"فينالة" محمد علي!!
"الفينالة" تعبير سنيمائي، يعني عند أهل المهنة "المشهد الأخير" في الفيلم.. ذلك المشهد الذي أداه الفنان محمد علي، مرتديا "تي شيرت" أسود، بعد أن خلع البذلة الفورمال، وربطة العنق، الذيْن ظهر بهما في مَشاهد يوم 24 كانون الثاني/ يناير، وليلة 25 كانون الثاني/ يناير 2020.
والمتابع لحكاية محمد علي من بدايتها، يلاحظ خللا واضحا في خطها الدرامي، بدءا من تلك القفزة المفاجئة، من مقاول "مظلوم" يطالب بحقوقه المادية التي ابتلعها حيتان العسكر، إلى زعيم وطني، ينادي بحق المصريين في حياة كريمة تتسم بالرفاهية، كتلك التي يحياها المواطنون الأوروبيون، وهو الحق الذي لن يتحصل عليه المصريون إلا بإسقاط نظام السيسي، كما ردد محمد علي كثيرا.
ومع تأكيد الرجل مرارا على أنه لا يفقه شيئا في السياسة، حسب تعبيره، إلا أنه شرع في "التنظير" لبناء الدولة، وتشكيل مؤسساتها! وهذا خلل جسيم آخر.. ورغم صدمة "نخبة" مناهضي الانقلاب، من هذه "الجرأة" الناجمة عن جهل بيِّن بالسياسة، غير أن بعض شخصياتها سعت للتواصل معه على نحو لا يمكن وصفه إلا بالتهافت! وكذلك فعل الإعلام المعارض للانقلاب، إذ تحدث الكل (تقريبا) عن "اللقاء الأول الحصري" مع المقاول الفنان محمد علي (الذي لا يفقه شيئا في السياسة)! وكلما تحدث الرجل، في مقابلات متلفزة، خصم ذلك من رصيده الجماهيري الذي حققه مع ظهوره الأول.
خطفت الكاريزما الشخصية لمحمد علي الأبصار، فلم يتوقف جُلُّ متابعيه أمام ضعف مؤهلاته القيادية، وجهله بأبجديات السياسة! وكالغريق الذي يتعلق بـ"قشَّة"، عقد قطاع كبير من الشعب المصري على الرجل القادم من الظل؛ آمالا عريضة في التخلص من كابوس الانقلاب الذي أفقرهم، إلى الحد الذي ارتفعت فيه نسبة الفقر إلى 33 في المئة، مصحوبة بانهيار في قطاعات الصحة والتعليم والمياه والمواصلات والطرق، وارتفاع فاحش في الأسعار، وتفريط لا يتوقف في أصول مصر ومُقدراتها الحيوية.
استجاب عدد لا بأس به من الشعب المصري لدعوة محمد علي، بالنزول إلى الشارع مساء 20 أيلول/ سبتمبر 2019، بينما كان عبد الفتاح السيسي في نيويورك؛ لحضور الدورة الرابعة والسبعين للجمعية العامة للأمم المتحدة، وبدا الأمر كما لو أنه بداية ثورة شعبية يقودها محمد علي، إذ نقلت الشاشات صور المتظاهرين وهم يمزقون صور السيسي، ويحرقونها، أو يدوسونها بالأقدام، وسُمعت الأصوات التي تهتف بسقوطه. ولم تُسرف قوات الأمن في استخدام العنف ضد المتظاهرين! والتزمت (على غير العادة) بدرجة واضحة من "ضبط النفس"! واكتفت في تلك الليلة بإلقاء القبض على بضعة آلاف، تم إخلاء سبيلهم تباعا..
كانت هذه المرة الأولى التي يخرج فيها المصريون بهذه الكثافة العددية، بعد توقف الحراك الثوري في 2015، واعتقد كثير من المراقبين أن انقلابا على وشك الوقوع، وأن السيسي لن يعود إلى مصر، وأن انفراجة للوضع المتأزم تلوح في الأفق، بيْد أن كل ذلك تبدد مع عودة السيسي التي كانت بوجه غير الذي ذهب به.
عاد السيسي إلى مصر في الصباح الباكر من اليوم التالي (21 أيلول/ سبتمبر)، شاحب الوجه، زائغ البصر، يبحث عن جملة مفيدة تناسب هذا الحدث الجلل، فيقول كلاما مثيرا للسخرية، وكان في استقباله، كما العادة في مثل هذه المواقف، شيخٌ، وقِسٌ، وميكرفون، وعدد من "الهتَّافين"، في محاولة للتشويش على الأجواء "الثورية" التي عاشها المصريون الليلة الماضية. بعد فترة وجيزة من أحداث تلك الليلة، أعاد السيسي إلى الخدمة عددا من القيادات العليا للقوات المسلحة، كان قد أقالها قبل عام أو عامين، وتم إبعاد ابنه محمود من موقع وكيل جهاز المخابرات العامة، ورئيسه الفعلي، إلى موسكو! كما تم إطلاق سراح الفريق سامي عنان الذي اعتقله السيسي؛ لأنه حاول منافسته في انتخابات الرئاسة!
فهل كانت هناك تهيئة لمحاولة انقلابية بغطاء شعبي، على غرار 30 حزيران/ يونيو 2013، قادها محمد علي من الخارج، لصالح جناح في القوات المسلحة، غير راضٍ عن استئثار السيسي بالسلطة، وكادت أن تتم، لولا تفاهم عاجل، لم يجد السيسي بُدّا من القبول ببنوده التي أشرنا إلى بعضها للتو؟ وهل يمكن اعتبار الإجراءات المذكورة دليلا على وجود مثل هذا التفاهم؟ هذا استفهام لا يمكن تجاهله، وطرحه لا يعني توجيه أي اتهام لمحمد علي، فربما تم إقناع الرجل بأن يلعب هذا الدور "عشان خاطر مصر"!
حاول محمد علي تكرار ما حدث مساء 20 أيلول/ سبتمبر، لكنه فشل! وهنا يجب لفت الانتباه إلى نقطة جوهرية، يعرفها كل من شارك في "إدارة حشد جماهيري"، ألا وهي ضرورة وجود نواة، أو نوَيات إذا تعددت مناطق الحشد، تكون بمثابة مراكز جذب للجماهير لتشجيعها على التجمع! ونجاح الحشد مساء 20 أيلول/ سبتمبر يعني وجود هذه النَّوَيات، الأمر الذي يعني (بالضرورة) أن جهة ما كانت تدير المشهد على الأرض، وأن هذه الجهة لم تُعِد الكَرَّة، مع دعوات محمد علي التي تلت دعوة 20 أيلول/ سبتمبر؛ تمهيدا لإنهاء "العملية" برمتها، بعد التفاهم مع السيسي. وكان محمد علي قد أعلن غير مرة أنه سينسحب من المشهد، إذا لم يستجب المصريون لدعوته المقبلة في 25 كانون الثاني/ يناير 2020، وهو ما كان.
بهذه "الفينالة"، يكون محمد علي قد خسر "الجيم (اللعبة) السياسي" مع السيسي، وأسدل الستار على عرض مثير بامتياز، ظل مستحوذا على اهتمام الجماهير، على مدى خمسة شهور كاملة، غير أنه حقق مكسبا أدبيا لا يُقدّر بثمن؛ فقد حفر الرجل اسمه في التاريخ كبطل شعبي تحدى طاغية عصره. أما مكسبه المادي، فيمكنك تقديره (عزيزي القارئ) إذا أجبت عن السؤال: كم ستكون إيرادات الفيلم القادم لمحمد علي، إذا عاد إلى التمثيل؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق