المسكوت عنه في ملف المقاطعة العربية لإسرائيل!
في النصف الأول من العام ١٩٤٩م وقّعت مصر والأردن ولبنان وسوريا والعراق –فَوّضت الأردن للتوقيع باسمها– على اتفاقيات الهدنة التي تُعيّن الخطوط الحدودية الفاصلة بينها وبين الكيان الإسـرائيلي، وذلك من أجل إنهاء حالة الحرب بعد النكبة المذلة التي مُنيت بها جيوش الأمة العربية أمام العصابات الصهيونية، وكان من نتائجها إنشاء الدولة العـبرية على ٧٧٪ من مساحة فلســطين بينما كان القِسم المخصص لها حسب قرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة لا يتجاوز ٥٥٪، وهى الخطوط التي ألِفها العالم كحدود نهائية لإسـرائيل وغض البصر عن قرار التقسيم السابق، وقد عبّر عن ذلك “ديفيد بن جوريون” أول رئيس وزراء لإسـرائيل بقوله:
«إن الأمر الواقع هو اللغة التي تفهمها الأمم المتحدة والدول الكبرى»!.[١]..
وهو ما طبقته الدولة الصهيونية التي لم تقنع بمكاسب الحرب، فقامت بخرق الهدنة وتسيير قواتها للاستيلاء على ميناء “أم الرشراش” الذي أطلقت عليه اسم “إيلات” فيما بعد، ليكون بمثابة المنفذ الذي يطل على خليج العقبة ومن ثمّ يربطها بالبحر الأحمر، في ١٠ مارس ١٩٤٩م!.[٢].
ونتيجة لذلك الخرق فإن “مصطفى النحاس” باشا عندما تولى رئاسة الحكومة المصرية في يناير ١٩٥٠م، قام بتكليف وزير الحربية والبحرية “مصطفى نصرت” بنشر قوات مصرية مزودة بالمدافع الثقيلة على جزيرتي تيران وصنافير لمنع أي سفينة غير مرغوب فيها من العبور داخل المياه الإقليمية لمصر، ولما كان الممر الوحيد الصالح للملاحة لأي سفينة تريد الدخول في خليج العقبة وصولا إلى ميناء “أم الرشراش” هو مضيق تيران شرم الشيخ، فقد صار الميناء عمليًّا بهذا الحصار في حكم العدم!.[٣].
ولم تكن هذه الخطوة هى الأولى على طريق حصار العدو والحرب غير المباشرة ضده، بل سبقها منذ الساعات الأولى من الإعلان عن نشأته في ١٥ مايو ١٩٤٨م، قرار إغلاق قناة السويس في وجه الملاحة والتجارة الإسرائيلية، كرد فعل على اغتصاب الأراضي العربية في فلسطين، وهو الإغلاق الذي استمر حتى بعد توقيع اتفاقية الهدنة المصرية الإسـرائيلية في رودس يوم ٢٤ فبراير ١٩٤٩م!.[٤]..
أما الخطوة الثالثة التي ربما لا يدري عنها الكثيرون شيئًا فهى قيام جامعة الدول العربية بإنشاء مكتب لـمقاطعة إسرائيل في مايو ١٩٥١م، ليكون هو الجهاز المركزي المشرف والمنسق والمسؤول الأول عن تنفيذ قواعد وأحكام المقاطعة، ومقره الرئيسي في دمشق، وتتبعه مكاتب إقليمية في بقية الدول العربية!.[٥].
وهذا هو مدار حديثنا اليوم وواجب الوقت بكل تأكيد، حيث أن المقاطعة وعلى الرغم من تلقيها الطعنات النجلاء من الحكام العرب في كامب ديفيد ووادي عربة وأوسلو ومدريد وغيرها، إلا أنها كانت دائما من أمضى الأسلحة التي واجهتها إسـ.رائيل منذ قيامها!.
ولإدراك مدى جدواها وقوة تأثيرها يجب أولا معرفة المسكوت عنه والمطموس إعلاميًّا من وقعها على العدوّ ومَن يظاهره ويواليه، وهو ما سوف نستعرض جزءًا يسيرًا منه مما جاء في تقرير المؤتمر الـ٦٤ لرؤساء المكاتب الإقليمية للمقاطعة الذي عقد بدمشق في الفترة من ٢٧ أبريل إلى ٤ مايو سنة ١٩٩١م، من أجل مناقشة طلبات ٥٢ شركة عالمية ترجو رفعها من القائمة السوداء للمؤسسات الداعمة للكيان الصهيوني، ومنها ثلاث شركات أمريكية كبيرة وشهيرة هى “كوكاكولا” و”فورد موتورز” و”المطافئ العالمية”!..
حيث تقدموا إلى المكتب الرئيسي للمقاطعة بوثائق تثبت وقف تعاملاتها مع إسـرائيل وتتعهد بعدم خرق إجراءات المقاطعة، طالبة رفع اسمها من قوائم الحظر بعد أن تكبدّت خسائر فادحة جرّاء ذلك، ومن المؤسف وقتها أن من بين هذه المؤسسات المدرجة بالقائمة ثلاث شركات مصرية مالكة لبواخر شهيرة ذكرها التقرير بالاسم ضمن ما ذكر من أسماء لشركات إيطالية وبريطانية وهولندية وفرنسية وألمانية وأمريكية!.[٦].
وقد بلغ عدد المتقدمين من الشركات بطلب فك الحظر ورفعهم من قوائم المقاطعة قبل هذا المؤتمر ١٨٦٥ شركة أجنبية أوقفت تعاملاتها مع إسـرائيل، مما كبد الاقتصاد الإسـرائيلي خسائر مالية فادحة قدرتها تقارير منشورة بالصحف العبرية نفسها بـ٤٥ مليار دولار، وقدّرها تقرير المكتب الرئيسي للمقاطعة بمائة مليار دولار بأسعار النصف الأول من التسعينيات!.[٧]..
وللأسف استأنف معظم هذه الشركات صلته مرة أخرى بإسـرائيل بعد الاعتراف الفلسطيني بها في اتفاقية “أوسلو” التي وقعها “ياسر عرفات” رئيس منظمة التحرير الفلسطينية في خريف ١٩٩٣م، وهرولة معظم الأنظمة العربية في طريق التطبيع لدرجة أن المؤتمر الـ٦٥ لمكاتب المقاطعة الإقليمية تم تأجيله ثلاث مرات بسبب عدم الحضور واكتمال النصاب القانوني!.[٨]..
لكن كعادة أهل الجـهاد والرباط عبر تاريخ الأمة الذين يوقظونها إذا خمدت ويرفعونها إذا انحطت مُوقدين نار حمـاستها التي انطفأت وخبا بريقها، قام أبطال فلسطين بانتفاضة عظيمة على إثر قيام “أرئيل شارون” يرافقه أعضاء حزب “الليكود” في حراسة المئات من جنود الاحتلال باقتحام وتدنيس المسجد الأقصى المبارك في ٢٨ سبتمبر ٢٠٠٠م، وهى الانتفاضة التي فضحت أباطيل الصهيونية بأنهم شعبٌ بلا أرض نزلوا أرضًا بلا شعب ..
كما زعزعت ثقة المواطن الإسـرائيلي في قدرات حكومته الأمنية والعسكرية فضلا عن زيادة نسبة الخوف وتضاعف نسبة الإقبال على العيادات النفسية وتناول المهدئات مع النزوع إلى الهجرة المضادة والنزوح من فلسـطين، وهو ما تناوله بالتفصيل الدكتور الموسوعي “عبد الوهاب المسيري” في كتابه القيّم: “من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية”، والذي يتبلور غرضه الرئيسي حول قول السياسي والقانوني الإسرائيلي “مايكل بن مائير”:
«إن الانتفاضة هي حرب التحرير التي يخوضها الشعب الفلسـطيني، والتاريخ يُعلمنا أنه لا توجد أمة على استعداد أن تعيش تحت هيمنة شعب آخر، وأن حرب التحرير التي يخوضها شعب مضطهد ستنجح حتمًا..»!.[٩]..
وفي نهاية الكتاب أضاف “عبد الوهاب المسيري” ملحقًا عن أثر الانتفاضة على الاقتصاد الإسـرائيلي، مُؤَكِّدًا على أهمية المقاطعة العربية لإسرائيل التي إذا تم الالتزام بها بشكل كامل فإنها تجعل إسـرائيل تخسر نحو ٣ مليار دولار سنويًّا، ومنه اضطرار الشركة الإسـرائيلية “مرحاف” إلى بيع حصتها في مصافي “ميدور” بالإسكندرية، بالإضافة إلى تقلُّص علاقات التطبيع الاقتصادي مع عدد من الدول العربية..
كما أكد الدكتور “المسيري” على أن المساعدات الأمريكية الرسمية وغير الرسمية التي تتراوح بين ٦ – ٨ مليار دولار سنوياً، تعد بمثابة العامل الأساسي الذي يحول دون انهيار الاقتصاد الإسـرائيلي تحت وطأة أحداث الانتفاضة!.[١٠]..
ولقد عايشنا جميعًا هذه الأحداث المجيدة [٢٠٠٠-٢٠٠٥م]، وما شهدته من تضحيات عظيمة وإهراق دماء ذكية بدأت مع الصورة الشهيرة لقتل الطفل محمد الدرة في ٣٠ سبتمبر ٢٠٠٠م، ولم تتوقف إلى الآن..
وعلى الرغم من كل ذلك لم نعدم من يجادل في جدوى المقاطعة ويستخف بها وبمن يدعو إليها، خاصة عندما تتحدث عن وقف التعامل مع الشركات الأمريكية العابرة للقارات لأنها تدعم دولة الكيان الصـ.هيوني، وهو ما يستدعي للردّ عليه بعض ما قاله الأستاذ “فهمي هويدي” حينها -قبل ٢٣ سنة- ببلاغته المعهوده وفكره القويم وقوة حجته،
ونشره تحت عنوان: قاطعوهم ما استطعتم:
«ليس صحيحًا أن مقاطعة الجماهير العربية للبضائع الأميركية عديمة الجدوى كما ذكر البعض، كما أنه ليس المستهدف توجيه ضربة إلى الاقتصاد الأميركي كما احتج آخرون، ذلك أن المطلوب أولًا هو إتاحة الفرصة للجماهير لكي تتخذ موقفاً وتتحمل مسؤوليته، حيث الاستدعاء مهم في ذاته وحضور الجماهير ومشاركتها مما ينبغي الحرص عليه، والمطلوب ثانياً إيصال رسالة مسكونة بالاستياء والغضب، من خلال الامتناع عن شراء البضائع الأميركية، وهدف الرسالة ليس الاحتجاج فحسب، وإنما أيضاً تنبيه مراكز القوى الاقتصادية ذات النفوذ الضخم في الولايات المتحدة إلى أن مصالحها سوف تضار وتتأثر من جرّاء استمرار التواطؤ الأميركي مع إسـرائيل ضد المصالح العربية.
إن الدعوة في الهند إلى مقاطعة مطاعم «ماكدونالدز»، ومقاومة تلك المطاعم في فرنسا وإيطاليا وألمانيا، ليس مقصوداً بها ضرب الاقتصاد الأميركي، ولكن مبعث ذلك هو الغيرة على نمط الغذاء المحلي، وإذا جاز لهؤلاء أن يفعلوا ما فعلوه لهدف من ذلك القبيل، فلماذا يستكثر البعض على العرب والمسلمين أن يتنادوا إلى مقاطعة البضائع الأميركية غيرة على مقدساتهم، التي يفترض انها أعز وأغلى من نمط الغذاء في هذا البلد أو ذاك».[١١]..
في النهاية لا أجد خيرا من الفتوى الشرعية التي كتبها العلامة د. يوسف القرضاوي قبل عشرين سنة تحت عنوان: وجوب مقاطعة البضائع الأمريكية والإسرائيلية وكأنها كُتبت لنا اليوم، لكي أختم به المقال، إذ أن رأي الشرع الحنيف الذي ندين به ونحتكم إليه في كل حياتنا هو القول الفصل أولًا وآخرًا:
«إن الجـ.هاد اليوم لهؤلاء الذين اغتصبوا أرضنا المقدسة، وشردوا أهلها من ديارهم، وسفكوا الدماء، وانتهكوا الحرمات، ودمّروا البيوت، وعاثوا في الأرض فساداً، هو فريضة الفرائض، وأول الواجبات على الأمة المسلمة في المشرق والمغرب.
فالمسلمون يسعى بذمتهم أدناهم، وهم يد على من سواهم، وهم أمة واحدة، جمعتهم وحدة العقيدة، ووحدة الشريعة، ووحدة القبلة، ووحدة الآلام والآمال. كما قال تعالى: ﴿إنّ هَٰذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾..[الأنبياء الآية ٩٢]، ﴿إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ﴾..[ الحجرات الآية ١٠]، وفي الحديث الشريف: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يسلمه ولا يخذله» رواه مسلم.
وها نحن نرى اليوم إخواننا وأبناءنا في القدس الشريف، وفي أرض فلسطين المباركة، يبذلون الدماء بسخاء، ويقدمون الأرواح بأنفس طيبة، ولا يبالون بما أصابهم في سبيل اللّه فعلينا -نحن المسلمين في كل مكان- أن نعاونهم بكل ما نستطيع من قوة ﴿وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾.. [الأنفال الآية ٧٢]، ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾..[المائدة الآية ٢]
ومن وسائل هذه المعاونة، مقاطعة بضائع العدو مقاطعة تامة، فإن كل ريال أو درهم أو قرش أو فلس، نشتري به سلعهم يتحول في النهاية إلى رصاصة تُطلق في صدور إخواننا وأبنائنا في فلسطين.
لهذا وجب علينا ألا نعينهم على إخواننا بشراء بضائعهم، لأنها إعانة على الإثم والعدوان. فالشراء منهم يقويهم، وواجبنا أن نعمل على إضعافهم ما استطعنا، كما علينا أن نقوي إخواننا المرابطين في الأرض المقدسة ما استطعنا، فإن لم نستطع أن نقويهم، فالواجب علينا إضعاف عدوهم. فإذا كان إضعافهم لا يتم إلا بالمقاطعة، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب.
والبضائع الأمريكية مثل البضائع الإسرائيلية في حرمة شرائها والترويج لها. فأمريكا اليوم هي إسـ.رائيل الثانية، ولولا التأييد المطلق، والانحياز الكامل للكيان الصهيوني الغاصب ما استمرت إسـرائيل تمارس عدوانها على أهل المنطقة، ولكنها تصول وتعربد ما شاءت بالمال الأمريكي، والسلام الأمريكي، والفيتو الأمريكي..»[١٢]
كتبه الفقير إلى عفو الله/ أحمد الشريف
٢ ربيع الثاني ١٤٤٥هـ / ١٧ أكتوبر ٢٠٢٣م..
#معركة_الوعي_أم_المعارك
هوامش المقال:
[١] قضية فلسطين .. المرحلة الحرجة (١٩٤٥-١٩٥٦م)، د/ صلاح العقاد، صـ١٠٦-١٢٦، معهد الدراسات العربية العالية، ط.سنة ١٩٦٨م..
[٢] المواجهة المصرية الإسـرائيلية في البحر الأحمر (١٩٤٩-١٩٧٩م)، د/ عبد العظيم رمضان، صـ٢٦، طبعة روزاليوسف سنة ١٩٨٢م
[٣] المواجهة المصرية الإسـرائيلية، مصدر سابق، صـ٣٧
[٤] المواجهة المصرية الإسـرائيلية، مصدر سابق، صـ٤٠
[٥] في جنازة المقاطعة العربية لإسـرائيل، شفيق أحمد علي، صـ١٣٥، مركز الحضارة العربية، الطبعة الثانية سنة ١٩٩٨م
[٦] في جنازة المقاطعة العربية لإسـرائيل، مصدر سابق، صـ١٤٠
[٧] في جنازة المقاطعة العربية لإسـرائيل، مصدر سابق، صـ١٤٢
[٨] في جنازة المقاطعة العربية لإسـرائيل، مصدر سابق، صـ١٣٧
[٩] من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية، عبد الوهاب المسيري، صـ١١٨، نقلا عن جريدة هآرتس بتاريخ ٢٠٠٢/٣/٣م..
[١٠] من الانتفاضة إلى حرب التحرير الفلسطينية، صـ١٥٦
[١١] قاطعوهم ما استطعتم، فهمي هويدي، جريدة الشرق الأوسط، العدد ٨٠٤٩، بتاريخ الثلاثاء ١٢ ديسمبر ٢٠٠٠م.
[١٢] فتاوى معاصرة، الدكتور يوسف القرضاوي، جـ٣صـ٥١٤، طبعة المكتب الإسلامي، بيروت ١٤٢٤هـ/٢٠٠٣م
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق