الأربعاء، 4 أكتوبر 2023

عندما تثور عاطفة الأبوة الرحيمة وسط الشدائد والأهوال

 

عندما تثور عاطفة الأبوة الرحيمة وسط الشدائد والأهوال


قدر الله تعالى وقضى أن تجري سنته على قوم نوح في إهلاك الظالمين، بعد أن لبث فيهم 1000 سنة إلا 50 عاما، وما ترك فيها وسيلة من وسائل النصح والدعوة إلا أخذ بها في سبيل إخراج قومه من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، كما قص الله تعالى علينا في كتابه. وذكر سبحانه قصة صنع نوح السفينة على مرأى من قومه واستهزائهم به، حتى أتى أمر الله، وأمره أن يركب السفينة مع المؤمنين، وأن يحمل معه من كل صنف من حيوانات الأرض زوجين؛ ذكرا وأنثى، لتبقى مادة سائر الأجناس في الأرض، وجاء أمر الله وفار التنور وقضي الأمر، فهلك كل من عصى واستكبر، ونجا نوح ومن معه على ظهر النجاة.

لما حطت السفينة على الجودي، وذهب الروع والقلق تواردت على نوح ذكريات أرضه وبلده وقومه، وذكر ابنه الذي لم يدر ماذا حصل له، فتفجرت عاطفة الأبوة التي فطرها الله عز وجل في قلوب الآباء

وقد أنست رحلة النجاة -في بحر لجي ضمن أمواج كالجبال، وأمطار تصب صبا كالجداول، إذ فتحت لها السماء أبوابها- نوحا حال ابنه فحال الموج بينهما.

قال الله تعالى: ﴿ونادى نوح ربه فقال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين، قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين، قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين﴾ [هود: 45-47].

لقد صرفته عنه أهوال الرحلة المخيفة القاسية، فلما حطت السفينة على الجودي مستوية الاستقرار، وذهب الروع والقلق الصارف للأفكار، ولم يبق إلا الانشغال بأحداث الوضع القائم، عندئذ تواردت على نوح ذكريات أرضه وبلده وقومه وذكر ابنه الذي لم يدر ماذا حصل له، فتفجرت عاطفة الأبوة التي فطرها الله عز وجل في قلوب الآباء. (نوح وقومه في القرآن المجيد، ص: 130)

  • ﴿ونادى نوح ربه فقال رب﴾:

الواو إما عاطفة مشهدا على مشهد، وحدثا على حدث، وإما استئنافية، ولعل هذا أقرب، "ونادى" نداء دعاء ومناجاة ورجاء والتجاء، وهذا النداء نداء استغاثة مقرن بانفعال الخضوع والتضرع والتذلل، دل على ذلك كلمة "نادى" إذ لو كان ما قاله سؤالا عاديا هادئا لكان المناسب التعبير بنحو "ودعا"، ولكن كان نداء فهو يحمل معنى التلهف، وهو من رسول حليم، لا بد أن يقترن بالخضوع والتضرع والتذلل.

"ربه": أي الذي يتعهده ويتولاه ويدبر أمره، فقال في ندائه "رب" أي: يا رب، ولم تذكر أداة النداء هنا استغناء بما دل عليه فعل "نادى". (نوح وقومه في القرآن المجيد، ص: 130)

  • ﴿إن ابني من أهلي﴾:

أي: من أهلي الذين وعدتني بنجاتهم، ولا يعلم الله أحد، ولكنه من باب الرجاء والاستجداء من الله ودعاء من قلب مكسور على الولد، إن ابني من أهلي، كأنه يستحضر في هذا المقام وعدا بنجاة أهله، ويغض الطرف عن "إلا من سبق عليه القول".

  • ﴿وإن وعدك الحق﴾:

أي: فلا يمكن أن يخالفه الواقع، ولعله وضع في حسبانه أن الله عز وجل ربما يكون قد أنجاه بوسيلة أخرى غير الركوب معه في السفينة أو أن نوحا عليه السلام قد أيقن أن ابنه قد غرق مع الغرقى، ولكنه سأل الله الرحمة الوابلة والمغفرة الهائلة ألا تفوته نجاة الحياة الأبدية الآخرة، فأدلى إلى ربه بدعاء من كل كيانه، استهله بقوله "رب" الكلمة التي تضم معاني العناية والإكرام، والتربية ودوام الاهتمام، والصلة المستمرة، ورفعة المقام، بأن ابنه من أهله، وبما له من مقام عند ربه أن يلحظ بعض أهله -ابنه- بعين عنايته وواسع رحمته، ولم يصرح بذلك، بل عرض بذلك تعريضا تأدبا مع ربه واستغناء بعلم ربه بسؤاله وحاجته، وهذا أسلوب في غاية الأدب الرفيع مع الله عز وجل. (آباء وأبناء ملامح تربوية، ص: 20)

  • ﴿وأنت أحكم الحاكمين﴾:

أنت الحكم العدل، وأنت أحكم الحاكمين في أحكامك، وإني راض بكل ما تحكم وتأمر وتقدر، وخاضع لقدرك وإرادتك وقضائك، لكنني أدعوك وأرجوك وأتوسل إليك مع رضائي بقضائك أيا يكن، فأنا عبد مستسلم خاشع منيب. (آباء وأبناء ملامح تربوية، ص: 20)

  • ﴿قال يا نوح إنه ليس من أهلك﴾:

لم ينف الله أن يكون ابنه من الصلب، ولكن نفاه أن يكون على عقيدته، ومن أتباعه الذين يحق لهم النجاة من الغرق، وهذا هو أرجح الأقوال في المسألة، وقد أبعد النجعة من قال: إنه لم يكن ولده من النسب بل كان من الزنا وهو أضعف الأقوال لدليل ما ثبت عن ابن عباس رضي الله عنهما بأسانيد كثيرة قوله: ما بغت امرأة نبي قط غير أنه خالفه في العمل والنية.

قال ابن كثير: وقد نص غير واحد من الأئمة على تخطئة من ذهب في تفسير هذا إلى أنه ليس ابنه، وإنما كان ابن زنية، ثم قال: قال ابن عباس وغير واحد من السلف: ما زنت امرأة نبي قط، ثم قال: وقوله: "ليس من أهلك" أي الذين وعدتك بنجاتهم، ثم قال: وقول ابن عباس في هذا هو الحق الذي لا محيد عنه؛ فإن الله تعالى أغير من أن يمكن امرأة نبي من الفاحشة. (تفسير ابن كثير، 4/226)

وقال ابن جرير: وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال: تأويل ذلك إنه ليس من أهلك الذين وعدتك أن أنجيهم؛ لأنه كان لدينك مخالفا، وبي كافرا، وكان ابنه لأن الله تعالى قد أخبر نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم أنه ابنه فقال: "ونادى نوح ابنه" دلالة على أنه ليس بابنه إذ كان قوله "ليس من أهلك" محتملا من المعنى ما ذكرنا، ومحتملا أنه ليس من أهل دينك، ثم يحذف الدين فيقال" إنه ليس من أهلك " كما قيل: ﴿واسأل القرية التي كنا فيها﴾ [يوسف: 82]. (تفسير الطبري، 15/346)

  • ﴿إنه عمل غير صالح﴾:

هذا تعليل وتبرير لاعتبار أنه ليس من ولده، أن الإيمان هو النسب الحقيقي، أما غير المؤمن فليس من أهلك الذين يشملهم الوعد؛ فقد قلت لك قبل "ومن آمن"، ولفتة في اعتبار أن الإنسان هو عمله، فلم يبق إلا صورة اللحم والدم، و"غير صالح" يقتضي أنه فاسد طالح.

فالنسب نسب الإيمان والعقيدة، وليس نسب الدم والقرابة، فاقتضى بيان هذه الحقيقة وتقريرها، "قال يا نوح إنه ليس من أهلك"، وعلل السبب: "إنه عمل غير صالح". (النسق القرآني دراسة أسلوبية، ص: 127)

إنها الحقيقة الكبيرة في هذا الدين، حقيقة العروة الوثقى التي ترجع إليها الخيوط جميعا، عروة العقيدة التي تربط بين الفرد والفرد ما لا يربطه النسب والقرابة.

"يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح"؛ هذه الكلمات الربانية والقواطع الإلهية أخرجته من دائرة أهله، وأبعدته إلى مهوى سحيق لا يذكر فيه، ولا يلتفت إليه؛ لأنه اختار الكفر على الإيمان، وسلك مسالك الشيطان، فلم يعد للرحم الماسة معنى، وليس للولادة والنسب، ودل هذا الخطاب الإلهي على أن ابن نوح هذا قد شمله الغرق، فكان من الهالكين لأنه كان من الكافرين والفاسقين في باطن أمره.

طلب نوح عليه السلام المغفرة ابتداء لأن التخلية مقدمة على التحلية، ثم أعقبها بطلب الرحمة لأنه إذا كان بمحل الرضى من الله كان أهلا للرحمة

  • ﴿فلا تسألن ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين﴾:

تضمن هذا البيان زيادة تعليمية لنوح عليه السلام، ساقتها المناسبة وهي تعليمية لنا أيضا، أي: إذا كنت لا تعلم بواطن الأمور وقد رأيت من تصاريف ربك شيئا على خلاف ما ترغب، حسب رغبات نفسك وعواطفك فكن على ثقة تامة بأن ربك عليم حكيم، وأن تصاريفه تجري وفق علمه وحكمته.

"إني أعظك أن تكون من الجاهلين" أي: أؤكد لك التوجيه والنصح بهذه الموعظة التي تضمنها، "فلا تسألن ما ليس لك به علم"؛ فدل هذا على أن النهي نهي موعظة وإرشاد للمستقبل، لا نهي تأنيب على ما مضى. والمعنى: إني أعظك دفع أن تكون في المستقبل من الجاهلين بهذه الحقيقة، فتسأل ربك مستقبلا سؤالا تطالبه فيه بأمر على خلاف مقتضى علمه وحكمته وعدله، مهما كانت دوافعك العاطفية والنفسية، وهذا يتضمن التوجيه للرضى التام عن الله عز وجل فيما تجري به مقاديره وأحكامه، مهما كانت صادرة ضد أقرب الناس رحما. عندئذ لم يكن من نوح عليه السلام إلا أن قال.. (نوح وقومه في القرآن المجيد، ص: 132)

  • ﴿قال رب إني أعوذ بك أن أسألك ما ليس لي به علم وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين﴾:

يعتذر نوح عليه السلام في هذه الآية عن سؤاله، ويعاود سؤال الله لكن أن يصرف عنه أن يسأل ما ليس له به علم، فالسياق متصل كل الاتصال.

  • "قال رب" قال نوح مستغفرا مستعينا بالله، قال رب، بحذف ياء النداء لمزيد تقرب، يا من تتعهدني وتربيني وتعلمني وتقومني وتهديني.
  • "إني أعوذ بك": إني أتحصن بك وأحتمي بك وأعوذ بك وألوذ من أن أقع في هذه المخالفات مرة أخرى.
  • "أن أسألك ما ليس لي به علم": هذا هو ما تعوذ منه نوح، أن يسأل الله ما ليس له به علم، أي يؤذن له به، ولم ينزل به كتاب ولا إذن إلهي.
  • "وإلا تغفر لي وترحمني أكن من الخاسرين": وإن لم تغفر ذنبي وتتولني برحمتك يكن مصيري الخسران في الدنيا والآخرة، وأعوذ بك أن يكون أمري كذلك، والخاسر من انتقص رأس ماله، والخاسر هنا: من فقد محبة الله ومثوبة الله.

وقد طلب نوح عليه السلام المغفرة ابتداء لأن التخلية مقدمة على التحلية، ثم أعقبها بطلب الرحمة لأنه إذا كان بمحل الرضى من الله كان أهلا للرحمة، وقد علمنا الله بهذا كيف يكون أدب المرسلين مع ربهم لنتخذهم أسوة لنا.

ويؤخذ من قصة نوح مع ابنه أن الله عز وجل قد يبتلي المؤمن بوجود ولد فاسق أو كافر له، يضاده في دينه ويخالفه في عقيدته وإيمانه، ويتناصر مع أعدائه أولياء الشيطان ضد أولياء الرحمن، على الرغم من إقامة الحجة الدامغة والبرهان الساطع على صدق رسالته، وهذا لا يعاب به المؤمن ولا يؤذى به، وليس لأحد من الناس المؤمنين أن يعيب أخاه المؤمن إذا ابتلاه الله بولد عاق، فاجر، بل إن هذا الابتلاء ينبغي أن يكون له عبرة وأن يقوم بالتضرع إلى الله أن يهدي ولد أخيه الفاجر. ولا يحل لمسلم أن يعيب أخاه المسلم أو يذمه بسبب ولده العاصي الفاجر إذا كان بالغا عاقلا، فهو مجزي بعمله وليس مجرما بعمل ولده قال تعالى: ﴿ولا تزر وازرة وزر أخرى﴾ [الأنعام: 164]. (محمد أبو فارس، مع الأنبياء في الدعوة إلى الله، ص: 85)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق