جبهات إيران واستنزافها
ياسر الزعاترة
لو بحثت عن دولتين بينهما تبادل تجاري وعلاقات اقتصادية متميزة في العالم، فستكون إيران وتركيا في مقدمتهما. يحدث ذلك لأن إيران محاصرة وتجد في تركيا منفذا لها، بينما تستغل تركيا ذلك في الحصول على مكاسب اقتصادية تجعل العلاقة في صالحها إلى حد كبير. ولكن ماذا عن العلاقات السياسية؟لا خلاف على أن أحد تجليات المعركة في سوريا هي الحرب بين تركيا وإيران على الموقع في الإقليم، والاشتباك هناك على أشده، إذ تسجَّل إيران بوصفها الداعم الأكبر للنظام، بينما تسجَّل تركيا بوصفها الحاضنة الحقيقية للمعارضة والثوار.
لكن ذلك ليس كل شيء، فإيران، وكجزء من ضغطها على تركيا بسبب الموقف في سوريا ما لبثت تلعب بورقة الأكراد، عبر دعم حزب العمال الكردستاني، الأمر الذي ينطبق على النظام في سوريا، وإن لم يكن بوسع الأخير تقديم دعم في ظل الأزمة التي يعيشها. وها هو بشار يضيف إلى ذلك إرهابا داخل تركيا، كما هو الحال مع تفجيري السبت الماضي.
قبل ستة شهور تحدث نائب رئيس الوزراء التركي عن دعم إيراني لحزب العمال، وهو ما نفاه الإيرانيون بطبيعة الحال، لكن الاتفاق التاريخي الذي أبرمته حكومة أردوغان مع زعيم حزب العمال (أوجلان) شكل صاعقة بالنسبة لإيران، فهو لم يسحب من يدها ورقة ضغط على تركيا فقط، بل أراح الأخيرة داخليا أيضا، وسيدفعها بطبيعة الحال نحو تقدم أكبر من الذي تتمتع به منذ سنوات، ما سيجعل المسافة بينها وبين إيران تتسع أكثر فأكثر بمرور الوقت.
قائد الجناح العسكري لحزب العمال الكردستاني فضَّح القصة بشكل معلن، إذ قال لصحافيين أتراك، إن “دولا إقليمية عرضت على الحزب تصعيد نشاطه العسكري، بدل انسحابه والتمهيد لنزع سلاحه” مضيفا: “تعلم تركيا مَن هي تلك الدول، ولو لم تخرج حكومة حزب العدالة والتنمية بخطة التسوية الجديدة لكان الصراع احتدم مجددا، لكن الحكومة تصرّفت بانتباه وعقلانية”.
وما علم من مصادر تركية أن قاسم سليماني، قائد فيلق القدس، وعراب العمليات الخارجية الإيراني من العراق وحتى لبنان وسائر المنطقة، هو الذي قدم العرض، وما لفت انتباه الدوائر التركية هو هجوم وسائل الإعلام الإيرانية على الاتفاق بين حكومة أردوغان وأوجلان، وصولا إلى اعتباره “مؤامرة غربية صهيونية إمبريالية”!!
هذه الفضيحة (المعلومة أصلا) لا تنفي حجم الأموال التي ضختها إيران سابقا لصالح حزب العمال من أجل تصعيد نشاطه ضد الحكومة التركية، وهي أموال تشكل جزءا من نزيف أكبر لإيران يتجلى بشكله الأوضح في سوريا التي ربما وصل دعم إيران لنظامها حدود العشرين مليارا خلال العامين الماضيين، ولولاها لانهار اقتصاديا منذ 4 شهور على الأقل.
وإذا قيل إن إيران قد دفعت للمقاومة في لبنان وفلسطين، وهو صحيح، فقد كان ذلك كله جزءا لا يتجزأ من مشروع التمدد وليس شيئا آخر، مع أن أحدا لم يكن يرى في ذلك مشكلة كبيرة قبل أن تتجاوز إيران الحدود وتهيمن على العراق، ثم تنتصر للمجرم بشار ضد شعبه، وصولا إلى دفع الأموال لمعارضي الرئيس المصري، فضلا عما تصرفه على الأقليات الشيعية في المنطقة؛ من الخليج إلى اليمن، بل حتى غير الشيعة، مثل جنوب اليمن، وما تدفعه في لعبة البيع والشراء للنخب السياسية في العراق.
اليوم تميد الأرض من تحت أقدام إيران، وهي تشعر أن التهديد يطالها حتى في الداخل، لا أعني البلد والشعب، بل القيادة التي تولت كبر مشروع التمدد ودفعت فيه جزءا كبيرا من ثروات الشعب الإيراني، ووضعته تحت طائلة العقوبات، وتبعا لها البؤس المعيشي، الأمر الذي ينذر طوال الوقت بانتفاضة شعبية تطيح بحكم المحافظين.
والحال أن هذا الهاجس هو أكثر ما يسيطر على عقل القيادة الإيرانية هذه الأيام قبل انتخابات الرئاسة منتصف الشهر المقبل، فضلا عن محاولة إنقاذ المشروع الذي عملت عليه أكثر من عقدين من الزمان، لكنها لا تدري من أين تبدأ ولا كيف ستنتهي.
نزيف في سوريا لا يبشر بانتصار، حتى لو تمكن المال الإيراني ومعه السلاح وكذلك دفع حزب الله نحو مزيد من التورط، حتى لو تمكن ذلك كله من إطالة أمد المعركة.
الآن نزيف آخر في العراق يمكن أن يغدو أسوأ بكثير من نزيف سوريا إذا اندلعت الحرب الأهلية، وحتى لو لم تندلع وتم التوصل إلى حل سياسي للأزمة، فإن عنوانه هو تحجيم النفوذ الإيراني في العراق، وإعادة البلد إلى حاضنته العربية بمرور الوقت.
في لبنان لا يبشر الوضع بخير، فحزب الله الذي كان سيدا في لبنان، وأصبح منبوذا من قبل السنّة، فيما يتحالف معه الموارنة تحالفا آنيا يمكن أن ينقلب بمجرد تغير الوضع العربي والإقليمي، ولا بد تبعا لذلك من مزيد من الدفع لجهات كثيرة في لبنان كي يظل الوضع على حاله لبعض الوقت.
إيران تُستنزف في سوريا مثل نزيف الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، لكنها تُستنزف أيضا في أماكن عديدة أخرى، وكل محاولاتها للإنقاذ لن تأت بنتيجة، فهي تسير مكرهة؛ ليس نحو العودة إلى حجمها، بل نحو أقل من حجمها، وبالطبع لأنها ستحتاج وقتا حتى ترمم وضعها الداخلي، سواءً بقي المحافظون في السلطة، أم انتفض الناس وأخرجوهم منها.
قلنا مرارا وسنظل نكرر بأن إيران ستكتشف عما قريب أن قرارها دعم بشار ضد شعبه، هو أسوأ قرار اتخذته منذ الثورة العام 79.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق