تعالوا نستشرف مستقبل مصر القريب
أحمد عبد العزيز
يرى بعضهم "استشراف المستقبل" عِلما، ويراه بعضهم فنا، وأراه "حَدْسا"، إذا جاز لي أن أرى. وفي كل الأحوال، يجب أن يتوفر للمستشرف قدر من المعلومات، أو الشواهد الملموسة التي تعينه على الاستشراف..
وللاستشراف معانٍ كثيرة، تختلف باختلاف مجال الاستشراف، وتتفق جميعها في "الحديث عن المستقبل"..
وهو غير "الكهانة" التي هي "دَجَلٌ وشعوذة"، وحديث عن الغيب (الذي لا يعمله إلا الله سبحانه) بلغة الجَزم واليقين، وهو ما لا يجوز لمسلم أن يفعله، أو يعتقد بصحته..
ولأننا نتكلم عن "حَدْس"، فقد يصيب المستشرف، أو يخطئ، أو يتحقق بعض ما استشرفه، قلَّ أو كثُر..
والحَدْسُ عندي، مرتبط بلحظة "صفاء" عابرة، أو "إلهام" يملأ النفس، ويستريح له العقل غير المنغلق..
وهو يشبه (إلى حد كبير) تلك الحالة التي "يسرح" فيها الشخص فجأة، فيغيب كل شيء فيه، عن الزمكان، إلا جسدُه، حتى أنك تضطر إلى هزِّه، أو مناداته مرَّات بصوت مرتفع، حتى يعود، وقد رأى شيئا لا يراه جليسه!
وفي الموضوع..
علينا أن نقر بأننا بلادنا فاقدة السيادة، وأن أي حراك داخلي يكون تحت سمع وبصر من يدير الشأن المصري، في مكان ما من هذا العالم!
وأن من يصل إلى السلطة في بلادنا، فإنه يصل بتخطيط، أو برضى، من تلك الجهة، وأن أي خروج عن هذا المبدأ، يعتبر (في نظر هذه الجهة) خطأ يجب تصحيحه، وهذا ما حدث في التجربتين المصرية والتونسية، وتم بترتيب استباقي في التجربة المغربية.
ليس كومبارسا
أرى أن أحمد الطنطاوي ليس كومبارسا، ولكنه جزء من "خطة مستقبلية"، تهدف إلى إعادة مصر إلى الحالة المباركية؛ لإنقاذ مصر من فوضى باتت وشيكة:
تسوية ملف المعتقلين.. الشروع في مصالحة مجتمعية.. حرية نسبية بدرجة أكبر مما كانت في عهد مبارك..
فتح المجال العام.. التزام الإخوان المسلمين بصورة معينة من المشاركة السياسية، ليس من بينها المنافسة على السلطة، حتى يفني الجيل الذي توافق على هذه الصورة (من السلطة والإخوان).
ماو جلال تونج سيتشبث بموقعه الذي استولى عليه بالانقلاب على الرئيس المنتخب، رحمه الله؛ حتى ينجو من المحاسبة، والمصير الذي يعرف قبل غيره أنه يستحقه..
فإما أن ينجح في البقاء، وهذا سيؤدي إلى انفجار الوضع في مصر والمنطقة، وسينتهي بإزاحته قسريا، بأي صورة من الصور..
أو يُزاح من المشهد (توافقيا) بعسكري آخر، قد يكون محمود حجازي الذي سيأتي (إذا جاء) بشروط، وأول هذه الشروط، تسليم السلطة "سلميا" أو لنقُل "دستوريا" لأحمد الطنطاوي أو "مدني" غيره، بعد مدة أو مدتين؛ لأن الانتخابات (ساعتئذ) ستكون على غرار انتخابات 2012، ولا يهم (بالنسبة للممسكين بخيوط اللعبة) أن يكون الطنطاوي أو غيره، ما دام الفائز من "غير الإسلاميين"، وما دام الإخوان المسلمون بعيدين عن المنافسة على السلطة!
ولكي "ينجح" محمود حجازي، أو عسكري غيره، في هذه المهمة، وينجح أحمد الطنطاوي، أو مدني "غير إسلامي" غيره، في مهمته، فلا بد من "إنقاذ مصر" اقتصاديا، وهذا أمر ليس بالصعب على مُحرِّكي العرائس في مصر..
ستلاحظ عزيزي أن الشعب المصري غائب في كل ذلك..
نعم.. فالشعب إذا لاحظ أي قدر من التغيير "الإيجابي"، فإنه سيعتبر ذلك إنجازا هائلا بعد هذه العشرية المظلمة، وسيدعو للسلطة التي أحدثت هذا التغيير (حتى لو كان طفيفا) بطول البقاء؛ كي "تكمل المشوار"..
نجاح مبكر
قلنا ونكرر..
لا تغيير سلمي أو خشن، في غياب قيادة "ميدانية" لديها رؤية وخطة، قادرة على كسب ثقة الناس، وإقناعهم بالالتفاف حولها.. هذا في المطلق، وفي العموم..
استنادا إلى هذا المفهوم الذي نبهت إليه كثيرا، وإسقاطه على الحالة المصرية اليوم، نجد أن أحمد الطنطاوي نجح (حتى الساعة) في زمن قياسي، في تقديم نفسه "قيادة للتغيير السلمي"، ودعا المصريين للالتفاف حوله، واستجابت له شريحة من المصريين، يصعب قياس نسبتها حاليا..
أما من حيث الرؤية، فقد طرح الطنطاوي بعض جوانب رؤيته.. وأرى أن طرحه (في مجمله) جيد، لا سيما تشبثه بـ "دولة القانون" التي لا تفرِّق بين مواطنيها، على أي أساس، في أي شأن من الشؤون، إلى جانب أمور أخرى سرقتها منا، أو حرمتنا منها دولة العسكر التي تجاوز عمرها السبعين عاما..
إن التجربة الدامية التي مررنا بها في هذه العشرية حالكة السواد، جعلت السواد الأعظم منا يتشكك في كل شيء، حتى في نفسه أحيانا، وجعلت معظمنا يعيش حالة من "عدم اليقين"، بسبب هذه الفتنة المزلزلة التي لا تزال تحيط بنا من كل جانب..
أتفهم (تماما) هذا الشك، لدرجة النفخ في الزبادي، وأتفهم (تماما) أسباب "عدم اليقين" التي تحول دون تمييز كثير منا بين الطيب والخبيث، والموالي والمندس، والأمين والخائن، والوطني والعميل.. إلى أخر هذه المتقابلات التي عشناها ونعيشها وسنظل نتعثر فيها، ما دمنا في هذه الدنيا..
إن هذه الحالة المتردية التي وصلنا إليها، إبان الانقلاب على الرئيس الشهيد محمد مرسي، أول رئيس منتخب، يجب ألا تمنعنا من التفكير الموضوعي، وتقليب الأمور على وجوهها الظاهرة، والباطنة التي تتوفر لنا بعض الأدلة على وجودها، حتى يمكننا تسمية المسميات بأسمائها الحقيقية، دون تشويه (موجب أو سالب).. أي دون تهويل أو تضخيم، ودون تحقير أو تقزيم..
في هذه المرحلة الحساسة جدا، أرى أن يلزم المشككون في الطنطاوي الصمت، لا سيما أن هذا التشكيك لا يقوم على أدلة يقينية، أو إشارات (من الطنطاوي) يمكن تفسيرها بصورة سلبية، فلا يكونوا أعوانا لأبواق الانقلاب، في اغتيال الرجل معنويا.
وأرى أن يتحلى المتحمسون للطنطاوي بالتريث، وعدم الاستغراق في وَهْم إمكانية التغيير من خلال المشاركة فيما يسمى الانتخابات الرئاسية المقبلة، فلا يهيئوا الناس لتغيير "وشيك" لن يكون وشيكا، بأي حال، وفق المعطيات الحالية.
الحقيقة التي يجب أن نراها بوضوح، هي أن الطنطاوي أحدث حالة لم نشهد لها مثيلا، خلال السنوات العشر الماضية.. فقد اشتبك مباشرة مع ماو جلال تونج، ووصفه بما يستحقه، وتكلم عما يجب أن يكون، وما يستحقه الشعب، وأشار بإصبع الاتهام إلى من كان سببا في كل الكوارث التي حلت بمصر خلال هذه العشرية الكئيبة، وإذا كان الطنطاوي يرى ذلك فشلا وسوء إدارة، فأنا (ومثلي) نراه خيانة، ونجاحا في تخريب مصر عن سابق قصد وتصميم!
في كل الأحوال، علينا أن نسلم، بأن أحمد الطنطاوي أحرز نجاحا مبكرا وكبيرا، وقدم نفسه رئيسا لمصر، ولو بعد حين!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق