رسالة في الطريق إلى ثقافتنا .. لأديب العربية محمود محمد شاكر
أبو الحسن الجمال
ملخص المقال
قراءة في كتاب رسالة في الطريق إلى ثقافتنا لأديب العربية أبي فهر محمود محمد شاكر، حول وضع ثقافتنا العربية الإسلامية بعد الغزو الأوروبي
أديب العربية محمود محمد شاكر
لأديب العربية الكبير محمود محمد شاكر فضل كبير علي حياتنا الأدبية والثقافية المعاصرة، عمل على نهضتها والارتقاء بها منذ فترة مبكرة من حياته، وذلك راجعاً إلى نشأته في بيئة علمية صالحة.
فوالده الشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر الأسبق، وأخيه المحدث الكبير أحمد محمد شاكر، وقريبه العلامة المحقق عبد السلام محمد هارون، نشأ متذوقاً للغة العربية عليماً بأدق أسرارها، وكان الجميع من أرجاء الوطن العربي يحجون إليه، ينهلون من علمه الواسع الغزير، اشتهر بتحقيقه للكتب النادرة من كتب التراث، وحسم العديد من القضايا التي كانت محل جدال، ووافقه الجميع على اجتهاداته.
رسالة في الطريق إلى ثقافتنا
واليوم نستعرض معه في كتابه الحجة "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا"، الذي كان في الأصل مقدمة لكتابه "المتنبي" في طبعته التي ظهرت في عام 1978م.
في هذا الكتاب يناقش واحدة من أخطر قضايا ثقافتنا، بل يناقش قضية القضايا فيها وهى الوضع الحالي لثقافتنا العربية الإسلامية بعد الغزو الأوربي، حيث أن الغزو الذي بدأ مع غزوة نابليون منذ مائتي عام ولم يكن عسكرياً بقدر ما كان غزواً فكرياً، مهمته زرع التغريب وتجنيد فئة يدافعون عن هذا التغريب.
هذا هو سر اصطحاب نابليون لجحافل من المستشرقين والعلماء من كافة التخصصات، وقد سبق نفر من هؤلاء المستشرقين هذه الحملة، وكانوا يبعثون بالتقارير التي تفيد أن يقظة عارمة تفور بالشرق، وأن الوقت قد حان لوأدها حتى لا تهدد أوربا ثانية؛ لأن سر قوة المسلمين هو تمسكهم بتعاليم الإسلام، وسر ضعفهم هو إبعادهم عن هذه التعاليم الحية التي هي أساس لكل تقدم ورقى.
فقد جاءت الحملة بغرض السطو على ما تقع عليه أيديهم من كنوز حضارتنا بل حضارات الشرق كلها، علومها وفنونها وآثارها، والغرض الثاني تمهيد الأرض للجيوش الغازية في محاولة لإخضاع العقل العربي عن طريق إعادة تصدير ما وقع تحت أيديهم من معارف عن بلادنا وثقافتنا، بالصورة التي تلائم أغراض الغزاة.
لقد كتب محمود شاكر هذه الرسالة للكشف عن جذور التاريخ الذي أدى إلى فساد الحياة الأدبية والسياسية والاجتماعية والدينية، وما نشأ فيها من المناهج التي كانت ولا تزال تسود الحياة الأدبية والثقافية فرفضها رفضاً، وبدأ يغوص في قراءة كل ما يقع تحته من تراثنا الثرى في التخصصات كالتفسير والحديث، والفقه، وأصول الفقه، والشعر، والتاريخ، والتراجم، وغير ذلك من أبواب العلم.
وعمد في رحلته هذه قراءة الأقدم فالأقدم وأمدته هذه التجربة الجديدة بخبرات جمة متباينة ومتشعبة، أتاحت له أن يجعل منهجه في تذوق الكلام منهجاً شاملاً متشعب الأنحاء، وهذا جره لبداية هذا الصراع وكشف النقاب عن حقيقة المستشرقين ومنهجهم وأهدافهم وأغراضهم إلا القليل المنصف منهم.
وقد عمل هؤلاء جواسيس لبلادهم وأخلصوا النية لأهدافهم الاستعمارية والدفاع عنها، وهذا وضح جلياً قبيل مجيء الحملة الفرنسية فهم الذين رصدوا اليقظة التي ظهرت معالمها في القرن الثامن عشر، فظهر الأعلام في كل التخصصات كالبغدادي صاحب خزانة الأدب، والجبرتي الكبير وأبحاثه في الكيمياء والطبيعة، والسيد مرتضى الزبيدي والعودة لمجد اللغة العربية وموسوعته الضخمة "تاج العروس"، والإمام محمد بن عبد الوهاب الذي ساهم في تنقية العقيدة مما علق بها من أوهام وبدع.
وهنا قلق الغرب من هذه النهضة التي كانت بذورها قد نمت، فبعث أولئك المستشرقين لبلادهم يحثوهم على غزو مصر. ويستشهد من تاريخ الجبرتي حكاية حثت مع الشيخ حسن الجبرتي والد المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي وهى التي أيدت كلامه حول أغراض المستشرقين الذين عملوا بإخلاص لدولهم ولم يخلصوا للعلم قدر إخلاصهم لسياسات بلادهم.
فنقل محمود شاكر عنه: "الجبرتي الكبير كان فقيها حنفياً كبيراً نابهاً عالماً باللغة، وعلم الكلام، وتصدر إماماً مفتياً وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، ولكنه في سنة (1144هـ - 1731م) ولى وجهه شطر العلوم التي كانت تراثاً مستغفلاً على أهل زمانه، فجمع كتبها من كل مكان ، وحرص على لقاء من يعلم سر ألفاظها ورموزها، وقضى في ذلك عشر سنوات (1144- 1154هـ)، حتى ملك ناصية الرموز كلها، حتى النجارة والخراطة والحدادة والسمكرة والتجليد والنقش والموازين، وصار بيته زاخراً بكل أداة في كل صناعة يستفيدون من علمه، ومارس كل ذلك بنفسه .." .
ثم ينقل هذا الخبر الخطير عن تاريخ الجبرتي:"وحضر إليه طلاب من الإفرنج وقرأوا عليه علم الهندسة، وذلك في سنة (1159هـ - 1746م) وأهدوا إليه من صنائعهم وآلاتهم أشياء نفيسة، وذهبوا إلى بلادهم ونشروا بها العلم من ذلك الوقت وأخرجوه من القوة إلى الفعل واستخرجوا به الصنائع البديعة مثل طواحين الهواء، وجر الأثقال، واستنباط المياه، وغير ذلك".
لقد رسم شاكر خريطة فكرية حسب القرون الهجرية لكل علماء الإسلام، وراح يتتبعهم بدأب ونهم شديدين، يرى أن الدين هو رأس كل ثقافة لأنه فطرة الإنسان والأصل الأخلاقي الذي لا يمكن أن تقوم الحضارة إلا به وإلا صارت الدنيا فوضى عارمة.
ينتقل بنا للحديث عن الحروب والصراعات التي دارت خفاء وعلنا بين ديار الإسلام وغيرها وكيف تراكمت أحقاد وضغائن لدى المسيحية الشمالية في أوروبا ضد المشرق الإسلامي، مما ظهر بعد ذلك متشحا بثياب الاستشراق والتنصير والاستعمار.
يتكلم باستفاضة عن عصور مختلفة يبدأ بالعصور الوسطى ثم عصور النهضة ثم الحروب الصليبية، ويفيض في الحديث عما أصاب أركان الدولة الإسلامية من تصدع آنذاك بسبب هذه الحروب الصليبية التي بدأت بقيادة الرهبان وملوك الإقطاع الذين يطمعون في عسل الشرق ولبنه. ويؤكد على منبع الحقد الشمالي المسيحي بعد سقوط القسطنطينية في (857ه - 1453م) عاصمة المسيحية على يد محمد الفاتح، مما هز العالم الأوروبي هزة عنيفة ممزوجة بالخزي والخوف والرعب والغضب والحقد.
ويثبت أستاذنا أديب العربية أن الاستشراق بدأ لأجل الأوروبيين وليس لأجلنا، يعني أنه مع الحروب الصليبية مثلا بدأ يظهر رجال من أمثال روجر بيكون الإنجليزي، ممن شامٌّوا العرب والعربية وجاهدوا في التعلم ليزيحوا عن أنفسهم وعن ذويهم وأوطانهم الجهل، حتى ينشأ حائل يمنع الأوروبيين من الانبهار بحضارة الإسلام التي كانت في أوجها وقتئذ.
ومن أكبر الأمثلة على ذلك توما الإكويني الإيطالي الكاثوليكي الذي استطاع تحصيل قدر كبير من العلم والمعرفة من ديار الإسلام، ولما سقط آخر حصن للصليبيين في الشام في عام 1291م تأكد الصليبيون أن ديار الإسلام عصية على الاختراق، ولكن المسلمين في ذلك الوقت -كما يقول- قد أعجبتهم كثرتهم وتاهوا بما أوتوا من زخرف الحياة الدنيا.
ثم يعرج للحديث عن حملة نابليون وأهدافها الحقيقة من خلال دراسته الجيدة للنصوص دون تدجين أو إخضاعها للتفسيرات الفاسدة كما فعل الكثير من المؤرخين، ومراقبة الاستشراق له وكيف أنه كان داهية عريق المكر برغم أنه كان أميا بينما خدع المشايخ.
بيد أن الاستشراق لم يكن عنه غافلا وقد أطاح محمد علي هذا بالزعيم عمر مكرم الذي ساعده في الوصول إلى السلطة وثبت هذا الطاغية ملكه وهكذا بدأ وأد اليقظة على يد هذا الداهية الذي حقق للمسيحية الشمالية مأربها.
ويجدر بالذكر هنا أن العلامة شاكر يطلق على عبد الرحمن الرافعي اسم المؤرخ المدجن، ويثبت عليه أخطاءً كثيرة وهو ما يؤكد أن التاريخ أمر في غاية الخطورة يجب أن نتنبه ممن نأخذه سيما وأن الرافعي كان يشيد بعبقرية محمد علي الذي دبر البعثات العلمية، بينما يرى شاكر أن الأمر كان مبيتا له من قبل أساطين الاستشراق وليس من اختراع الجاهل محمد علي.
تكلم شاكر عن رفاعة الطهطاوي وما فعله معه المستشرقون وكيف أنه هو وزملاؤه قد حازوا أعلى المناصب بعد عودتهم من بعثاتهم وهي المناصب التي شابت نواصي العلماء في سبيلها، ثم تكلم عن حقيقة مدرسة الألسن التي أنشأها الطهطاوي وخطرها والتي لم تكن من بنات أفكار رفاعة بالطبع.
وينتقل بنا إلى نقطة في غاية الأهمية وهي الاحتلال الانجليزي لمصر وجعل التعليم كله في قبضة المبشر الخبيث دنلوب، وانشطار التعليم في البلاد إلى شطرين ديني في الأزهر ودنيوي في المدارس وما تبع ذلك من تفريغ طلبة المدارس من ماضيهم وبعث الانتماء إلى الفرعونية البائدة.
ويختم كتابه بالحديث عن آثار ورواسب هذا التفريغ الذي نعاني منه حتى يومنا هذا، ويحكيه -تحت عنوان "قصة التفريغ الثقافي"- بصورة لم نرى أفجع منها حقيقة ولا أروع منها تصويرا بقلم العلامة شاكر، والتي تأتي تحت مسميات عدة كثقافة العصر والتنوير والتجديد مما استوفي بيانه في كتابه "أباطيل وأسمار".
وقد فصل بعد ذلك ما تقيأه دكتور طه حسين مما تعلمه على يد المستشرقين خاصة في كتابه "في الشعر الجاهلي"، وما زرعه في نفوس الناس من شكه ثم ما قاله وأثبته دكتور طه حسين بعد ذلك بكلماته، هو بنص حديثه الذي أورده العلامة شاكر من أن الفائز الحقيقي ممن سافر وتعلم في أوروبا هو من أحيا تراثه الإسلامي ولغته العربية ولم يتخلى عن أصوله وتاريخه الإسلامي.
وقد أبانت شهادة الدكتور طه التي أوردها العلامة شاكر في آخر سفره ما كان يحاك من تدمير لثقافتنا وتراثنا، سيما وأن الدكتور طه نفسه قد أيقن أخيرا ماذا يراد وراء كلمة تجديد.
وفي النهاية نقول إن أبا فهر حاول في هذا الكتاب أن يؤرخ لنا بعين عربية لا تغفل ، لا بعين أوربية تخالطها نخوة وطنية كما حاول البعض.
أديب العربية محمود محمد شاكر
لأديب العربية الكبير محمود محمد شاكر فضل كبير علي حياتنا الأدبية والثقافية المعاصرة، عمل على نهضتها والارتقاء بها منذ فترة مبكرة من حياته، وذلك راجعاً إلى نشأته في بيئة علمية صالحة.
فوالده الشيخ محمد شاكر وكيل الأزهر الأسبق، وأخيه المحدث الكبير أحمد محمد شاكر، وقريبه العلامة المحقق عبد السلام محمد هارون، نشأ متذوقاً للغة العربية عليماً بأدق أسرارها، وكان الجميع من أرجاء الوطن العربي يحجون إليه، ينهلون من علمه الواسع الغزير، اشتهر بتحقيقه للكتب النادرة من كتب التراث، وحسم العديد من القضايا التي كانت محل جدال، ووافقه الجميع على اجتهاداته.
رسالة في الطريق إلى ثقافتنا
واليوم نستعرض معه في كتابه الحجة "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا"، الذي كان في الأصل مقدمة لكتابه "المتنبي" في طبعته التي ظهرت في عام 1978م.
في هذا الكتاب يناقش واحدة من أخطر قضايا ثقافتنا، بل يناقش قضية القضايا فيها وهى الوضع الحالي لثقافتنا العربية الإسلامية بعد الغزو الأوربي، حيث أن الغزو الذي بدأ مع غزوة نابليون منذ مائتي عام ولم يكن عسكرياً بقدر ما كان غزواً فكرياً، مهمته زرع التغريب وتجنيد فئة يدافعون عن هذا التغريب.
هذا هو سر اصطحاب نابليون لجحافل من المستشرقين والعلماء من كافة التخصصات، وقد سبق نفر من هؤلاء المستشرقين هذه الحملة، وكانوا يبعثون بالتقارير التي تفيد أن يقظة عارمة تفور بالشرق، وأن الوقت قد حان لوأدها حتى لا تهدد أوربا ثانية؛ لأن سر قوة المسلمين هو تمسكهم بتعاليم الإسلام، وسر ضعفهم هو إبعادهم عن هذه التعاليم الحية التي هي أساس لكل تقدم ورقى.
فقد جاءت الحملة بغرض السطو على ما تقع عليه أيديهم من كنوز حضارتنا بل حضارات الشرق كلها، علومها وفنونها وآثارها، والغرض الثاني تمهيد الأرض للجيوش الغازية في محاولة لإخضاع العقل العربي عن طريق إعادة تصدير ما وقع تحت أيديهم من معارف عن بلادنا وثقافتنا، بالصورة التي تلائم أغراض الغزاة.
لقد كتب محمود شاكر هذه الرسالة للكشف عن جذور التاريخ الذي أدى إلى فساد الحياة الأدبية والسياسية والاجتماعية والدينية، وما نشأ فيها من المناهج التي كانت ولا تزال تسود الحياة الأدبية والثقافية فرفضها رفضاً، وبدأ يغوص في قراءة كل ما يقع تحته من تراثنا الثرى في التخصصات كالتفسير والحديث، والفقه، وأصول الفقه، والشعر، والتاريخ، والتراجم، وغير ذلك من أبواب العلم.
وعمد في رحلته هذه قراءة الأقدم فالأقدم وأمدته هذه التجربة الجديدة بخبرات جمة متباينة ومتشعبة، أتاحت له أن يجعل منهجه في تذوق الكلام منهجاً شاملاً متشعب الأنحاء، وهذا جره لبداية هذا الصراع وكشف النقاب عن حقيقة المستشرقين ومنهجهم وأهدافهم وأغراضهم إلا القليل المنصف منهم.
وقد عمل هؤلاء جواسيس لبلادهم وأخلصوا النية لأهدافهم الاستعمارية والدفاع عنها، وهذا وضح جلياً قبيل مجيء الحملة الفرنسية فهم الذين رصدوا اليقظة التي ظهرت معالمها في القرن الثامن عشر، فظهر الأعلام في كل التخصصات كالبغدادي صاحب خزانة الأدب، والجبرتي الكبير وأبحاثه في الكيمياء والطبيعة، والسيد مرتضى الزبيدي والعودة لمجد اللغة العربية وموسوعته الضخمة "تاج العروس"، والإمام محمد بن عبد الوهاب الذي ساهم في تنقية العقيدة مما علق بها من أوهام وبدع.
وهنا قلق الغرب من هذه النهضة التي كانت بذورها قد نمت، فبعث أولئك المستشرقين لبلادهم يحثوهم على غزو مصر. ويستشهد من تاريخ الجبرتي حكاية حثت مع الشيخ حسن الجبرتي والد المؤرخ عبد الرحمن الجبرتي وهى التي أيدت كلامه حول أغراض المستشرقين الذين عملوا بإخلاص لدولهم ولم يخلصوا للعلم قدر إخلاصهم لسياسات بلادهم.
فنقل محمود شاكر عنه: "الجبرتي الكبير كان فقيها حنفياً كبيراً نابهاً عالماً باللغة، وعلم الكلام، وتصدر إماماً مفتياً وهو في الرابعة والثلاثين من عمره، ولكنه في سنة (1144هـ - 1731م) ولى وجهه شطر العلوم التي كانت تراثاً مستغفلاً على أهل زمانه، فجمع كتبها من كل مكان ، وحرص على لقاء من يعلم سر ألفاظها ورموزها، وقضى في ذلك عشر سنوات (1144- 1154هـ)، حتى ملك ناصية الرموز كلها، حتى النجارة والخراطة والحدادة والسمكرة والتجليد والنقش والموازين، وصار بيته زاخراً بكل أداة في كل صناعة يستفيدون من علمه، ومارس كل ذلك بنفسه .." .
ثم ينقل هذا الخبر الخطير عن تاريخ الجبرتي:"وحضر إليه طلاب من الإفرنج وقرأوا عليه علم الهندسة، وذلك في سنة (1159هـ - 1746م) وأهدوا إليه من صنائعهم وآلاتهم أشياء نفيسة، وذهبوا إلى بلادهم ونشروا بها العلم من ذلك الوقت وأخرجوه من القوة إلى الفعل واستخرجوا به الصنائع البديعة مثل طواحين الهواء، وجر الأثقال، واستنباط المياه، وغير ذلك".
لقد رسم شاكر خريطة فكرية حسب القرون الهجرية لكل علماء الإسلام، وراح يتتبعهم بدأب ونهم شديدين، يرى أن الدين هو رأس كل ثقافة لأنه فطرة الإنسان والأصل الأخلاقي الذي لا يمكن أن تقوم الحضارة إلا به وإلا صارت الدنيا فوضى عارمة.
ينتقل بنا للحديث عن الحروب والصراعات التي دارت خفاء وعلنا بين ديار الإسلام وغيرها وكيف تراكمت أحقاد وضغائن لدى المسيحية الشمالية في أوروبا ضد المشرق الإسلامي، مما ظهر بعد ذلك متشحا بثياب الاستشراق والتنصير والاستعمار.
يتكلم باستفاضة عن عصور مختلفة يبدأ بالعصور الوسطى ثم عصور النهضة ثم الحروب الصليبية، ويفيض في الحديث عما أصاب أركان الدولة الإسلامية من تصدع آنذاك بسبب هذه الحروب الصليبية التي بدأت بقيادة الرهبان وملوك الإقطاع الذين يطمعون في عسل الشرق ولبنه. ويؤكد على منبع الحقد الشمالي المسيحي بعد سقوط القسطنطينية في (857ه - 1453م) عاصمة المسيحية على يد محمد الفاتح، مما هز العالم الأوروبي هزة عنيفة ممزوجة بالخزي والخوف والرعب والغضب والحقد.
ويثبت أستاذنا أديب العربية أن الاستشراق بدأ لأجل الأوروبيين وليس لأجلنا، يعني أنه مع الحروب الصليبية مثلا بدأ يظهر رجال من أمثال روجر بيكون الإنجليزي، ممن شامٌّوا العرب والعربية وجاهدوا في التعلم ليزيحوا عن أنفسهم وعن ذويهم وأوطانهم الجهل، حتى ينشأ حائل يمنع الأوروبيين من الانبهار بحضارة الإسلام التي كانت في أوجها وقتئذ.
ومن أكبر الأمثلة على ذلك توما الإكويني الإيطالي الكاثوليكي الذي استطاع تحصيل قدر كبير من العلم والمعرفة من ديار الإسلام، ولما سقط آخر حصن للصليبيين في الشام في عام 1291م تأكد الصليبيون أن ديار الإسلام عصية على الاختراق، ولكن المسلمين في ذلك الوقت -كما يقول- قد أعجبتهم كثرتهم وتاهوا بما أوتوا من زخرف الحياة الدنيا.
ثم يعرج للحديث عن حملة نابليون وأهدافها الحقيقة من خلال دراسته الجيدة للنصوص دون تدجين أو إخضاعها للتفسيرات الفاسدة كما فعل الكثير من المؤرخين، ومراقبة الاستشراق له وكيف أنه كان داهية عريق المكر برغم أنه كان أميا بينما خدع المشايخ.
بيد أن الاستشراق لم يكن عنه غافلا وقد أطاح محمد علي هذا بالزعيم عمر مكرم الذي ساعده في الوصول إلى السلطة وثبت هذا الطاغية ملكه وهكذا بدأ وأد اليقظة على يد هذا الداهية الذي حقق للمسيحية الشمالية مأربها.
ويجدر بالذكر هنا أن العلامة شاكر يطلق على عبد الرحمن الرافعي اسم المؤرخ المدجن، ويثبت عليه أخطاءً كثيرة وهو ما يؤكد أن التاريخ أمر في غاية الخطورة يجب أن نتنبه ممن نأخذه سيما وأن الرافعي كان يشيد بعبقرية محمد علي الذي دبر البعثات العلمية، بينما يرى شاكر أن الأمر كان مبيتا له من قبل أساطين الاستشراق وليس من اختراع الجاهل محمد علي.
تكلم شاكر عن رفاعة الطهطاوي وما فعله معه المستشرقون وكيف أنه هو وزملاؤه قد حازوا أعلى المناصب بعد عودتهم من بعثاتهم وهي المناصب التي شابت نواصي العلماء في سبيلها، ثم تكلم عن حقيقة مدرسة الألسن التي أنشأها الطهطاوي وخطرها والتي لم تكن من بنات أفكار رفاعة بالطبع.
وينتقل بنا إلى نقطة في غاية الأهمية وهي الاحتلال الانجليزي لمصر وجعل التعليم كله في قبضة المبشر الخبيث دنلوب، وانشطار التعليم في البلاد إلى شطرين ديني في الأزهر ودنيوي في المدارس وما تبع ذلك من تفريغ طلبة المدارس من ماضيهم وبعث الانتماء إلى الفرعونية البائدة.
ويختم كتابه بالحديث عن آثار ورواسب هذا التفريغ الذي نعاني منه حتى يومنا هذا، ويحكيه -تحت عنوان "قصة التفريغ الثقافي"- بصورة لم نرى أفجع منها حقيقة ولا أروع منها تصويرا بقلم العلامة شاكر، والتي تأتي تحت مسميات عدة كثقافة العصر والتنوير والتجديد مما استوفي بيانه في كتابه "أباطيل وأسمار".
وقد فصل بعد ذلك ما تقيأه دكتور طه حسين مما تعلمه على يد المستشرقين خاصة في كتابه "في الشعر الجاهلي"، وما زرعه في نفوس الناس من شكه ثم ما قاله وأثبته دكتور طه حسين بعد ذلك بكلماته، هو بنص حديثه الذي أورده العلامة شاكر من أن الفائز الحقيقي ممن سافر وتعلم في أوروبا هو من أحيا تراثه الإسلامي ولغته العربية ولم يتخلى عن أصوله وتاريخه الإسلامي.
وقد أبانت شهادة الدكتور طه التي أوردها العلامة شاكر في آخر سفره ما كان يحاك من تدمير لثقافتنا وتراثنا، سيما وأن الدكتور طه نفسه قد أيقن أخيرا ماذا يراد وراء كلمة تجديد.
وفي النهاية نقول إن أبا فهر حاول في هذا الكتاب أن يؤرخ لنا بعين عربية لا تغفل ، لا بعين أوربية تخالطها نخوة وطنية كما حاول البعض.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق