السبت، 11 يناير 2020

لماذا نرفضُ التطبيع مع إسرائيل؟


لماذا نرفضُ التطبيع مع إسرائيل؟

خطبة جمعة بمسجد  جامع الفاتح -جدة 
 الجمعة 1437/11/9 

عادل بن أحمد باناعمة



- الحمدللة .

قبل نحوِ عَقْدٍ من الزمانِ فرغتُ من قراءةِ روايةٍ فذةٍ قيل عنها: "إنها الرواية التي كانت النكبة الفلسطينية تنتظرها ولم تحظَ بها من قبل"!

روايةٌ كأنها كتبتْ بأحرفٍ من جمرٍ، ونُسجتْ حكاياتها بخيوطٍ من دمٍ، تحكي قصةَ قريةٍ فلسطينية وادعةٍ سماها المؤلُف (الهاديةَ) أبادها الصهاينة وشردوا أهلها .. و(الهاديةُ) في الرواية مجردُ رمزٍ لكل بلدةٍ وقريةٍ ومدينةٍ فلسطينيةٍ.

لم تكن الرواية أحداثا ًمن الخيالِ، بل كانتْ وقائع ممزوجةً بشهاداتٍ حيةٍ،وأفلح المؤلفُ في سبكِها في قالبٍ فنيٍّ بديعٍ.

في خضمّ هذه الرواية الطويلةِ عبارةٌ قالها (بطلُ الروايةِ) وهو يخوضُ معاركهُ مع أوباش يهود.

يقول: "أنا لا أقاتل كي أنتصر بل كي لا يضيع حقي. لم يحدث أبداً أن ظلّت أمّة منتصرة إلى الأبد. أنا أخاف شيئاً واحداً: أن ننكسر إلى الأبد، لأن الذي ينكسر الى الأبد لا يمكن أن ينهض ثانية، قل لهم احرصوا على ألا تُهزموا إلى الأبد".

يالها من نظرةٍ عميقة!

"أنا لا أقاتل كي أنتصر بل كي لا يضيع حقي".

ويالها من حكمةٍ بليغةٍ!

"الذي ينكسرَ إلى الأبد لايمكنُ أن ينهضَ ثانيةً".
وفي الحقيقةِ أن هذا الانكسارَ الأبديَّ هو مايريدُهُ لنا دُعاةُ التطبيع مع إسرائيل!

فالتطبيعُ انكسارٌ أبديٌّ أمام إسرائيل، واعترافٌ لها بالنديةِ، وأحقيةِ البقاءِ الطبيعيِّ في المنطقة.

والغيورون حين يرفضون التطبيع هم لايرفضون السلام، ولا يرفضون التعامل الإنسانيّ، وليسوا تجار حروب، ولا عشاق دماء ..

هم حين يرفضون التطبيع يرفضون الانكسارَ الأبديّ، وتسليم الراية، وبيع القدس والأقصى.

لعلّ هذا المدخل الروائيّ قد وضع في يدنا (مفتاح المفاتيح) بشأن رفض التطبيع ومحاربته ومقاومته.

إن التطبيع في حقيقته ليس صلحاً ولا هدنةً...

فالصلحُ أو الهدنةُ حالةٌ مؤقتةٌ من إيقافِ الحربِ مع العدوِّ، قد تكونُ محدودةً بزمنٍ معلومٍ، وقد تكونُ مطلقةً لكنْ لا بنيةِ الأبدية، وإنما هي مرتبطةٌ بالظروفِ والأحوالِ.

هو عقدٌ قائمٌ على أنك عدوٌّ لي، وأنا عدوٌّ لك، ولكنّني أتوقف عن القتال لظروف أو اعتباراتٍ.

فالصلحُ إذنْ إقرارٌ بالأصل .. بأنّ هنالك عدواً مغتصِباً يجبُ أن يُحارَب، ولكننا نوقف ذلك لأجَلٍ.

أما التطبيعُ فهو جَعْلُ العلاقةِ مع العدوِّ علاقةً طبيعيةً، ليس فيها عداءٌ، ولامنازعةٌ، ولا مشاحَّةٌ. فلستَ عدوي ولا أنا عدوكَ!

إنه إزالةٌ لغربةِ العدوِّ وجعله من جنس المنطقة، ومن طبيعتها، ومنسجماً معها.

والفرقُ بين الصلحِ والتطبيعِ هو كالفرقِ بين أن تكفَّ عن مصاولةِ مغتصبِ داركَ مؤقتاً لأنك لاتملك دفعه، وبين أن تذهبَ معه إلى المحكمةِ لتفرغَ البيتَ باسمه وتستخرجَ له صكَّ ملكية بحجة الرغبةِ في السلام والتعامل الإنسانيّ الراقي وإبداء حسن النية!!

الحالةُ الأولى صلحٌ .. والثانيةُ تطبيعٌ.

وبهذا يتبينُ لنا أن مشكلتنا ليستْ في (مصالحاتٍ) مؤقتة قد يفرضها واقعٌ سياسيٌّ أو عسكريٌّ معينٌ، بل مشكلتنا في (معاهداتٍ) تُريدُ أن تُلغي عداوةَ إسرائيل إلى الأبد، وتنصّ على أحقيتها في الوجود والبقاء. أو بعبارةِ بطل الرواية: تريد منا "أن ننكسرَ إلى الأبد".

وما أحسن قول الشاعر:

قطفوا الزهرة قالت:

من ورائي برعمٌ سوف يثورْ

قطعوا البرعم قالت:

غيره يولد في رحم الجذورْ

قلعوا الجذر من التربة قالت:

إنني من أجل هذا اليوم خبأت البذورْ

كامنٌ ثأري بأعماق الثرى

وغداً سوف يرى كل الورى

كيف تأتي صرخة الميلاد من صمت القبورْ

تبرد الشمس ولا تبرد ثارات الزهورْ

[أحمد مطر]

نعم لاتبرد ثارات الزهور .. إلا حين نُجبرها على التطبيع! فتموتُ حينئذٍ الزهرةُ ولا يكون برعمٌ ولا جذر ولا تربة ولا صرخةُ ميلاد!

ولأنَّ الجدلَ قد ثار طوال الأسبوعينِ الفائتينِ حول هذه القضيةِ، فقد أحببتُ أن أُجْمِلَ فيها خلاصةً مركزةً، تصلحُ جواباً وافياً عن سؤالٍ أحسبُهُ يترددُ في نفوس البعضِ: لماذا نرفضُ التطبيعَ مع إسرائيل؟ لماذا هذه الاندفاع المحموم لمنابذة كل من خطا خطوةً في هذا الطريق؟

وبعيداً عن (الشتائم) و(التخوين) الذي قد يكونُ مستَحَقاً! سأحاولُ معالجةَ هذه القضيةِ معالجةً شرعيةً عقليةً منطقيةً.

أعيدُ السؤال: لماذا نرفضُ التطبيعَ مع إسرائيل بالمعنى الذي ذكرتُهُ سابقاً؟

ولأنَّ الجوابَ محوريّ، والقضيةَ جوهرية، فسأجتهدُ في حسن الجوابِ، آملاً منكم الصبرَ والاجتهادَ في حسن السماع والاستيعابِ.

أول أسباب رفض التطبيع أنه مخالفٌ للمقتضى الشرعيِّ في التعامل مع الكافر المحاربِ.

لقد قسّم الله الكافرين قسمين: قسمٍ مُقسطٍ عادلٍ أوجب علينا أن نقسط معه ونعدل، وقسمٍ محاربٍ معادٍ أوجب علينا محاربته ومعاداته.

تأمل قوله تعالى: ((لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ)) [الممتحنة:8-9]

فأين بالله عليكم نضع الصهاينة؟

في خانة الذين ((لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم))

أم في خانة الذين: ((قاتلوكم في الدين وأخرجوا من دياركم وظاهروا على إخراجكم))؟

وإذا كانوا في الخانة الثانية كما هو واضحٌ بين، فكيف نطبِّع والله نهانا نهياً صريحاً أن نتولاهم((إنما ينهاكم الله))، بل قال سبحانه مخوفاً: ((ومن يتولهم فأولئك هم الظالمون))!

وفي موضعٍ آخرَ من القرآن العظيم يقول سبحانه:

(ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ) [المائدة:51-52]

وهل أشدّ من قوله سبحانه:(ومن يتولهم منكم فإنه منهم)؟

وإذا كان القرآن قد نهانا في الجملة عن تولي الكافرين المعادين، فقد خصّ عداوة اليهود بالتنبيه، فقال سبحانه:

(لتجدن أشدّ الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا)[المائدة:82]

إضافة إلى ما امتلأ به القرآن من أوصافهم وأفعالهم التي من تأملها علم أنَّ مثل هؤلاء لايمكن أن يكون التطبيعُ معهم مقبولاً ولا مشروعاً:

(فويل للذين يكتبون الكتاب بأيديهم ثم يقولون هذا من عند الله).

(مِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ)[المائدة:41]

((فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا)) [النساء:160]

((لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيق)) [آل عمران:181]

((كلما أوقدوا ناراً للحرب أطفأها الله ويسعون في الأرض فساداً)).

ولو ذهبتُ أستقصي ماورد من ذلك في القرآن لطال بي المقام جداً.

ثم أنت تجد مع هذا في سنة المصطفى صلى الله عليه وسلم قوله: ((وراء الدجال سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى، فيدركه عيسى عند باب لدّ فيقتله وينهزم اليهود، فلا يبقى شيء مما يتوارى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء، فقال: يا عبد الله -للمسلم- هذا يهودي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنها من شجرهم)) [أخرجه ابن ماجه مطولاً، وأصله عند أبي داود، ونحوه في حديث سمرة عند أحمد بإسناد حسن، وأخرجه ابن منده في كتاب الإيمان من حديث حذيفة بإسناد صحيح]

ولأجل هذه الحقائق الشرعية الواضحة لم يقل عالمٌ معتبرٌ من علماء المسلمين مذْ قامتْ لليهود دولةٌ بجواز التطبيع معهم.

وبعض الناس يتعلق بما نُقلَ عن الشيخ الجليل العلامة ابن باز قديماً في مسألة جواز الصلح مع اليهود، في فتواه المشهورة، وأقول لهؤلاء: أربعوا على أنفسكم، فإن الشيخ لم يرد أكثر من جواز الصلح من حيث هو اجتهاداً منه رحمه الله، ولم يقصد تطبيعاً بالمعنى الذي شرحتُهُ آنفاً، ولذلك قال رحمه الله في سؤال سُئل عن فتواه المذكورة وهل تقتضي إقرار اليهود على أرض فلسطين، قال رحمه الله: " الصلح بين ولي أمر المسلمين في فلسطين وبين اليهود لا يقتضي تمليك اليهود لما تحت أيديهم تمليكاً أبدياً، وإنما يقتضي ذلك تمليكهم تمليكاً مؤقتاً حتى تنتهي الهدنة المؤقتة، أو يقوى المسلمون على إبعادهم عن ديار المسلمين بالقوة في الهدنة المطلقة" [مجموع فتاوى ومقالات متنوعة 8/219]

ونحن نعلم أن كل معاهدات السلام المقترحة دولياً والتي نسميها نحن تطبيعاً كلها تقرّ لإسرائيل بامتلاك ما تحت يدها من فسلطين تمليكاً أبدياً، وتطالب العرب بالاعتراف بها دولةً لها مشروعيتها وكيانها المقبول إقليمياً ودولياً، وتدعو إلى إسقاط العداوة بالكلية بينها وبين الدول العربية والإسلامية.

ثم أضف إلى كل ماسبق ماهو معلوم من حكم الشرعِ في وجوبِ منع الظلم، وكف يد الظالم، ونصرة المظلوم، ونحو ذلك من معاني الإسلام الراسخة.

وبهذا الإيجاز تتبين لنا معالمُ السبب الأول لرفض التطبيع، وهو أن التطبيع مخالفةٌ لمقتضى الحكم الشرعيّ في التعامل مع الصهاينة.

السبب الثاني لرفض التطبيع هو المقتضى العقليّ.

فالإنسان عندما يتصور القضية الفلسطينية تصوراً عقلياً صحيحاً لايمكنُ بحالٍ أن يقبلَ التطبيع أو يرضى به.

فماجرى باختصار: أن هناك أناساً كانوا يقيمون في أرضهم وبلادهم آمنين سالمين، يتوارثون أراضيهم وديارهم أباً عن جدٍ، وابناً عن أبٍ، ما اعتدوا على أحدٍ، ولازاحموا أحداً في حقه، وفجأة جاءَ قطعانٌ مستوطنون من أطرافِ الأرض، وبقوة السلاح أخرجوا أولئك الآمنين من ديارهم، وقتلوهم، وشردوهم، وعذبوهم، واستولوا على ديارهم وأملاكهم، وأقاموا دولتهم على أرضهم، ثم لم يرضوا بهذا حتى ذهبوا يبحثون عن (مشروعية) لفعلهم، فحصلوا عليها من قوى الشرق والغرب، التي أقرتْ لهم بما سرقوا وسلبوا، وبدأتْ تتعامل معهم كدولة طبيعية، قامت في أرضها وبين ناسها.

ولكنّ هذا الكيان المسخ لم يكتف باعتراف العالم به، بل أراد اعترافاً موقعاً وممهوراً ومصدقاً من صاحب الأرض نفسها بأن هذا السارق هو المالك الحقيقي لها، وهو الأحق بها من صاحبها الأول، ومن ثم فليس للمالك الحقيقيّ أي حق في المستقبل أن يطالب بأرضه أو يأخذ حتى تعويضاً عنها!!

هذا هو التصور الواقعيّ للقضية ..
فكيف يقبل عقلٌ فكرة (التطبيع) التي هي في جوهرها أن يعطي صاحبُ الأرض هذا المغتصب (صكاً) يشهد له بملكية ماسرقه منه!
وكيف يقبل عقلٌ إعطاء الحق لليهود في فلسطين بحجة أنها كانوا فيها قبل ألفي عام! وإنكار هذا الحق على الفلسطيني الذي اضطر لمغادرة فلسطين منذ بضعة أعوام فقط!
أي عقلٍ يقبل هذا؟

قد يقبل العقلُ السكون أو الكمون، قد يقبل المناورة، قد يقبل حالة من التربص، أما هذا التبرع للمغتصب بصك الملكية فلا والله لايقبله عاقل!

وهذا التصوير للواقع ليس خيالاً ولا وهماً .. راجع نصوص الاتفاقات والمعاهدات التي تمّ توقيعها أو تلك المقترحة للتوقيع، وستجد قاعدتها الأولى: (الأرض مقابل السلام)! يعني أن نعترف بسيادة إسرائيل على جزءٍ من أرض فلسطين مقابل أنْ يحل السلام بين العرب وإسرائيل، وتعترف إسرائيل بدولة فسلطينية جارة!

وكيفما قلبتَ الأمر فهو إعطاء (صكّ) مشروعية لإسرائيل على أرض فلسطين.

ولذلك قلت: إن العقل السليم لايقبلُ هذا.

القضية واضحةٌ وضوح الشمس لكل عاقلٍ.

بل هي واضحةٌ حتى للإسرائليين أنفسهم!!
فالصهاينة أنفسهم يدركون أن مقتضى العقل ألا يطبع العربُ مع إسرائيل؟
إي والله!
نقل ناحوم غولدمان في كتابه (المفارقة اليهودية) المطبوع سنة 1978 نقل عن ديفيد بن غوريون –أول رئيس وزراء لإسرائيل- قوله: " لو كنتُ قائداً عربياً لما وافقت على أي اتفاق مع إسرائيل، فهذا أمرٌ طبيعي، فنحن أخذنا بلادهم، نعم إن الله وعدنا بهذه الأرض ولكن هذا الأمر لا يهمهم، فإلهنا ليس إلههم... وهذا حصل منذ ألفي عام، فما الذي يدعوهم إلى أن يعيروه اهتماماً ؟ إنهم يرون شيئا واحداً فقط: أننا جئنا وسرقنا بلادهم، فلماذا عليهم أن يقبلوا بهذا ؟" [نقلاً عن زمن الخيول البيضاء:507]

أرأيتم؟!

لاتعليق!

السبب الثالث لرفض التطبيع مع اليهود أنّ هذا الرفض هو مقتضى القانون الدولي.

فالقوانين الدولية تنصّ على أنَّ المحتل لايكتسب سيادة على الأرض!

والتطبيع إكسابٌ لإسرائيل سيادةً على أرضٍ محتلة.

والقوانين الدولية توجب على المحتل احترام القوانين والأعراف النافذة في الأراضي المحتلة.

وإسرائيل تمنع الفلسطينيين حتى من صلاة الجمعة في الأقصى.

والقوانين الدولية تمنع نقل السكان التابعين للمحتل إلى أراضٍ أخرى.

وإسرائيل تمارس ذلك يومياً.

والقوانين الدولية تحظر العقاب الجماعي.

وإسرائيل تعاقب شعباً بأكمله.

والقوانين الدولية تمنع مصادرة الممتلكات الخاصة.

وإسرائيل لاتكاد تترك شيئاً دون مصادرة!

ولاشك أن التطبيع هو إقرارٌ بكل هذه المخالفات، ورضا بها، وغضّ للطرف عنها.
إنه جريمة أو على الأقل هو (تأييدٌ لفاعل الجريمة) ومنعٌ من وقوع العقاب عليه.
السبب الرابع لرفض التطبيع أنَّ اليهود لم يكونوا قطّ صادقين في طلبهم للسلام! أو ادعائهم إرادة التعايش مع المحيط العربي الإسلاميّ! فضلا عما زعمهم بعضُ زوار إسرائيل من أنهم (شعب) مسالم يحبّ الحياة ويرغب في السلام!

فكيف ندعو للتطبيع مع عدو ثبت أنه لايحترم عهوده ولا مواثيقه ولايلتزم بمايجبُ عليه؟

لم أقل ذلك أنا، ولا قاله عالمٌ أو مؤرخٌ، بل قاله ربّ السموات والأرض.

((الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة و هم لا يتقون))

(( في كل مرة))!!

يا ألله ما أشدَّ هذه العبارة وأدلها!

((أوكلما عاهدوا عهدا نبذه فريق منهم بل أكثرهم لا يؤمنون)).

لاحظ ((كلما عاهدوا))

نحنُ أمام عادةٍ متأصلةٍ، وفعلةٍ متكررة، ولسنا أمام فلتةٍ أو فلتتين!

إنّ النبيّ صلى الله عليه وسلم حين وقع أبو عزةَ أسيراً بيده للمرة الثانية في أحدٍ، لم يرض أن يعفو عنه كما عفا عنه في المرة الأولى، لم يرض أن يعطي العهد والميثاق ثانية لمن نقضه أول مرة، بل قال له بحزمٍ وحسم: ((أين ما أعطيتني من العهد والميثاق؟ والله لاتمسح عارضيك بمكة تقول: سخرتُ بمحمدٍ مرتين، وإن المؤمن لايُلدغ من جحر مرتين)).

هكذا رفض صلى الله عليه وسلم أن يعطي العهد والميثاق ثانية لمن خانه أول مرة.

وهؤلاء المطبعون يرون خيانات اليهود لعهودهم ومواثيقهم عشرات المراتِ، ومع ذلك يريدون لنا أن نطبع!!

يكفي أن تنظروا إلى الدول التي (طبَّعَتْ) مع إسرائيل ماذا جنتْ!

ليراجع المهتم منكم حجم انتهاكات إسرائيل لاتفاقية وادي عربة مع الأردن، وكامب ديفيد مع مصر! وسيرى العجب.

وليراجع ضرب إسرائيل بمواثيق الأمم المتحدة عرض الحائط.

وليراجع تاريخ الهدنات الإسرائيلية مع الفلسطينيين.

ثم ليحدثني عن فائدة إعادة اختراع العجلة وتوقيع اتفاقية سلام جديدة مع إسرائيل!! نعلمُ مسبقاً أنها ستستفيدُ مما لها فيها، وترفضُ تنفيذ ماعليها!!

والأكثر إضحاكاً وإيلاماً اليوم أنَّ إسرائيل نفسها باتتْ تصرِّحُ برفض معاهدات السلام وبنو قومنا يجرون وراءها!

ومن تذكر المبادرة العربية للسلام التي اتفقتْ عليها الدول العربية، وأقرتها الجامعة، ورفضتها إسرائيل عرف ما أعنيه.

السبب الخامس لرفض التطبيع مع إسرائيل أن تاريخ جرائمها ومجازرها في حق أمتنا لايمكن أن يُنسى.

من هذا الذي يطالب الفلسطينيّ الذي شهد مصرع أهله بيد يهود أن يمدّ يده للسلام؟

تاريخ طويل من المجازر: دير ياسين، قبية، قلقيلية، جنين، الحرم الإبراهيمي، كفر قاسم، صبر ا وشاتيلا، قانا، غزة ... وهلم جراً.

قائمة طويلة مكتوبة بالدم يريد المطبعون بكل بساطة أن نطويها ونتناساها ونغض الطرف عن استحقاقاتها الإنسانية والقانونية ونعترف للقتلة بحقهم في أن يبقوا حيثُ قتلوا وأجرموا وذبحوا!

السببُ السادس لرفض التطبيع مع إسرائيل أنّه مناقضٌ لسياسة هذه البلادِ ومواقف ملوكها.

لقد نقل المستشرق ديكسون عن الملك عبدالعزيز في كتابه الشهير (الكويت وجاراتها) أنه قال: "إننا نشعر اليوم، ويشعر معنا كل قومنا بالقلق العميق حول القضية الفلسطينية، وسبب قلقنا وانزعاجنا هو الموقف الغريب لحكومتكم البريطانية ... كيف يا ديكسون ستكون الحال مع شعب اسكتلندا، إذا أعطى الإنجليز أرضه فجأة لليهود؟يجب على حكومتكم على الفور وقبل أي شيء آخر أن تزيد من الحد من هجرة اليهود الى فلسطين".

والملك سعود قد زار فلسطين قبل قيام إسرائيل، وصلى في الأقصى، وحين وصل قرية عنبتا في طولكرم أنشده الشاعر الكبير الشهيد عبدالرحيم محمود قصيدة باذخة جاء فيها:

المسجد الأقص أجئت تزوره .. 
                    أم جئت من قبل الضياع تودعه!

فقال الملك سعود: "لا والله لن نودع فلسطين ونحن فينا عرق عربي واحدٌ ينبض".

وأما الفيصل فمواقفه ذائعة، وخطبه متداولة، ولكن قصة عجيبة رواها الدكتور معروف الدواليبي تستحق الذكر!

التقى الملك فيصل مع الرئيس الفرنسي ديغول في أوائل حزيران 1967م.

فقال ديغول للفيصل: ياجلالة الملك يتحدث الناس أنكم تريدون أن تقذفوا بإسرائيل للبحر، وإسرائيل هذه أصبحت أمراً واقعاً، ولايقبل أحدٌ في العالم رفع هذا الأمر الواقع!

فقال الفيصل: "فخامة الرئيس، إن هتلر احتل باريس، وأصبح احتلاله أمراً واقعاً، ولكنّ الشعب الفرنسي بقيادتك لم يرضخ لهذا الأمر الواقع! فلماذا تريد من العرب أن يرضوا بالأمر الواقع؟

فقال ديغول: إنّ فلسطين وطن اليهود الأصلي عاشوا فيه قبل مئات السنين!

فقال الفيصل: إنك تقرأ في كتابك المقدس أن اليهود جاؤوا إلى فلسطين غزاةً حرقوا المدن، وقتلوا النساء والأطفال، فكيف صارت بلدهم؟ فلسطين للكنعانيين العرب، واليهود مستعمرون، وأنت تريد الآن أن تعيد الاستعمار الذي كان قبل آربعة آلاف سنة، فلماذا لاتعيد استعمار روما لفرنسا وليس له إلا ثلاثة آلاف سنة؟ نحن العرب أمضينا في جنوب فرنسا مئتي سنة، واليهود لم يمكثوا في فلسطين سوى سبعين سنة ثم نُفوا منها، نطالب بجنوب فرنسا إذن!

فتعجب ديغول ثم قال: ولكنّ جد اليهود قد ولد في فلسطين!

فقال الفيصل: عندك مئة وخمسون سفارة في باريس، وأكثر السفراء يولد لهم أطفال فيها، فلو صار هؤلاء الأطفال رؤساء دول وجاؤوا يطالبونك بباريس بحجة أنهم وُلدوا فيها! فلمن ستكون باريس ياترى!

[ مذكرات معروف الدواليبي:201]

هذا موقفٌ صلبٌ عجيبٌ، واحتجاجٌ بليغٌ،
وقد كان الدكتور معروف الدواليبي شاهد عيان لهذه الحادثة، ورواها بتفاصيل أوسعَ في مذكراته المطبوعة.
وبين يديّ نصوص للملك خالد والملك فهد وبقية ملوك هذه البلاد لولا خشية أن أطيل أكثر مما أطلتُ لذكرتها، وكلها في جوهرها تستنكر التطبيع مع إسرائيل.
إذنْ .. موقف بلادنا إلى هذه اللحظة ثابتٌ من إسرائيل، موقف العداء والرفض لكل محاولات التطبيع، وليس استنكار الزيارة المشؤومة إلا حلقةً في سلسلة، وبإذن الله يبقى الموقف ثابتاً رغم الضغوط.

= الخطبة الثانية.
- الحمدللة.

كنتُ قد بينت في الخطبة الأولى أسباباً خمسةً شرعية ومنطقية وتاريخية لرفض التطبيع مع إسرائيل.

وبقي أن أعلق تعليقاً سريعاً على ما يطرحه البعض من المؤيدين لهذا السياق التطبيعيّ المجرَّم.

وأول خديعة أنبه إليها هي الخلط بين (الزيارة) و(التطبيع).

فمجرد زيارةِ المسجد الأقصى أراها شخصياً خطأ وخطيئةً، ولكنها بلا شك دون جريمة الدعوة إلى التطبيع مع إسرائيل أو ممارسة التطبيع.

والخديعة هاهنا أن يقوم شخصٌ بأفعال (تطبيعية) كزيارة قادة الدولة اليهودية وأركان جيشها، والتباحث معهم حول السلام، ثم يحتجّ لفعله بضرورة زيارة الأقصى والصلاة فيه وأن ذلك يثبت حق المسلمين!

فأين هذا من هذا؟

كذلك من يحتجّ للتطبيع بدخول النبيّ صلى الله عليه وسلم لمكة وهي تحت سيطرة قريش، هو يخادعُ نفسه، فالنبيّ صلى الله عليه سلم قبل دخوله وبعده كان في حالة حربٍ مع قريش، حربٍ لم تنته إلا بفتح مكة والقضاء على سلطان الشركِ، وماتخلل ذلك من معاهداتٍ كان وقتياً وآنياً.

لم يوقع النبيّ صلى الله عليه وسلم على اتفاقية تجعل لقريش سلطاناً دائماً على مكة، ولم يعترف لها بملكية البيت وما حوله، ولم يغض الطرف عن المهجَّرين الذين شردتهم قريش، ولم يدعُ إلى مثل هذه التسوياتِ.

لابد إذن من التفريق بين مسألة (الزيارة) وهي قضية قد نعرض لها لاحقاً – وأؤكد أني مع جمهور الفقهاء المعاصرين في تحريمها- وبين مسألة التطبيع التي عليها مدار الحديث.

كذلك من إشكالات البعض ما يسميه نظرية (خذ وطالب)!

يعني خذ الآن ماتعرضه إسرائيل ثم طالب بعد ذلك بالباقي!

ويرى هؤلاء أن إسرائيل عرضتْ خيار الدولتين منذ بداية قيامها، فرفضه العرب، وهاهم العربُ الآن ينادون به!!

هذا المتفذلك يغض الطرف أو يتجاهل أنّ ماتطلبه إسرائيل هو أن تأخذ شيئاً قليلاً مقابل أن (تعترف) لها بملكية الباقي! خذ دويلة صغيرةً واعترف لإسرائيل بالقدس وشرعية الكيان.

وبالتالي مادمتَ قد اعترفتَ لهم بذلك فبماذا ستطالب؟

هل ستطالبُ بما وقعتَ رسمياً على أنه ليس لك؟

إن نظرية (خذ وطالب) قد تفهم في إطار المناوشات، حين يضطر العدو إلى إعطائك شيئاً دون مقابل، فتأخذه وتواصل مسيرتك، أما هذا الأخذُ في مقابل الاعتراف فأي مطالبة ستكون بعده؟

ستكون أنتَ الملوم قانونياً ودولياً لو طالبتَ بعد ذلك!

وستكون بهذه الخطوة التراجعية قد أمتَّ في أجيالك اللاحقة روح المطالبةِ، فالذي يتنازل مرةً يتنازل مراتٍ. 
وما أحسن قول أمل في رائعته (لاتصالح):

سيقولون:

ها أنت تطلب ثأرًا يطول

فخذ -الآن- ما تستطيع:

قليلاً من الحق..

في هذه السنوات القليلة

إنه ليس ثأرك وحدك،

لكنه ثأر جيلٍ فجيل

وغدًا..

سوف يولد من يلبس الدرع كاملةً،

يوقد النار شاملةً،

يطلب الثأرَ،

يستولد الحقَّ،

من أَضْلُع المستحيل

لا تصالح

ولو قيل إن التصالح حيلة

إنه الثأرُ

تبهتُ شعلته في الضلوع..

إذا ما توالت عليها الفصول..

ثم تبقى يد العار مرسومة بأصابعها الخمس

فوق الجباهِ الذليلة!

لقد بقيت دولة الصليبيين مئتي عام في المنطقة، فهل طبّع معها الأبطال؟ هل تنازلوا له بمدينة أو مدينتين؟ هل اعترفوا لها بما استولتْ عليها مقابل عيش رخيٍّ مزعوم، وسلام موهوم؟ كلا .. لقد استمرّ الرفضُ حتى قيض الله صلاح الدين فأعاد لأصحاب الحق حقهم.

ومن هذه الإشكالات سؤال بعضهم: تزعمون ألا فائدة للسلام مع إسرائيل؟ فماذا استفدتم أنتم من حرب إسرائيل؟

ماذا استفدتم من هذه العداوة ورفض كل التسوياتِ المطروحة؟

والجواب أن أقل ما استفدناه بقاء إيماننا ويقيننا وإيمان أجيالنا ويقينهم بأن القدس لنا وليست لليهود.

استفدنا أن إسرائيل ماتزال منبوذة مجرّمة في الوعي العام.

استفدنا تحجيم الغزو الثقافي الإسرائيليّ.

استفدنا إقلاق اليهود وشعورهم الدائم بأنهم ليسوا على أرضهم! وليسوا آمنين حيث هم.

استفدنا أن الأمل في زوالها وتصديق موعود الله في ذلك مايزال حياً في نفوسنا.

استفدنا أننا قمنا بما علينا ولم نسلم ولم نستسلم.

وقد بسطتُ عقبَ حربِ غزةَ فوائد المقاومة وثمراتها في مقالة طويلة عنوانها: (صواريخ المقاومة الفلسطينية .. قراءة عقلانية) فليرجع لها من شاء.

يا أحبّة ..

إنَّ زوال إسرائيلَ حتمٌ تدلُّ عليه شواهدُ الوحي، ودلائل التاريخ، وسنن الكون.

ولا عزاء للمطبعين.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق