قائد مهرّج لدولة عبثية
يشدّون الرحال للحرب في ليبيا.. يعدّون العدة لملاقاة العدو التركي القادم للغزو من جهة الغرب.. يستعيدون أغنيات الخمسينات والستينات، ويصيحون: اطلب تلاقي 100 مليون فدائي..
أنا شخصيًا كدت أصدق أنهم ذاهبون إلى حرب، في ظل هذه السخونة الشديدة في الخطاب الوطني الحنجوري، حتى أنني أعلنت أنني سأكون على أول طائرة إلى القاهرة، لو اقترب "الغزاة" من حدود مصر.
رفضت تصديق أن هؤلاء مهرّجون تافهون يلعبون على حبال الوطنية التجارية الرخيصة، من فرط اندماجهم في دور المدافعين عن تراب الوطن العربي الكبير..
جاءت الأخبار تترى عن انتعاش التبادل التجاري مع "المحتل التركي" على إيقاعات طبول الحرب، وقرأت تصريحات وزارة المالية المصرية عن تصاعد قياسي في حجم استيراد السيارات التركية إلى ميناء الإسكندرية، وسمعت عبد الفتاح السيسي يقول بعظمة لسانه "ما حدّش يعرف يجرجرجنا للحرب".
ومع ذلك، رفضت أن أصدّق أنهم يمثلون على الناس، ويمارسون النصب على الجماهير، ويبتزونها بفزّاعة الخطر الخارجي، وقلت، في نفسي، إنه مهما بلغ حجم الهوان والضآلة وانعدام القيمة فيمن يحتلون كابينة قيادة مصر، لا يمكن أبدًا أن يكون الحشد للحرب، على هذا النحو المحتدم، مجرّد فقرة في سيرك الوطنية، وربما يكون خفوت اللهجة من تكتيكات الاستعداد للحرب، خصوصًا أن الجانب التركي أعلن عن وصول قواته ومعدّاته إلى الأراضي الليبية.
رفضت، بكل ما أحمله من تقدير وتقديس لمصر الحقيقية التي في خاطر ودم كل المحبّين والعارفين فضلها، تصديق أن الجنرال يلهو ويمرح في ملاهي الحرب، وشعرتُ بالغصّة والألم من الدخول في معركةٍ مع طرفٍ لا يمكن بأي حال اعتباره عدوًا لنا، ومع ذلك إنْ وقعت الواقعة واقتربوا من تراب مصر فكلنا فداؤها.
لكن، شيئًا فشيئًا، تبين أن الجنرال كان يلهو ويهرج على الحدود الغربية الشمالية، وكل ما في الأمر أنه وجد موضوعًا لابتزاز الشعور القومي العام ودغدغدته باحتمالات الخطر الخارجي، وصرف الانتباه عن جرائم النظام ضد شعبه، حتى أفاق الناس على التوصل إلى التهدئة في ليبيا، وسكوت المدافع، ليكتشفوا أنهم كانوا ضحية عملية خداعٍ في واحدة من ألعاب الكاميرا الخفية وبرامج المقالب.
وقبل أن يتمدّد الامتعاض من الشعور بالخديعة، ويترسّخ لدى المواطن أنه وحده يأخذ الأمور بجدّية، بينما النظام يلهو على خشبة مسرح العبث، قرّروا الانتقال بالعرض إلى مساحة أخرى، وخشبة مسرح آخر، فكانت إثيوبيا مجدّدًا، لتبدأ المسألة بخبر بصيغة موحدة في جميع صحف الجنرال: انهيار مفاوضات سد النهضة ومصر تتهم إثيوبيا بالتعنت وتعريض أمننا المائي للخطر.. هكذا صيغ الخبر، وكأنهم مبتهجون ويبشّرون الشعب بأنهم وجدوا له معركة أخرى، بعد حرمانه من فرصة الحرب ضد "الغزو التركي"، وبعدها تعلو لهجة الخطاب ضد الإثيوبيين، وتستعاد عبارات رنانة: حقوقنا المائية خط أحمر.. سندافع عن شريان حياتنا بكل قوتنا.
وبينما الأنظار معلقة على الجنوب، ناحية إثيوبيا وسد النهضة، يفاجئك خبر على صفحة "المتحدث العسكري" يوقظك من أوهام الخطر الإثيوبي، ويعيدك إلى اجترار كوابيس التهديد الآتي من الشمال، من تركيا، فتقرأ:
"قامت وحدات المنطقة الشمالية العسكرية برفع درجات الاستعداد والاصطفاف والتفتيش وتحميل المركبات والمدرعات والتحرك إلى مناطق عملها بالناقلات والسكك الحديدية في إطار خطة الفتح الإستراتيجي، وإعادة تمركز كتيبة صاعقة لتنفيذ مهام قتالية خاصة على الاتجاه الإستراتيجي الشمالي". "ونفذت تدريبًا مشتركًا لتأمين ساحل البحر المتوسط لصد إبرار بحري معادي بالتنسيق مع القوات البحرية والجوية وقوات حرس الحدود والقوات الخاصة مع تنفيذ أعمال القيادة والسيطرة من مركز العمليات المتقدم بقاعدة محمد نجيب العسكرية".
كان ذلك كله يدور، بينما النظام يخوض حربًا فعلية، واقعية لا تمثيلية، في ساحةٍ أخرى، هي الساحة الوحيدة التي يجيد فيها، فيحقق نجاحات مذهلة في "معركة البطاطين" ويلقّن ضحاياه من المعتقلين والسياسيين درسًا في فنون القتال الوضيع، فيجرّدهم من أغطيتهم ويسلبهم البطاطين في هذه الفترة من صقيع الشتاء، ويجدّد قرارات حبسهم واعتقالهم، ويفعل بهم الأفاعيل، حماية للبلاد وحفاظًا على أمنها القومي.
وويلٌ لمن يفتح فمه بكلمة ضد هذا العبث، سيصير عميلًا وخائنًا وضد مصر، ولم لا ونحن نعيش، وكما قلت مبكرًا جدًا، في أزمنة العبث والاستقالة من المنطق والقانون والأخلاق، حيث يتسيّد الكهنة المزيفون، ويحتكرون الكلام باسم الوطن والوطنية، فيصبح كل مهرّج أفاق معياراً وحكماً، يمنح نفسه حقّ نفي وطنية المختلفين مع السلطة التي تطلقه على خصومها، مستفيداً من وضعية "المواطن الصالح النموذجي"، مختبئاً في أحراش الوطنية الفاسدة من فساده السابق، فيجد من يصغي إلى طلباته بتجريد هذا من جنسيته، وطرد ذاك من مملكة المواطنة المستحدثة.
أتذكّر، قبل نحو خمس سنوات، أن خرج أستاذ العلوم السياسية، والموظف المتفاني في خدمة الاستبداد والطغيان، المعتز عبدالله عبد الفتاح، وقال إن عبد الفتاح السيسي "ركب القطر وبيجري، وكلنا بنجري وراه ومش عارفين نحصله". فقلت إنه في هذه الدولة العابثة، لا يمكن الكلام، منطقياً وحسابياً، عن مستقبل، فحين يجلس في كابينة القيادة مغامرون خطرون، لا تحدّثني عن وصولٍ آمن، وسريع، إلا إلى الجحيم.
والوضع كذلك، هل بقي أحد في هذا العالم يأخذ مصر السيسية على محمل الجد؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق