سؤال ... كم أرقني؟!
محمد جلال القصاص
وفي جنبات كل نفس يؤرقها ضعف المسلمين سؤال ثائر لا يكاد يهدأ، وهو: كيف أحدث الوحي (كتابًا وسنة) هذا التأثير الضخم السريع في أم القرى ومن حولها، ولا يُحدث ذات التأثير في واقعنا المشاهد؟!
{بسم الله الرحمن الرحيم }
لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم
في جنبات الساحة الثقافية.. وفي جنبات كل نفس يؤرقها ضعف المسلمين سؤال ثائر لا يكاد يهدأ، وهو: كيف أحدث الوحي (كتابًا وسنة) هذا التأثير الضخم السريع في أم القرى ومن حولها، ولا يُحدث ذات التأثير في واقعنا المشاهد؟! رغم أنه هو هو ذات الوحي، نؤمن به ونتلوه آناء الله وأطراف النهار؟!
ومن زاوية أخرى: إذا كانت القضية الرئيسية التي أرسل الله بها محمدًا بن عبد الله صل الله عليه وسلم هي تحقيق العبودية لله عز وجل يقول الله تعالى:{"وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ"} (النحل: 36)،ويقول الله تعالى:{"وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ"}(الأنبياء:25)، ويقول الله تعالى:"{وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ}"(الذاريات: 56)، وكان حال النبي صلى الله عليه وسلم وصحابته رضي الله عليهم على ما وصف الله "{مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ} " (محمد: من الآية29).
وكأنَّ السجود والركوع حال ملازم لهم لا ينظر إليهم أحد إلا ويراهم متلبسين به؛ وهذا ما قرره رِبْعي بن عامر حين سُئل عن الرسالة التي يحملها أتباع محمدٍ صلى الله عليه وسلم، قال: "اللَّهُ ابْتَعَثَنَا، وَاللَّهُ جَاءَ بِنَا لِنُخْرِجَ مَنْ شَاءَ مِنْ عِبَادَةِ الْعِبَادِ إِلَى عِبَادَةِ اللَّهِ"[1]. فكيف استطاع من شُغلهم العبادة إصلاح دنيا الناس؟ كيف استطاعوا إقامة هذه الحضارة؟!
المستوى الأول: يتعلق بالحقوق التي شرّعها الله لعباده في كتابه وسنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، وذلك أن الشريعة التي أرسل الله بها محمدًا صلى الله عليه وسلم (التشريعات التي جاء بها الوحي) مكّنت الناس من كافة القدرات الكامنة في الأرض وما عليها؛ فجعلت المؤمنين بها شركاء في الماء والنار والكلأ، "المسلِمونَ شُرَكاءُ في ثلاثٍ : في الكلأ ، والماءِ ، والنَّارِ"[2] وأطلقت أيديهم في التملك والتصرف، فكانت "الملكية" و "حق الاستخدام" و"السيطرة" على الأشياء بيد الناس؛ وفي هذا السياق تم تشريع "إحياء الموات" بالضوابط الفقهية المعروفة، وتم توزيع المال (الفيء، والزكاة، والصدقات) في ذات المكان (المجتمع/ البلد/ القرية) الذي يُجمع فيه.. على المستحقين للمال المذكورين في آية التوبة{"إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ"}(التوبة:60)، وما زاد عن حاجة أهل القرية (البلد/ المدينة) يٌدفع للسلطة المركزية لتوزعه لا لتحتفظ به. بمعنى أنه الشريعة نزعت المال (تملكه أو التحكم فيه[إدارته]) من السلطة. وهذا يعني بالمآل إقصاء السلطة (الدولة) عن التحكم في حركة الناس (المجتمع) إذ المال أول وأهم أدوات السيطرة.
وحين نتأمل في دورة رأس المال في الإسلام (مصدره، وطريقة إنفاقه، أو المصادر التي يوزع فيها) نجد أن القيمة (المبدأ) التي تكمن خلف كسب المال وإنفاقه هي التمكين للدين، أو إعانة الناس على تحقيق العبادة، وليست تحقيق الرفاهية للأفراد (سياسة الاستهلاك). فمثلًا: ابن السبيل يعان من المال سواءً أكان محتاجًا أم لا، ولا يطالب بثمن إعانته حين يعود لأهله، بل ولا يسأل أميسور تباع له الإعانة أم معسر يعان دون مقابل؟ والهدف هو تأمين الطريق حتى يتدفق الناس على الطرق بأشخاصهم وتجارتهم آمنين مطمئنين، وهذا الأمان التام ينعكس على المجتمع ككل؛ ومثلًا: يعان أصحاب المروءات حين يغرمون لتبقى المروءة وما يترتب عليها من إصلاح ذات البين؛ وكذلك الحال في العاملين عليها وغيرهم ممن ذكر الله في مصارف المال[3].
وبهذا تمكّن الناسُ من إدارة شئونهم وفقًا لما يحقق مصالحهم كأفراد وتجمعات. فكان المجتمع في الإسلام مدني كليةً، بمعنى أنه يدار من الأفراد العاديين لا من السلطة (نخبة المال والنفوذ[الأوليجارشية]). بل لا تتدخل السلطة إلا في أضيق الحدود. أصبح الإنسان.. كلُّ الإنسان بعد الإسلام مفعّل بأقصى طاقة. فلا مانع يمنعه من الفعل إن أراد أن يفعل ما يقدر عليه قدرة شرعية وذاتية. وهذا المستوى في الإجابة على التساؤلات فصّل فيه الأستاذ الدكتور جميل أكبر في مشروعه الفكري الموسوم بـ "قص الحق" و"عمارة الأرض في الإسلام"[4].
ولبناء هذه القيم كانت المنهجية المتبعة هي: التكرار، والتصريف، والتدرج (النمو التدريجي).
[1] ينظر: "تاريخ الرسل والملوك" للإمام محمد بن جرير الطبري، (القاهرة، دار المعارف، 1387هـ/1967م)، ج3، ص520.
[2] أخرجه أبو داود، وغيره، واللفظ له.
[3] ينظر: "إعلام المسلمين والمسلمات بأن إنفاق الزكاة سياسات" إعداد مركز الإمام الغزالي للبحوث والدراسات.
[4] ينظر: "قص الحق: العقل وحتمية الفساد" للأستاذ الدكتور جميل أكبر.
[5] تتشكل القيم والمبادئ في هيئة منظومة.. بمعنى أن الأخلاق لا تتواجد منفردة أو متضاربة. فتكون صفات الشخص (أو الجماعة) إيجابية ويشذ خلق أو موقف، وتكون سلبية ويشذ خلق أو موقف. فمع الإيمان الصدق والصبر، والعفاف (إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا) (الأحزاب:35)
والحديث عن فصل القيم والتعامل مع الناس حسب الموقف هو حديث من هناك.. من عند غير العقلاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق