هل صارت غزة “أيقونة” أحرار العالم؟
من جامعة “كولومبيا” إلى جامعة “جنوب كاليفورنيا”، ف”مينيسوتا” و”هارفارد” و”تكساس”، وغيرها من جامعات أمريكا المرموقة؛ تهب رياح محملة بالبشريات، ومترعة بعبق التاريخ يوم كان الثوار في أنحاء العالم الغربيّ يدكون حصون الاستبداد وقلاع الكهانة معًا؛ معلنين عن تحرُّر الإنسان، ومبشرين بعهد جديد يحقق فيه الإنسان ذاته، وينال حريته، ويتمتع بحقوقه، فهل هذا الذي يجري مقدمةٌ لإعادة إنتاج الثورة التي طوتها – بأذرع ناعمة متأنية – ثورةٌ مضادة تولت كبرها الصهيونية العالمية؟ هل تُولد الثورة من جديد بعد أن عاد الاستبداد وبرُفقتِه الكهانةُ يتبادلان المنافع، ويبدوان في حلل جديدة مزيفة؟ وهل سيسجل التاريخ أنّ غزة مفجرة الثورة الإنسانية الجديدة؟ وهل سيكون الإسلام فيها حاديًا ومرشدًا؟
عود الثقاب وخزان الغضب
والذي يتابع الأوضاعَ في الغرب والثورةَ المشتعلةَ هناك في أروقة الفكر؛ يتأكد له أنّ أحداث غزّة ليست سوى عود ثقابٍ دنا من خزانِ غضبٍ شديدِ الاشتعال، لكنّ طبيعة الشعوب أنّها صبورة حمَّالة، تختزن الغضب ثم تخرجه في لحظة واحدة كدفقات البركان الذي لا يرسل قبل انفجاره إشارة ولا نذارة، وهذا المخزون المتراكم غالبًا ما يكون ممتزجًا مختلطًا بلا عنوان، فإذا حانت لحظة الانفجار اندلعت الثورة مستبطنة كل مطالبها، فإذا استقرت وذهبت عنها سكرة الابتداء أفصحت وبينت، ثم أصَّلت وفصلت.
إنّ أحداث غزّة استدعت الشعور الإنسانيّ لدى شباب لم تتلوث فطرتهم بَعْدُ بالحسابات المدانة للكبار، واستدعت بإزائه جملًا مطولة مسهبة عن القيم الإنسانية، لم تطغَ عليها القيم المادية التي تهيمن على عقول ونفوس الصناديد الذين يحكمونهم، ولقد لامَسَتْ هذه الأحداث قلوبًا غَضّة ونفوسًا طريَّة، وعقولًا تعيش الإشراق بكل ما يحمله من معاني النقاء والسماحة، فإذا هي رواية غاية في البساطة والتلقائية والتأثير، تحكي قصة حرب فاجرة يريد مسعروها أن يغنموها بسفك الدماء البريئة؛ فكان الانفجار.
درس العنصرية الممجوج
إنّ أول ما يصدم فطرة هؤلاء الشباب ذلك المزاج العنصريّ الذي يسكن في أدمغة كثير من الأكاديميين في هذه الجامعات المرموقة، والذي يتغذى على العفن الثقافيّ الموروث، لقد فوجئ المراقبون بأن الصف الأكاديمي في الجامعات الكبرى أغلبه عنصريّ للنخاع، ورث العنصرية من أجيال ضاربة في العمق الأكاديمي، يقول “توماس باترسون”: “سابقًا أكد إدوارد إيفيريت الأستاذ بجامعة هارفارد وسفير الولايات المتحدة لدى انجلترا أنّ العرق الأنجلوسكسوني متفوق على نحو لم يسبق له مثيل ولا يدانيه أحد، واتفق معه في الرأي زملاؤه في هارفارد: جورج بيركنز مارش وهنري وادسورث لونجفيلو وجورج بانكروفت وفرنسيس بيركمان ووليام إيتش بريسكوت، حيث اعتقدوا أنّ الطابع القوميّ مسألة عرق أساسا، حيث الحرية سمة خاصة تميز الشعوب الجرمانية/الإنجلوسكسونية، وأنّ الحكمة الإلهية وجهت مسار التقدم البشري إلى الاتجاه غربًا نحو أمريكا، حيث الولايات المتحدة معنية وعاكفة على الوفاء بالخطة”، وها هم رؤساء الجامعات ينحازون للصهيونية ويضطهدون طلابهم؛ فهل يمكن أن يصمد فكر متعفن كهذا أمام تمرد الفطرة؟!
الظلم الاجتماعي والطغيان الرأسمالي
وعندما ينظر الجيل الصاعد إلى العالم الذي تحكمه الليبرالية الأمريكية فيرى أنّ 20% من سكان العالم يملكون 80% من ثرواته، و80% منهم لا يملكون سوى 20% من ثرواته، وينظر في واقعه الأمريكي القريب فيرى البون الشاسع بين دخول المدراء الذين يستعبدون الموظفين لصالح الشركات العملاقة وبين الموظفين، على النحو الذي يصوره “توماس بيكيتي” قائلا: “يتقاضى الموظف المتوسط في شركة “وولمارت” أقل من 25000$ في السنة، في حين أنّ مايكل ديوك رئيس تلك الشركة حصل على أكثر من 23 مليون دولار في 2012م، كما أنّه في 2011م حصل تيم كوك من شركة أبل 378 مليون دولار في شكل مرتب وأسهم ومزايا أخرى، حيث كان ذلك الرقم يعادل 6258 ضعف متوسط راتب الموظف في أبل، وهذا الاتجاه يوجد في كل مكان في العالم في عالم الأعمال”، عندما يرى الجيل هذا الواقع فهل يمكن أن تصبر طويلًا طاقة التقبل الإنسانية لديه؟ وهل سيغمض عينينه كثيرًا؟!
تهديدات تستجيش الثورات
فإذا وجد الجيل نفسه أمام تهيدد حقيقيّ بزوال الديمقراطية التي منحته القليل ووعدته بالكثير واليوم يوشك ألا يبقى منها القليل ولا الكثير، فبحسب “ألان تورين”: “لقد سحقت كل من الرأسماليةُ والدولةُ في اتحادهما المشبوه ذينك الفاعلين الكبيرين: التضامن الاجتماعي والديمقراطية؛ وبصورة عنيفة”، وليت الرأسمالية في نسختها الأخيرة المتحالفة مع الدولة رفعت من شأن الدولة وخففت أعباءها، وإنّما الذي حدث هو العكس تماما، فيكفي أنّ أمريكا بفضل هذا النظام آل أمرها اليوم إلى ذلك المآل الذي يصوره “نيال فرجسون” في كتابه “الصنم” قائلًا: “منذ عام 1985م تحولت الولايات المتحدة من دائن عالميّ إلى أكبر مدين في العالم … لابد من الاعتراف بأن اعتماد أمريكا على رأس المال الأجنبي يشبه التوازن على حبل مشدود على علو شاهق”، وإلى جانب ذلك يمثل أمام الجيل خطر كبير، وهو صعود وتنامي المدّ اليميني المتطرف، الذي يبشر بنهاية العالم، والذي تغلغل في أحشاء المجتمع الأمريكي واستمكن من ناصية التوجه السياسي، إلى الحدّ الذي جعل – بحسب غريس هالسل وغيرها – سبعة من رؤساء أمريكا يتحدثون بشغف عن معركة هرمجدون، تلك النبوءة التوراتية الخرافية التي تستحث الغرب على الإبادة الجماعية، بل إنّ الذي جهله مِن قبلُ الكثيرون وصاروا الآن يرونه رأي العين هو أنّ الكنيسة بفكرها القمعيّ لم تخرج أصلًا من المشهد، وهذا ما نبه إليه في وقت مبكر “كارل شميت” في كتابه “اللاهوت السياسي” قائلًا – في سياق رده على “بيترسون” – “كنيسة المسيح ليست حقًا (من) هذا العالم … لكنّها (في) هذا العالم؛ وهذا ما يعني أنّها تأخذ وتعطي حيزا”؛ وبناء عليه فإنّ ضمير الجيل لابد أن يردد خلف “آلان تورين”: “نحن لم نعد نريد ديمقراطية مساهمة، ولا يسعنا أن نكتفي بديمقراطية مداولة، إنّنا بحاجة إلى ديمقراطية تحرير”.
القرآن في الانتظار
وحدَهُ القرآنُ القادرُ على أن يشبع نهم هذا الجيل للحرية الحقيقية وللإنسانية الصحيحة وللعدل المطلق، وإنّ البشرية لعلى موعد مع كتاب الله، وإنّه لمتحقق عاجلًا في هذه الجولة أو قريبًا في جولة لاحقة، والله غالب على أمره.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق