طوفان الأقصى.. والخداع الأميركي
فالعالم ما زال بعد 80 عاما على جريمة اغتصاب فلسطين لا يرى سوى الكيان الصهيوني والشعب اليهودي يستحقون الدعم والحياة والحماية والمساندة، وها هو الرئيس الأميركي جو بايدن لا يخجل من تكرار كلامه أمام العالم أجمع قائلا: "لا بد أنكم سمعتموني أقول عدة مرات إنه لو لم تكن إسرائيل موجودة، لكان علينا اختراع واحدة. وأنا أعني هذا الكلام".
جاء ذلك في كلمته التي ألقاها بمناسبة لقائه رئيس وزراء الكيان الصهيوني بنيامين نتنياهو يوم 20 سبتمبر/أيلول الماضي في مدينة نيويورك، على هامش اجتماعات الدورة 78 للجمعية العامة للأمم المتحدة. عبارة تثير الاستنكار والاشمئزاز في وقت واحد، وتدمّر مصداقية الإدارة الأميركية والولايات المتحدة، وتنسف المبادئ التي تتحدث عنها حول المساواة وحقوق الإنسان وحق الشعوب في التحرر من الاحتلال، كما تؤكد أن اتفاقيات التطبيع العربية، التي تمت وستتم مع الكيان الصهيوني، إنما هي اتفاقيات إذعان، لا تملك الدول العربية إزاءها حولاً ولا قوة، وليس أمامها سوى انتظار صفقات الترضية ومراسم التوقيع.
إذا أرادت الولايات المتحدة أن تعزز مصداقيتها وعدالتها، فإن عليها أن تكفّ عن ازدواجية المعايير التي تتعامل بها مع دول العالم، وأن تتصرف بمسؤولية أخلاقية تفرضها عليها زعامتها الدولية الراهنة
تناقضات فاضحة
من المفترض أن هذه العبارة لامست آذان مسؤولي دول العالم الإسلامي الذين توافدوا لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، ومسؤولي دول العالم الأعضاء في الأمم المتحدة بتعداد سكاني يبلغ ربع سكان العالم، من بينهم نحو نصف مليار عربي تتفاعل القضية الفلسطينية في صدورهم على مدى الساعة، على الرغم من جراحات بعضهم المحلية التي قضّت مضاجعهم في السنوات العشر الأخيرة.
لكن المؤسف أن الرئيس بايدن، مثل سابقيه من الرؤساء الأميركيين، لا يلقي بالا لهذه الكتلة البشرية الهائلة، ولا ينشغل بقضاياها واحتياجاتها وظروفها إلا بقدر ما تتطلبه المصلحة الأميركية، بل يشغله تحقيق أحلام الكتلة اليهودية المهيمنة على القرار الأميركي، حيث قال في كلمته أمام نتنياهو "غالبا ما أردد عبارة استخدمها أول رئيس وزراء إسرائيلي دافيد بن غوريون منذ 75 عاما بعد إعلان استقلال إسرائيل، لقد قال: سيتحقق حلم أجيال إذا وقف العالم إلى جانب إسرائيل، حلم أجيال، وها هما الولايات المتحدة وإسرائيل تعملان معا منذ وقت طويل لتحويل هذا الحلم إلى حقيقة"، مشددا على أن التزامه بمصلحة إسرائيل التزام راسخ، وأنه لن يكون أي يهودي في العالم بأمان دون وجود إسرائيل.
هذا الانحياز الأميركي المفرط تجاه دولة الكيان الصهيوني ليس جديدا، وهذه المراهنة على استرضاء الكتلة اليهودية لصالح الانتخابات الرئاسية والنيابية ليس جديدا، ولكن الجديد الذي استوقفني في هذا الحديث هو تناقضه الفاضح مع الشعارات والمطالبات التي ساقها الرئيس بايدن في ثنايا كلمته أمام زعماء العالم في الأمم المتحدة في اليوم السابق للقائه بنتنياهو، والذي لم يعد ينطلي إلا على حلفائه وشركائه. وفيما يلي بعض المقتطفات التي ساقها مما يوضّح هذا التناقض:
- من خلال القيادة المتضافرة والجهود الدقيقة، يمكن للخصوم أن يصبحوا شركاء، ويمكن حل التحديات الهائلة، ويمكن أن تلتئم الجروح العميقة.
- عندما نختار أن نقف معا ونعترف بالآمال المشتركة التي تربط البشرية جمعاء، فإننا نمسك بأيدينا بالقوة، بتلك القدرة على تغيير مسار التاريخ.
- تسعى الولايات المتحدة إلى عالم أكثر أمنا وازدهارا وإنصافا لجميع الناس، لأننا نعلم أن مستقبلنا مرتبط بمستقبلكم.
- علينا أن نتصدى للتحديات الأكثر ترابطا وتعقيدا، وأن نتأكد من أننا نلبي احتياجات وتطلعات الناس في كل مكان، وليس فقط في مكان ما، بل في كل مكان.
- اسمحوا لي أن أكون واضحا: إن بعض مبادئ نظامنا الدولي هي مبادئ مقدسة للغاية. فالسيادة وسلامة الأراضي وحقوق الإنسان هي المبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة، وهي ركائز العلاقات السلمية بين الدول والتي من دونها لا يمكننا تحقيق أي من أهدافنا.
- إذا تخلينا عن المبادئ الأساسية لميثاق الأمم المتحدة لاسترضاء المعتدي، هل يمكن لأي دولة عضو في هذه الهيئة أن تشعر بالثقة في أنها محمية؟
- السيادة وسلامة الأراضي الركيزتان الثابتتان لهذه الهيئة النبيلة، وحقوق الإنسان العالمية هي نجمها الشمالي، ولا يمكننا التضحية بها أيضًا.
- هذه الحقوق هي جزء من إنسانيتنا المشتركة، وهي ضرورية للتقدم البشري الذي يجمعنا معًا.
- سيتم الحكم علينا من خلال ما إذا كنا سنفي بالوعود التي قطعناها على أنفسنا، ولبعضنا بعضا، وللفئات الأكثر ضعفا.
هذه الشعارات والتعهدات التي قدمها الرئيس بايدن لا تخص القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني قيد أنملة، فالقضية الفلسطينية لم تعد سوى ورقة مقايضة سياسية، ومجرد واحدة من الأزمات الإقليمية المنتشرة في العالم، أما الشعب الفلسطيني فليس أكثر من مجموعات بشرية تعاني من الهشاشة السياسية والتنموية، ولا سبيل لعلاجها إلا بالخضوع للإملاءات الصهيونية والانخراط في الرؤية الأميركية المستقبلية للشرق الأوسط والعالم، ليجدوا لهم موضع قدم وسط الزحام القادم.
يتحدث الرئيس بايدن عن الآمال المشتركة التي تربط البشرية جمعاء، وكيف يمكن للخصوم أن يصبحوا شركاء، وعن قدرة العالم على تغيير مسار التاريخ، وعن سعي الولايات المتحدة لإيجاد عالم أكثر أمنا وازدهارا وإنصافا لجميع الناس، وعن مبادئ النظام الدولي المقدسة ممثلة في ميثاق الأمم المتحدة، وكأن هذه المسائل لا تعني القضية الفلسطينية في شيء، فهي بالنسبة للإدارات الأميركية قضية الكيان الصهيوني والشعب اليهودي فحسب، دون أن تنسى -فيما يشبه المزاح- الإشارة إلى حل الدولتين، وضرورة أن يتمتع الشعب الفلسطيني بدولته المستقلة، فالسنوات تتوالى ثقالاً على كاهل الشعب الفلسطيني دون أن يتحقق له من الوعود الدولية والأميركية شيء، ولا يجد أمامه سوى نفق المعاناة القاهرة الذي لا يريد أن ينتهي.
لم يعد أمام القوى الفلسطينية سوى الاعتماد على نفسها وعلى شعبها لإعادة بناء وحدتها الوطنية، وضبط بوصلتها السياسية من جديد بما يضمن لها تحقيق أهدافها ورفع المعاناة عن شعبها، مهما كلّفها الأمر.
القضية الفلسطينية بعد نيويورك
عاد الوفد الفلسطيني والوفود العربية والإسلامية من نيويورك بعد انتهاء جلسات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وعاد كل منهم من حيث أتى دون أي موقف مشترك يرفض هذه الازدواجية التي تعامل بها الرئيس بايدن مع القضية الفلسطينية، ودون أن تتقدم الدول العربية والإسلامية الـ57 بمشروع قرار يلزم الأمم المتحدة بوضع جدول زمني محدد لحل القضية الفلسطينية، وإنهاء معاناة الشعب الفلسطيني، ووضع حد للازدواجية التي يتعامل بها الغرب -وعلى رأسه الولايات المتحدة- مع القضية الفلسطينية. وربما يكون إحجام الدول الإسلامية والعربية عن القيام بهذه المحاولة بسبب يأسهم من ذلك، فقد سبق أن حاولوا مرارا من قبل وطالبوا بتطبيق قرارات الأمم المتحدة الخاصة بالقضية الفلسطينية، ولكن دون جدوى، وهذا الوضع المزري يفرز جملة من المؤشرات، من أهمها:
- أن القضية الفلسطينية باتت بعيدة كل البعد في سلم أولويات دول العالم الإسلامي، فلم تعد أكثر من مجرد مناشدات وإدانات ومقترحات ثابتة تذيّل بها بياناتها الرسمية في مثل هذه المناسبات. وقد أصبحت قضية تأمين الاستقرار الداخلي، والانخراط في خطط التحّول والمشروعات الاستثمارية المرتبطة بها، تمثّل الأولويات القصوى لدى هذه الدول.
- أن الدول العربية أصبحت منشغلة كليّا بالشأن المحلي، ومثقلة بالأزمات الأخرى التي تقدمت في حدّتها ونتائجها على القضية الفلسطينية، وأصبحت الأولويات المحلية تتقدم على نظيرتها الإقليمية أو القومية، وأصبح التفاعل الإيجابي مع الخطط والتوجّهات الأميركية في المنطقة والعالم إحدى الضمانات الأساسية لتعزيز استقرار السلطة، والمشاركة في مشروعات التحول الشرق أوسطية، وإظهار التجاوب مع القيم الغربية الحديثة ومخططات التنمية المستدامة.
- أن القوى الفلسطينية لم يعد أمامها سوى الاعتماد على نفسها وعلى شعبها لإعادة بناء وحدتها الوطنية، وضبط بوصلتها السياسية من جديد بما يضمن لها تحقيق أهدافها ورفع المعاناة عن شعبها، مهما كلّفها الأمر.
لم يكن "طوفان الأقصى" مجرد عملية مقاومة كغيرها من العمليات التي سبقتها، ولن تكون ردود فعل الاحتلال الصهيوني المدعوم أميركيا وغربيا كسابقاتها من الردود، إلا أن الظروف المعقدة الفلسطينية والعربية والدولية التي تمرّ بها القضية الفلسطينية منذ عدة عقود، ستجعل من هذا "الطوفان" وردود الفعل المتوقعة عليه نهايات مؤلمة فوق العادة، وبدايات جديدة مفتوحة على كل الاحتمالات.
ورغم أن الانفعال هو سيد الموقف حاليا على المستوى الفلسطيني والعربي والإسلامي، فإن السؤال الذي يجب أن يرن دوما في أسماع مع يهمه الأمر هو: ما المشروع السياسي الذي يخدمه "طوفان الأقصى"؟ وكيف سيتم استثماره لصالح تغيير الواقع الداخلي الفلسطيني؟
وبالعودة إلى العبارة التي كررها الرئيس بايدن في لقائه مع نتنياهو، وما أظهرته من تناقضات مع القيم والأفكار والخطط والتوجهات التي يسوّقها في المحافل الإقليمية والدولية؛ فإن على الولايات المتحدة إذا أرادت أن تعزز مصداقيتها وعدالتها أن تكفّ عن ازدواجية المعايير التي تتعامل بها مع دول العالم، وأن تتصرف بمسؤولية أخلاقية تفرضها عليها زعامتها الدولية الراهنة، وذلك بالاعتراف بجرائمها وتعويض من وقعت بحقهم هذه الجرائم، والكف عن سياسة عربدة الهيمنة الدولية التي تقوم بها، قبل أن تدور الدوائر عليها كما دارت على من سبقها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق