الحُباب... وأدب النقاش
خرجَ رسولُ الله - صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم - من المدينة المنورة ومعه ثلةٌ من الأولين إلى آبار بدرٍ، بعد أن علِم عليه الصلاة والسلام، بقافلةٍ لتجارة قريش يقودها أبوسفيان قبل إسلامه، حيث إن طريق القافلة العائد من الشام إلى مكة كان يمر بالآبار.
بإرادةٍ من الله عز وجل، اكتشف أبوسفيان بترصد المسلمين وتتبعهم لقوافل قريش التجارية، فاستنفرت قريش لتدرك أموالها وتجارتها، بينما آثر أبوسفيان الاتجاه غرباً مُبتعداً عن «بدر» للنجاة بالقافلة التي تحمل جل أموال قريش.
هرعت قريش إلى آبار بدر لإنقاذ قافلتها والورود إلى مصارعها، ترتدي ثوب الغرور وتجر رداء الكِبر، وكان رسول الله - صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- ومَن معه ممن خرجوا وأصل وجهتهم الظفر بالقافلة لا الحرب، بل على وجه التحديد فرض الاحترام للكيان الجديد، وهذا ما تسبّب بتخلف بعض الصادقين من صحابته، رضي الله عنهم، للمُشاركة.
وصلَ النبي، صلى الله عليه وسلم، إلى «بدر» وبين عدوتها الدنيا وعدوتها القصوى التي جاءت بكفار قريش والركب أسفل منهم ولو تواعدوا لاختلفوا في الميعاد، وعلى إثر ذلك تقدّم صحابيٌ جليلٌ قلَّ ما يُذكر بفائدةٍ عظيمةٍ وبموهبةٍ عسكريةٍ، هو الحُباب بن المنذر، رضي الله عنه، فقال مخاطباً: يا رسولَ الله، أَهذا منزلٌ أنزلك الله إياه، أم هي الحرب والخدعة والمكيدة؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: بل هي الحرب والخدعة والمكيدة.
فقال الحُباب: ما هذا بمنزل؟
فأعطى لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- خطةً حربيةً كاملةً تتضمن تغيير الموقع وردم الآبار والاستفادة من الماء وإهلاك العدو عطشاً، والأهم من هذا وذاك، عَلَّمنا أدب النقاش والكلام مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- في حال إن كان هذا وحيٌ وأمرٌ من الله فلا رفث ولا فسوق ولا جدالَ فيه، أم أمرٌ يسمح فيه بالنقاش وإبداء الرأي وإدلاء كل ذي دلوٍ بدلوه، فلمّا بدا له السماح بالرأي، قدّم ما يحمله من رأي سديد وقولٍ رشيد وأدبٍ بالكلام.
فكانت خطة الحُباب بن المنذر - رضي الله عنه - من أسباب انتصار المسلمين في «بدر».
والمتأمل لموقف الحُباب يدرك بعد فائدة المشورة وتعدد الرأي والأدب في طرحه، استفادة الإسلام من المواهب الشخصية في الفرد المسلم ومشاركة الكل بما كلّفه الله من وسعه، ناهيك عن تقدمه هو ذاته بموهبته وفكرته ليخدم بها دين الله عز وجل ويفيد بها عقيدته ودينه.
وهذا ما لو أدركنا عمق معناه وغاية منتهاه لتَيَقنّا بأن جميع ما نملكه من قدرات فردية ومواهب شخصية علينا أن نضعها لخدمة الإسلام، فالإسلام ليس بحاجة رجال الدين فقط، فكلٌ ميسرٌ لما خُلق له يعمل بما أودعه الله عز وجل فيه من طاقات حبيسة الإقدام لفعلها والحاجة لها والتجرد من العجب بها.
فكم نحتاج في زماننا هذا لاستخراج ودائع الله عز وجل، فينا واستخدامنا لمواهبنا وتوظيفها في طاعة الله عز وجل، في شتى مجالات الحياة العلمية والدينية والدنيوية لوجود مجتمع متكامل مبدع.
فاقدم وفّقك الله بما تظنك ميسّرٌ لما خُلِقت له وأكمل البُنيان المرصوص لعلّنا نلقى الله عز وجل، يوم الحساب ونحن قد قدَّمنا ما نخدم به مجتمعنا ووطننا. فقليل من الفعل يعطي كثيراً من الأثر واللهُ يضاعفُ لمن يشاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق