معاملة حادة وقوانين عنصرية..
هل نجح ماكرون في صناعة "إسلام فرنسي"؟
أحمد مصطفى الغر
’’مبدأ العلمانية الفرنسي موجود منذ القدم، لم تكن فرنسا بحاجة إلى مزيد من القوانين لتحقيق هذا المبدأ، المشكلة الحقيقية هنا تكمن في التمييز والعنصرية وكراهية دين على حساب آخر’’
قبل ستة أشهر، ألقى الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خطابًا في ضواحي العاصمة باريس، وعد فيه بقانون لمكافحة ما وصفها بـ"الانفصالية الإسلامية المتطرفة"، داعيًا المنظمات الإسلامية الموجودة على الأراضي الفرنسية إلى التفاوض مع حكومته والتوقيع على ميثاق يقبل مبادئ العلمانية والديمقراطية وسيادة القانون، مؤكدًا حينها أنه يسعى إلى إنشاء "Islam de France"، وهى عبارة من الأفضل أن نتركها بالفرنسية لأن الترجمة إلى لغة أخرى قد تكون خطيرة، فهل هى تعني "إسلام فرنسي" أم "إسلام لفرنسا" أم مجرد "إسلام في فرنسا"، سيتولى النقاد والمؤيدون ترجمتها وتفسيرها بطرق مختلفة، كلًا حسب رؤيته، لكنها في النهاية تظل حاملةً في مضمونها كراهية وتمييز وعدائية دفينة، خاصةً وأن فرنسا لم ولن تجرؤ على صياغة مصطلح شبيه يخص أيّ ديانة أخرى، حتى وإن كانت ديانة وضعية. فهل نجح ماكرون فيما فشل فيه سابقًا، سلفه نيكولا ساركوزي، بأن يتم تقييد الوجود الإسلامي في فرنسا؟، هل يمكن للمنظمات الإسلامية المتباينة في فرنسا أن تتفق عمليًا ـ وليس نظريًا ـ على ميثاق واحد حول سيادة القانون العلماني الذي يهمّش الهوية الإسلامية تماما؟، وهل باتت فرنسا آمنة تماما بعد سلسلة الإجراءات العنصرية والعدائية التي أجرتها حكومة ماكرون ضد المسلمين؟، أم أن الأمر برمّته مجرد محاولات لتحقيق طموحات سياسية وإسترضاء اليمين المتطرف لكسب أصواته في الانتخابات المقبلة؟
مبدأ العلمانية الفرنسي موجود منذ القدم، لم تكن فرنسا بحاجة إلى مزيد من القوانين لتحقيق هذا المبدأ، المشكلة الحقيقية هنا تكمن في التمييز والعنصرية وكراهية دين على حساب آخر، فإذا كانت العلمانية ـ بحسب أنصارها الفرنسيين ـ هى فصل الدين عن الدولة، وأنها ركيزة أساسية في مجتمعهم حيث تقوم على فكرة أن كل مواطن - بغض النظر عن العرق والدين والعرق والجنس – متساوٍ، فهى بذلك من المفترض أنها تضمن لأصحاب كل ديانة حرية ممارسة معتقداتهم الدينية كيفما شاؤوا، لكن هذا كله ينهار أمام قرار واحد من شأنه حظر ارتداء النقاب في الأماكن العامة، ولا شك أن ذلك معاديًا للمسلمين وسلطويًا على أصحاب ديانة معينة، وفي أوضاع خطيرة كهذه تتحول الأمور مباشرة صوب السياسة، فهى بيت القصيد هنا، ولا علاقة للمجتمع وقيّمه ومبادئه بالأمر، لا سيّما في الفترة التي تسبق الانتخابات الرئاسية التي ستُقام في العام المقبل، إذ تطمح الأحزاب الفرنسية في اجتذاب أصوات اليمين، وأفضل كبش فداء في هذه الحالة لجملة المشكلات التي تعانيها الأحزاب هو أن يتم تحميل المسلمين الفرنسيين وطأة هذه المشكلات، ويمكن وصفهم بأنهم أعداء للقيم الجمهورية المؤسسة للدولة، وستتولى وسائل الإعلام بدورها باقي المهمة لتأليب الرأي العام الداخلي ضدهم، وصرف الأنظار عن المشكلات الحقيقية التي تعاني منها فرنسا، وقد نجحت هذه الاستراتيجية بالفعل كما أراد مؤسسوها، فقد أظهر استطلاع أجراه مركز بيو للأبحاث في ربيع 2016 أن حوالي 29٪ فقط من الفرنسيين الذين شملهم الاستطلاع قالوا إن لديهم وجهة نظر سلبية تجاه المسلمين الفرنسيين، لكن بحلول أكتوبر 2020، وجد استطلاع آخر أن 79٪ ممن شملهم الاستطلاع يعتقدون أن المسلمين الفرنسيين قد أعلنوا الحرب على بلدهم وقيمها.
الغريب في الأمر هو أنه إذا كانت الدولة والدين منفصلان تمامًا في فرنسا، فكيف يمكن للدولة أن تسن قوانين بشأن الأديان؟، فعلى مدى أكثر من 4 عقود، سعى الرؤساء الفرنسيون المتعاقبون إلى إدارة علاقة الدولة مع المجتمع المسلم المتنوع عرقيًا ودينيًا، كان من المستغرب أن القادة المعينون من قبل الدولة يسعون لتحديد شروط معتقداتهم للمسلمين، كيف يمكن لزعيم علماني أن يتولى تعريف مصطلحات الممارسة الدينية لأتابع هذا الدين أو ذاك؟!، هنا تتأكد ملامح هذا الحقد اليميني أكثر عند رؤية إيمانويل ماكرون، الذي كان يُنظر إليه يومًا ما على أنه بطل أوروبا الليبرالي، يقوم الآن بدور القوة الدافعة وراء هذا الانجراف إلى اليمين في كل خطاباته وتصريحاته، خاصةً بعد أن أعلن أن الإسلام دين مضطرب في جميع أنحاء العالم وأن القيم الأساسية لفرنسا تقوضها الانفصالية الإسلامية، مطالبًا بأن يتم تدريب الأئمة في فرنسا بدلاً من السماح لهم بالاستقدام من العالم الإسلامي الأوسع، معلنًا عن نيته لتشكيل "إسلام تنويري بطابع فرنسي"، فهو يحاكي في خطاباته أولئك الموجودين في أقصى اليمين والذين يزعمون أن المسلمين يتكاثرون بسبب نمو مجتمع موازٍ داخل فرنسا، حيث يتعلم أطفالهم احتقار المبادئ التأسيسية للجمهورية!
في سعيها وراء "جمهورية مصابة بعمى الألوان"، نصّ دستور ما بعد الحرب العالمية الثانية أن فرنسا لا تعترف بالاختلافات العرقية والدينية، وربما لهذا السبب، من الصعب معرفة عدد المسلمين الذين يعيشون في فرنسا على وجه الدقة، وإن كانت التقديرات تتراوح بين 3 ملايين و6 ملايين (أو بين 4.5٪ و 9٪ من مجموع السكان)؛ وبذلك فإن فرنسا لديها أكبر عدد من المسلمين في أوروبا الغربية، لكن المؤسف هنا هو أن نموذج السياسة الفرنسية هذا قائم على رفض الاعتراف بحقيقة أن سكان أيّ مجتمع يمكن أن يكونوا متعددي الثقافات والعرق والدين، وهذا يسهم بالفعل في التمييز والظلم الذي يواجهه المسلمون الفرنسيون اليوم، حيث غالبًا ما يجدون اختلافاتهم الثقافية والدينية تتعرض للهجوم بزعم انتهاك العلمانية الفرنسية، فإنكار الهوية المتنوعة من الأسباب التي تدفع السلطات الفرنسية لفرض قيود على اللباس الإسلامي، من حظر ارتداء الحجاب الإسلامي، وحذر تعدد الزوجات والتعليم في المنازل، وصولًا إلى التمييز غير القانوني وغير المعلن، في التوظيف والإسكان وغيرها من مجالات الخدمات الاقتصادية والاجتماعية.
في تقرير صدر العام الماضي بعنوان "التمييز ضد المسلمين: يجب على الدولة أن تتفاعل"، نددت منظمة العفو الدولية بـ "المناخ العدائي والخطاب التمييزي تجاه المسلمين في فرنسا"، وفي وسط هذا الجو المفعم بالكراهية وانهيار الأحزاب اليسارية الفرنسية، وتضاؤل فرص إيمانويل ماكرون في إعادة انتخابه، تكتسب زعيمة اليمين المتطرف مارين لوبان زخمًا إضافيًا، وقد أظهرت استطلاعات رأي أنها قد تفوز في الانتخابات التي ستجرى جولتها الأولى في أبريل 2022، وهو ما يجعل ماكرون يسعى إلى حرمانها من نقاط قوتها، عبر القيام بتنفيذ بعض المطالب التي تنادي بها، من أجل درء حملتها التي تركز على الأمن ومواجهة الهجرة وحماية الهوية الوطنية، كما أنه يحيط نفسه بشخصيات يمينية مستعدة للانقضاض على الإسلام دون هوادة، ولعل أبرزهم؛ رئيس وزرائه، جان كاستكس، الذي وصف المسلمين الفرنسيين بالقوة الخبيثة التي تسعى إلى تدمير المجتمع الفرنسي من الداخل كنوع من الطابور الخامس، وكذلك وزير داخليته، جيرالد دارمانين، الذي سعى بضراوة لمواجهة كافة أشكال التدين الإسلامي، وقد أبدى كراهيته بشكل علني للأطعمة الحلال، واعتبر أن الصلاة والصيام وإطالة اللحية من أشكال التطرف، كما عمل على تضييق الخناق على المسلمين والمساجد والمؤسسات الإسلامية، لقد ترك ماكرون ملفات الإصلاح الاقتصادي، وتناسى احتجاجات أصحاب السترات الصفراء والبطالة والتدابير الاقتصادية لمواجهة تداعيات الجائحة، وبدلًا من ذلك ذهب ليناضل مدافعًا عن العلمانية بهدف تعزيز آماله في إعادة انتخابه، لا سيّما في ظل الهوس الفرنسي بالعلمانية والذي لا يمكن المبالغة إن وصفناه حقًا بـ"الهوس"، فلا عجب إن رأينا الساسة الفرنسيون يتحدثون ليل نهار عن خطورة الطعام الحلال على المطبخ الفرنسي، أو حجم الفوائد التي تحققت لفرنسا عندما تمّ تطبيق الحظر على النقاب في عام 2010، وكيف ساهم ذلك في حماية الديمقراطية!
تاريخيًا، فقد بدأ المسلمون في القدوم إلى الأراضي الفرنسية من مناطق كانت تحت أو مرتبطة بفرنسا الاستعمارية، دولًا مثل الجزائر وتونس والمغرب وغرب إفريقيا وسوريا ولبنان، ففي أعقاب الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية، هاجرت مجموعات أكبر من المسلمين إلى فرنسا، ومعظمهم من المغرب العربي وشمال إفريقيا، كانت فرنسا حينها في أمسّ الحاجة إليهم كعمال، حيث ساهموا بلا أدنى شك في بناء نهضة فرنسا الحديثة، بالرغم من ذلك فإن هذه المجموعات لم يكن لها صوت، لأن الدولة الفرنسية ترفض الاعتراف بمطالب الأقليات العرقية أو الدينية، وتصر بدلاً من ذلك على نموذج الاستيعاب الجمهوري مع تحقيق المساواة كمبدأ أساسي لها، لكن خلف هذا النموذج البرّاق، تكمن مأساة واقع الضواحي الفقيرة، والتي تعدّ أرضًا خصبة للجريمة والتطرف بشكل عام، وليس هذا حكرًا على المسلمين، بل من تلك الضواحي يخرج متطرفون من مختلف العرقيات والديانات.
نعلم جميعًا أن حرية التعبير ليست مطلقة أبدًا، ولا تقاس حالة حرية التعبير على منبر الإليزيه، ففي فرنسا حيث تنظم القوانين بالفعل خطاب الكراهية، يمكن اكتشاف نفاق السياسيين الذين يحاضرون الناس حول حرية التعبير عندما يتعلق الأمر بقبول الرسوم الكاريكاتورية المسيئة للإسلام، لكنهم في نفس الوقت لا يستمعون إلى مخاوف المسلمين الفرنسيين بشأن التمييز ضدهم، والمتابع للأوضاع بدقة في فرنسا، سيجد أن فرنسا نفسها هى من أوجدت النزعة الانفصالية الخاصة ببعض مواطنيها، فبغض النظر عن دياناتهم أو عرقياتهم، فعلت الساسة الفرنسيون ذلك من خلال إغراق المواطنين في الضواحي في المزيد من الفقر والإسكان السيئ، مع القليل من الوظائف والدخل المادي، وتبنوا نظريات لا تعكس الواقع وتؤجج الانقسامات في فرنسا، بدلًا من معالجة المشكلات الاقتصادية والاجتماعية الحقيقية، فبنظرة سريعة على كتاب "المسلمون الفرنسيون في المنظور"، للباحث في كلية لندن للاقتصاد، جوزيف داونينج، سنجد أن الجدل برمته حول النزعة الانفصالية الإسلامية مبني على فرضية خاطئة، فوقًا للكتاب فإن "المسلمين الفرنسيين، بشكل عام، مندمجون بشكل جيد للغاية في المجتمع الفرنسي، وعلى سبيل المثال هناك أعداد كبيرة منهم يسجلون في الخدمة العسكرية والشرطة، وبالرغم من أنهم يعيشون في أفقر الأحياء، إلا أنهم غير ناقمين على الدولة ويعرفون أنفسهم على أنهم فرنسيون"، يؤكد المؤلف أن "هؤلاء لا يشعرون أن لديهم ولاءًا أساسيًا لمكان آخر في العالم سوى فرنسا، كما أن هناك قدر هائل من رواد الأعمال المسلمين، وهناك عدد هائل من الشركات المملوكة لمسلمين؛ هناك طبقة وسطى وعليا كبيرة جدا وبارزة في فرنسا من المهنيين وخريجي الجامعات والأطباء، إلا أن السياسيين ووسائل الإعلام الفرنسية يجمعون عن طريق الخطأ المسلمين الفرنسيين جميعًا في بوتقة واحدة، ويصفونهم بأنهم يشكلون تهديدًا وجوديًا للدولة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق