزة، تمثلت بخروج أكثر من قيادي من صفوفه، مثل زعيمه السابق الناطق الرسمي السابق محمد باقر الآصفي، والقيادي المنظّر عبد الزهرة عثمان (عز الدين سليم) الذي اغتيل عندما كان عضواً في مجلس الحكم المنحل.
خلال وجود المالكي في سوريا ترأس تحرير جريدة "الموقف" التي كانت معارضة نظام الحكم في العراق، وتولى أيضا رئاسة "مكتب الجهاد" الذي كان مسؤولا عن تنسيق أنشطة حزب "الدعوة" داخل العراق.
وساهم المالكي في تأسيس مجلس الحكم، وكان نائبا لأول "مجلس وطني" شكل بعد الاحتلال وسقوط بغداد، وشغل منصب الناطق الرسمي باسم "الائتلاف العراقي الموحد".
"المعارضة العراقية" السابقة نقلت خلافاتها القديمة إلى صفوف "الائتلاف الموحد"، حيث بقيت العلاقة بين حزب "الدعوة" و"المجلس الأعلى للثورة الإسلامية" الذي يرأسه عبد العزيز الحكيم على غير ما يرام؛ من خلال التنافس على منصب زعيم "الائتلاف الموحد" الذي كاد يعصف بوحدة هذا "الائتلاف"، وقد امتد هذا التنافس حتى عملية ترشيح المالكي التي تمت بالتوافق بين القوى السبع التي تضمها قائمة "الائتلاف الموحد"، وبنتيجة 6 مقابل 1، وهو الصوت المتحفظ على ترشيح المالكي الذي كان يمثل "المجلس الأعلى". في وقت كانت الإرادة الإيرانية ترغب في ترجيح كفة عادل عبد المهدي مرشح "المجلس الأعلى".
وكشفت معركة رئاسة الوزراء وجود تيارين داخل "الائتلاف" العراقي الحاكم، وأن تيار المالكي في حزب "الدعوة" لم يكن قريبا من إيران بخلاف ما يشاع، وعلى عكس تنظيم عبد العزيز الحكيم.
بادر إلى إطلاق "مبادرة للصلح والمصالحة مع جميع مكونات الشعب العراقي، باستثناء من يحمل السلاح ضد الحكومة وأجهزتها الأمنية والعسكرية" -كما جاء في بيان للحكومة- إلا أن الحملة لم تجن ثماراً ايجابية، وغرقت في وحل التطهير الطائفي.
وفي نظر بعض المحللين، يعتبر المالكي من المسؤولين عن أعمال العنف الطائفي في العراق؛ بتغطيته على فرق الموت التي تقوم بأعمال قتل وتهجير وإبادة.
في حين يعتبر القسم الآخر أن المالكي عاجز عن السيطرة على الوضع الأمني؛ بسبب تغلغل فرق الموت في أجهزة الدولة؛ نتيجة لانتشار الفساد والمحسوبيات والتكتلات الحزبية.
الصيف على الأبواب، أو هو أصبح في صدر البيت، وتوقعات بأنه سيكون صيفاً "صعباً جداً" وربما "دامياً"، المالكي سيواجه صيفا سياسيا وعسكريا لاهباً تحت نيران شمس قاسية وقاصمة تجلد العراق المستقبل بسياط نصوص وحروب الماضي. واعتصام وعصيان المحافظات السنية، ووقع الأحداث في سوريا، يضع المالكي أمام فوهة المدفع، فتحويل العراق إلى ساحة خلفية لإيران لن يساعد كثيرا في إنهاء الاحتقان الداخلي، وليس أمام المالكي من خيار سوى الاستماع لنبض العراقيين ولعروبته، أو العيش في خريف البطريرك؛ فالمالكي يعتبر أزمة العراق حاليا فتنة طائفية عادت إلى العراق قادمة من بلد آخر في المنطقة؛ في إشارة إلى سوريا.
هل العراق مستورد للفتن أم مصدر لها؟ الجواب في "المنطقة الخضراء".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق