"الحيوانات البشرية".. الفوقية الأوروبية والرواية الإسرائيلية
يوسف الدموكي
في وصفه المقاومين الفلسطينيين الذين أذلّوه داخل مستوطناته وحصونه العسكرية؛ قال وزير دفاع الاحتلال الإسرائيلي، يوآف غالانت، إنّ "إسرائيل تحارب حيوانات بشرية؛ وتتصرّف وفقًا لذلك"؛ لم يكن التعبير المهين الذي استخدمه الوزير المصفوع مؤخرًا أكبر صفعة في تاريخ كيانه المزعومِ، وليدَ لحظته، وإنّما هو امتدادٌ لحقيقة تاريخية سوداء، وحقبة مذلّة من الأهوال في تاريخ أوروبا، البلاد التي أتى منها هؤلاء.
في القرن التاسع عشر، مع بلوغ الاستعمار الأوروبي ذروته، باستكشاف البلدان الأفريقية، وقتل قبائلها، وشحنهم عبيدًا إلى بلادهم المتقدّمة، ومعاملتهم كنوعٍ آخر غير البشر، كانوا لا يكفّون عن التسلية، وممارسة الهواية المفضلّة لبعض العرق الأبيض، وهو النظر إلى "الآخرين" بدونية، من موضع فوقيّ، يؤكد لهم حسب ظنّهم، أنّهم شيء والآخرون شيء آخر، وأنّ ما يرونه أمامهم دليل قطعي على نظرية تشارلز داروين في التطوّر، إنّ هؤلاء الأسلاف الذين أتوا من القبائل البدائية في أفريقيا، كانوا الصورة التي ربطت بين الحيوان القديم، والإنسان الحديث.
في بلجيكا، في سبعينيات القرن التاسع عشر، وبإحدى ضواحي بروكسل، كانت هناك حديقة للحيوانات، ليست تلك التي فيها الزرافة والأسد والنمر والفيل، وسيد قشطة، وإنّما حيوانات بشرية، لأناسٍ اكتشفوهم (يا للغرابة) يعيشون في بلدانهم، بعاداتهم وأعرافهم وأنماطهم، في الأماكن التي ذهبوا لاستعمارها، فأتوا منهم بعيّنة، تقول للناس انظروا! لقد وجدنا كائنات تشبهنا نحن البشر، لكنها تنتمي إلى الحيوانات، فهم "حيوانات بشرية"!
وفي ألمانيا، بأواخر القرن التاسع عشر، كان هناك معرضٌ للحيوانات البشرية أيضًا، حيث وُضِع السود في أقفاص، ليتفرّج عليهم العامة، وهم يجبرون على أداء طقوس ورقصات مضحكة لهم، بينما يشعل أحدهم سيجاره، ويتفكّر بنظرة استشراقية عميقة، كيف يعيش هؤلاء الهمجيون في النصف الآخر السفليّ من العالم؛ وينظر إلينا جميعًا، عربًا، وشمال أفريقيا، وأفارقة في الجنوب، ومسلمين، وبدائيين، نظرةً لا تخلو من الدهشة، حول الأنواع العديدة من "الحيوانات البشرية" الذين يعيشون في هذا الكون المسخّر لخدمتهم.
المقاتلون الفلسطينيون صقور، ستقضي ذات يومٍ، قريبٍ جدًّا، على "حظيرة إسرائيل"
لا ينبغي أن تفوتنا فرنسا، فهي أقامت "قرية الزنوج" ( 1878 و1889)، والتي حوت المئات من هذه "المخلوقات العجيبة"، بعد أن اصطحبوها بالأغلال من أفريقيا ليراها مواطنوهم المتحضرون في العالم الأوّل.
وفي أميركا، عاصمة العنصرية ضد السود، في المعرض العالمي بسانت لويس عام 1904 الذي حضره عشرون مليون إنسان من حول العالم الجديد، ليروا الاختراعات المذهلة الثورية حينها، كالكهرباء، والهاتف، في ولاية ميسوري، كان يُعرض اكتشاف مذهل آخر، لـ3000 فرد مختلف من "الحيوانات البشرية"، الذين لا يخلون أيضًا من السكان الأصليين، وكيف أنّهم كائنات مدهشة حين تراها كحيوانات لا أكثر، حيوانات طامحة لأن يكون لها لغة وموطن أصلي وطقوس وعبادات تخصّها.
وفي 2023، لم تنتهِ النظرة الأوروبية الفوقية للعالم المتخلف، وكما لم تختفِ العنصرية في أميركا، وكما لم ينقضِ استعباد السود والسكان الأصليين في العقلية العرقية البيضاء، فإن وزير الاحتلال الصهيونيّ، الذي هاجر أبوه من أوروبا إلى فلسطين على متن سفينة "إكسودس"، ما زال يحضره الوصف نفسه، حين يرى غزة عبارة عن حديقة حيوانات بشرية، لا بدّ أن توضع في قفص كبير، ويذبح منها المشاكسون، ثم تسوّى بالأرض، وينكّل بشعبها البدائيّ، الذي يقطع عنه الكهرباء والماء والطعام، كما فعل أسلافه مع "الحيوانات البشرية" التي جلبوها من السنغال والكونغو حتى ماتوا من العطش والبرد والمرض خارج أسوار الكنيسة الرومانيّة الكاثوليكيّة في بروكسل، لأنهم "حيوانات بشرية لا أكثر".
ربما سيفاجأ غالانت بعد قليلٍ، بأنّ "الحيوانات البشرية" اللفظ الذي أرادت أوروبا طبعه على كلّ هؤلاء، ويستخدمه اليوم متعمّدًا أو مستفَّزًا، قد يصبح له تعريف آخر، حين يكون المقاتلون الفلسطينيون بشرًا من لحمنا ودمنا، لكن لهم أنيابًا كحيوانات الأسود، ومخالب كالصقور، ستنقض ذات يومٍ، قريبٍ جدًّا، على سجّانها وقاتلها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق