الاستيطان والتوسّع يُجسّدان الدورة الدموية للصهيونية
الاستيطان والتوسّع يُجسّدان الدورة الدموية للصهيونية
تقرير إعداد
سمير يوسف
رئيس منظمة “إعلاميون حول العالم”
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ
منذ ارتكبت الخطيئة الكبرى في اتفاق أوسلو بتوقيعه من دون اشتراط وقف الاستيطان، تصاعد عدد المستوطنين المستعمرين في الضفة الغربية، بما فيها القدس، من حوالي 122 الفاً إلى ما يزيد عن 750 ألفاً، ليصبحوا قوة سياسية مقررة، لها خمسة عشر عضواً في الكنيست الإسرائيلي، وعدة وزراء أبرزهم الإرهابيان سموتريتش وبن غفير اللذان يتشاركان في التحكم بما يجري في الضفة الغربية بما في ذلك أخطر وأكبر تسريع في عمليات التوسع الاستيطاني، وتخصيص موارد مالية دون حدود لدعمها، والسيطرة على أجهزة الشرطة وحرس الحدود، والسجون التي يزج الأسرى الفلسطينيون فيها، بالإضافة إلى توفير حماية الجيش وكل أجهزة الأمن لحماية المستعمرين المستوطنين، وتسليحهم ومساندة اعتداءاتهم على الفلسطينيين.
ولعل أخطر الظواهر على الاطلاق هو ما تقوم به عصابات المستوطنين المسلحة الإرهابية من اعتداءات مخططة ومنهجية على سكان الضفة الغربية، بغرض طردهم من مناطق سكنهم وتدمير زراعتهم ومعيشتهم، لتسهيل استيلاء المستعمرات الاستيطانية عليها.
هذه العصابات الإرهابية، بمن فيها من يسمون “فتيان التلال” تمثل تكراراً، أكثر فاشية ووحشية، لعصابات الإرهاب الصهيونية مثل الإرغون وأيتسل والهاغاناه التي استخدمت في عامي 1947 و 1948 لتنفيذ التطهير العرقي ضد الفلسطينيين الذي شمل إزالة 520 بلدة وقرية فلسطينية من الوجود وارتكاب 52 مجزرة وحشية مثل مجزرة دير ياسين والطنطورة، وتهجير حوالي 70% من سكان فلسطين.
أوّلًا، في عام 1938، قال ديفيد بن غوريون: “هذه ليست سوى مرحلة في تحقيق الصهيونيّة، ويجب أن تُمهَّد الطريق لتوسُّعنا في جميع أنحاء البلاد، من خلال اتّفاق يهوديّ عربيّ، ومع ذلك يجب على الدولة فرض النظام والأمن، ولن تفعل ذلك عن طريق الوعظ والأخلاق، ولكن بالبنادق الآليّة الّتي سنحتاج إليها”.
أدّت مثل هذه القناعات الراسخة إلى حرب عام 1956 واحتلال سيناء، إضافة إلى حرب عام 1967 الّتي كانت نصرًا إسرائيليًا غير متوقّعًا للعرب واليهود، وتباعًا لهذا الأمر؛ عملت الحكومة الإسرائيليّة آنذاك على السيطرة على معظم المناطق المحيطة بحائط البراق، ومُنِح السكّان الفلسطينيّون بضع ساعات لمغادرة منازلهم، بنظام كولونياليّ يتحدّى «اتّفاقيّات جنيف»، وقرارات «الأمم المتّحدة»، وحقوق الإنسان في ما يخصّ طرد الفلسطينيّين. منذ ذلك الحين، أقامت إسرائيل شبكة ضخمة من المستوطنات غير القانونيّة، تغطّي الأراضي الفلسطينيّة بأكثر من 750 ألف مستوطن يهوديّ، وشبكة طرق تخترق الفلسطينيّين وتُبعدهم. كما سيطرت على جميع الموارد، وحرمت الفلسطينيّين من المياه والكهرباء، وسيطرت على إمدادات الغذاء والأدوية، إضافة إلى تشييد أكبر جدار فاصل في العصر الحديث، وهو جدار فصل الفلسطينيّين عن بعضهم بعضًا، وعزلهم عن أراضيهم.
هذه الخطّة طويلة المدى وُضِعت في عام 1963، وكشفها إيلان بابيه، إذ اعتُبرت المستوطنات امتدادًا للجيش الإسرائيليّ، وكان هناك ثلاثة أهداف للجيش من خلال المستوطنات، أوّلًا: تحويل مصادرة الأراضي إلى واقع ملموس، ثانيًا: كانت المستوطنات عبارة عن جهاز مدنيّ لمراقبة السكّان الفلسطينيّين وضبطهم، ثالثًا: شكّلت المستوطنات خطّ دفاع إسرائيل ضدّ الأعداء الخارجيّين، ونُشِرت لمساعدة الجيش على حراسة الحدود، وتأمين الطرق، وضمان الاتّصالات الداخليّة. ومن السذاجة تجاهل عمليّة تسليح المستوطنين من قِبَل الجيش الإسرائيليّ وقوّات حرس الحدود، وهي العمليّة الّتي يمكن تسميتها بـ ’تجييش المدنيّ‘ وبناء ’الأمّة العسكريّة‘.
ثانيًا، استخدام العنف وقوّة السلاح أمر غير قابل للتفاوض في السياسة الإسرائيليّة، إذ تعلّم الحركة الصهيونيّة درسًا مهمًّا أثناء الاستعمار البريطانيّ، وهو أن تتمكّن من إنتاج السلاح وصناعة هويّتها الدولاتيّة أمام الجميع؛ لتفرض من خلال هذا الأمر سيطرتها أوّلًا على الفلسطينيّين، وثانيًا على الحدود لحماية نفسها، وثالثًا من الإقليم المعادي المجاور. مع وصول دفعات جديدة من المهاجرين في عام 1933، أوجد الصهاينة المدن، ووجد العمّال الّذين يعملون في الزراعة، أعمالًا في آلاف المصانع الجديدة الّتي بناها المستوطنون اليهود، وكانت طبيعة اتّفاقيّة «هافارا» الّتي وقّعتها المنظّمات الصهيونيّة مع السلطات النازيّة في برلين، تعني أنّ السبيل الوحيد لليهود الألمان لجلب معظم رؤوس أموالهم معهم، هو استيرادها كسلع صناعيّة ألمانيّة. لكنّ المفارقة أنّ إنتاج الأسلحة والذخائر كان العامل الحاسم في ضمان انتصار اليهود في حرب 1948، فضلًا على التفوّق في أنظمة القيادة والإمدادات الحديثة. لكنّ الشروع في سياسة إنتاج الأسلحة الحديثة لم يصل حتّى عام 1953، عندما أُعيد تصوّر الجيش الإسرائيليّ قوّةً عسكريّة هجوميّة سريعة الحركة. في تلك المرحلة، قرّر بن غوريون الاستثمار بكثافة في بناء صناعات إنتاج الأسلحة.
هذا يؤدّي بإسرائيل إلى تلبية بعض الاحتياجات الأساسيّة للمجتمع والاقتصاد الإسرائيليّ، من خلال التخصّص في السلاح والأمن، والعمل معًا لجعله قلب النظام الاجتماعيّ، الّذي لا يمكن استبداله بسهولة. فالمنطق التاريخيّ كان الخوف من البطالة، الّتي تسبّبت في هجرة اليهود إلى دول أخرى ذات اقتصادات أكبر، من خلال توظيف المهارات الّتي طُوِّرت في صناعات الأسلحة الناشئة. إذ يمكن لإسرائيل دعم قاعدة صناعيّة وتطويرها، توفّر العمالة الكاملة وتزوّد الجيش الاستعماريّ الإسرائيليّ، وتخفّض النفقات العامّة المخصّصة لإنتاج الأسلحة. إضافة إلى استخدام صناعة الأسلحة وتوريدها بوصفها أداةً للدبلوماسيّة الإسرائيليّة، والتأثير السياسيّ الموجَّه نحو حشد الدعم السياسيّ في «الأمم المتّحدة»، وعلى الساحة الدوليّة.
نحو السيطرة المطلقة
تختلف السيطرة على السكّان المدنيّين تحت الاستعمار عن خوض المعارك ضدّ الجيوش النظاميّة. ولذلك كان ثمّة حاجة إلى استثمارات ضخمة لبناء نظام جديد للسيطرة؛ فبُنِيت عشرات المستوطنات ومعسكرات الجيش على مدى عقود، في جميع أنحاء الأراضي الفلسطينيّة المحتلّة، وكذلك في سيناء، ومرتفعات الجولان الّتي ضُمَّت بشكل غير قانونيّ في عام 1981، دون أيّ ردّ فعل ملحوظ من المجتمع الدوليّ. وسرعان ما بنى الجيش نظامًا يجمع بين ميّزات كُيِّفت لخدمة رؤيتها في بناء أمّة وتطهير أخرى.
أُنْشِئت شبكة واسعة من المخبرين والوكلاء والمحرّضين لجمع المعلومات. شُيِّدت سجون ضخمة جديدة لاستيعاب أكثر من 10000 سجين، وفي ذروة هذا الصراع، زاد عددهم على ضعف هذا العدد. احتُجِز – ولا يزال يُحْتجَز – العديد من السجناء الفلسطينيّين دون تهمة أو اتّباع الإجراءات القانونيّة الواجبة بصفتهم محتجَزين إداريّين، ويمكن تمديد احتجازهم إلى أجل غير مسمّى، دون حقّ الاستئناف أو حتّى معرفة التهم. بُنِيت شبكة متطوّرة من نقاط التفتيش المترابطة والمحوسبة، وحواجز الطرق، وآليّات المراقبة الإلكترونيّة، والأسوار، وغيرها من الوسائل للحدّ من حرّيّة السكّان، والتأكّد من تعقّب كلّ فلسطينيّ بشكل مستمرّ.
الاستيطان والتوسّع يُجسّدان الدورة الدموية للصهيونية، إذا توقّفا انهار المشروع، كما يؤشّر تاريخ هذه الأيديولوجية منذ وُلدت في أواخر القرن التاسع عشر. إنهما يتّخذان أشكالاً يتسّع طيفها، من المباشرة الفجّة إلى المواربة الناعمة. السُذّج من المطبّعين العرب، من الخليج إلى المحيط، “يطيشون” على سطح شعارات النمط الموارب والناعم من التوسّع، مثل التعايش الديني والتعاون التجاري، وغير ذلك.
كلامٌ رخوٌ يبيعهم إياه حاخاماتٌ ورجالُ أعمالٍ و”فنّانون” يأتون باسمين إلى بلادنا في أيديهم جوازات سفر أميركية وغربية، وفي قلوبهم إسرائيل والصهيونية.
المرحلة الأوّلية في نعومة الكلام التعايشي والمشروعات التعاونية “البريئة” تُؤسّس لمرحلة التوحّش والسيطرة اللاحقة. هذا ديدن الكولونيالية وتاريخها حيثما كانت، وأنّى تسرطنت. والصهيونية مشروع كولونيالي توسّعي في الجوهر، توسّعي كما عرّفها تيودور هرتزل (1904)، ونسخ عنه التعريف ذاته قادتها المتتابعون إلى زمننا هذا. وفي الوقت ذاته، هي مشروع طفيلي كولونيالي كما عَرَفَها العالم، إذ اعتاشت في كنف عفن المشروعات الاستعمارية الأوروبية الكبرى. في الزمن الحالي تتوسع نحو الجوار، ثم جوار الجوار، نحو الأردن، وسورية، ولبنان ومصر، ثم العراق والخليج، والسودان والمغرب العربي.
نعومة التسلّل الأولي، ثمّ خشونة السيطرة اللاحقة
نعومة التسلّل الأولي، ثمّ خشونة السيطرة اللاحقة، هي درس التاريخ الذي لا يريد عرب التطبيع قراءته وهضمه. تجارب الاستعمار الأوروبي في أفريقيا غنيّة بدروس غنيّة وبشعة، منها درس “النعومة أولاً، الاحتلال ثانياً”، يُكرّره أفارقة اليوم بمرارة ويصفعون بسببه، تخيّلاً، وجوه أجدادهم السُّذج. يقول الدرس ما يلي: مراحل الاستعمار والاحتلال الأبيض للقارّة السمراء شهدت ثلاث حِقَب. تأتي أولاً البعثات الدينية، يتبعها رجال الأعمال، ثم تجيء سفن الحرب. الدين و”البزنس” الناعمان يقومان بتهيئة الأرض وطمأنة أهل البلاد الأصليين إزاء الوافدين الأجانب.
رجل الدين ورجل الأعمال يجلبان الإيمان البريء والتجارة النافعة، إلى جانب أدوية ومخترعات تخدم الناس وتساعدهم على التقدّم، تماماً كما وعود اليوم الإسرائيلية للدول المُطَبّعة بأنّها ستتبادل مع تلك الدول الخبرات والعلوم، بل ستتحالف معها ضد أعدائها .
يقع كثير من الناس في شرك المرحلة الناعمة من التوسّع، ويصير بعضهم مدافعين عن المُستعمِر، يبسطون مرافعاتهم بحناجر قوية. هؤلاء همّ أرذل طبقة في أي مجتمع، سواء أكان تحالفهم مع المُستعمِر عن دراية أم عن غباء. من دونهم، وكما تشير الخبرة التاريخية في أغلب حالات الاستعمار والاحتلال، ما كان لغالبية تلك التجارب أن تنجح.
أضعفت الأنظمة العربية الرسمية كلّ أيديولوجيات الممانعة خشيةً على مواقعها وكراسى الحكم فيها، وتسبب هذا في سيطرة ثقافة فردية تافهة وهشّة يسهل التلاعب بها من الخارج وعلى وجه التحديد الولايات المتحدة الأمريكية وحليفتها بريطانيا سبب النكبة والعالم أصبح أكثر ذكاءا .
مع سيطرة الصهيونية الدينية على السياسة والمجتمع في إسرائيل، ضُخّت دفقاتٌ جديدةٌ في دورة الاستيطان والتوسّع الصهيوني.
ما نراه الآن في الضفّة الغربية من سعار وفاشيّة لا تُوصف من المستوطنين ضدّ القرى الفلسطينية يؤشّر إلى الاندفاعة المجنونة لهذا الاستيطان.
في سنوات ليست بعيدة، كان المستوطنون في الضفة الغربية يخشون على حياتهم ويُغلّف كثيراً منهم الشعور بالسرقة والخوف من أهل البلاد الأصليين. الآن، انقلب الحال في ظلّ العقود الطوال العجاف من “أوسلو” (1993)، وتزايد وتائر الاستيطان والمستوطنين، فتقترب أعدادهم من مليون مستوطن في الضفّة والقدس. هؤلاء المستوطنون الذين يسيطر ممثّلوهم على الحكومة والكنيست والتعليم، وكلّ المفاصل الحيوية في الدولة، تتسع شهيتهم إلى ما وراء “الحدود”. يستخدمون خرائط توراتية تقول إنّ شرق نهر الأردن والجولان، وقسماً من لبنان (إلى نهر الليطاني)، هي أجزاء من “إسرائيل الكبرى”، التي تمتدّ جنوباً لتضمّ شمال الجزيرة العربية وصولاً إلى المدينة المنوّرة ومكة. كثيرون سيقولون الآن إنّ هذا ضرب من الخيال والتخويف غير العقلاني، فقد تغيّر العالم، وما كان ممكناً بالأمس لم يعد وارداً اليوم. كثير من هذه المقولات، وربّما حرفياً، كرّرها فلسطينيون وعثمانيون كثر، قادة رسميون، وأبناء الناس العاديين، عندما كان بعضهم يحذّر من الأطماع الصهيونية في أوائل القرن العشرين في فلسطين والمنطقة. من هو المجنون الذي قد يقتنع بترّهات بعض الصهاينة التي تنادي بدولة يهودية في فلسطين في وقت كانت فيه الإمبراطورية العثمانية تحمي بلاد الشام وتسيطر عليها كلّها، وفيالق جيوشها تمتدّ إلى قلب أوروبا؟ مع ذلك، فإنّ تلك الترّهات حدثت وصارت هي الواقع، وكلّ من استخف بها ضرب رأسه بالحائط بعدما سقطت فلسطين في أيدي البريطانيين، وبدأ المشروع يتحقق على الأرض. سُذّج اليوم الذين يصفون كلّ تحذير من إسرائيل والصهيونية بأنّه ترّهات، سوف يشتمهم أحفادهم في المستقبل إن لم يصبّوا اللعنة عليهم.
الاستيطان والتوسّع كالنار التي لا تشبع
الاستيطان والتوسّع كالنار التي لا تشبع، تأكل ذاتها إن لم تجدْ ما تأكله، لهذا نسمع الآن عن شهوة هذا الاستيطان للعودة إلى قطاع غزّة. أين ينتقل هذا التوسّع بعد السيطرة على الضفّة الغربية وإلى أين يتوجه؟ الجوار العربي كلّه مُهدد بالتوسّع التوراتي، اليوم وغداً من دون استثناء، وصولاً إلى الخليج؛ الهدف الغالي للتوسّع الصهيوني. في اللحظة الراهنة نقف في وجه أكثر تمثّلات الصهيونية وحشية وعنجهية واستعلاء، في وقت تسود فيه الرخاوة والضعف في المنطقة العربية، ومقادير لا يُستهان بها من الاستهبال والاستهانة بهذه التمثّلات، من الدار البيضاء إلى أبوظبي والرياض. أضعفت الأنظمة العربية الرسمية كلّ أيديولوجيات الممانعة: القومية واليسارية والإسلامية، خشيةً على مواقعها، وتسبب هذا الإضعاف الدائم في سيطرة ثقافة فردية تافهة وهشّة يسهل التلاعب بها من الخارج. ويأتي خطاب التطبيع واحداً من أوجه هذا التلاعب، والذي تديره من وراء الستار الأنظمة ذاتها لتكوين قاعدة شعبية لخياراتها الاستسلامية. تعتقد هذه الأنظمة، وببلاهة، أنّها تتشاطر على الآخرين عبر تجييش ذباب إلكتروني هدفه الحطّ من القضايا الكبرى، وفي مقدّمتها فلسطين، تحت لافتة المصلحة القُطْرِيّة لهذا البلد أو ذاك. ويتموضع التطبيع مع إسرائيل في قلب هذه المصلحة، وكأنّ هذه البلدان التي لا ينقصها مصادر قوّة لن تحافظ على ذاتها إلا من خلال التحاقها بالمشروع الصهيوني، وقبول قيادته الإقليمية.
أليس مريباً أن تتشكّل هيئات للحفاظ على “التراث اليهودي” في الجزيرة العربية التي أزيلت منها أماكن إسلامية بدعوى شبهة التوسّل بها وتقديسها؟
في البلدان المُستهدفة تطبيعياً، رجل الدين ورجل “البزنس” الصهيونى هو الذي يقود الآن مرحلة التوسّع الناعم، تمهيداً للتوسّع الخشن القادم. الأول اخْتَرَعَ الديانة الإبراهيمية التي تبنتها بعض الأنظمة ببلادة تتغطّى بشعارات التسامح والتعايش، والثاني انطلق في مشروعات وشراكات لا تُحصى في البلدان العربية. سيستمرّ هذا التوسّع الناعم في السنوات المقبلة ويخلق مؤيّدين أغبياءَ له، وطبقات طفيلية منتفعة منه مادياً وتجارياً. وعندما تَصْلُبُ القواعدُ الناعمةُ يكون وقت طويل قد فات، ومفاصل أساسية سقطت في مصيدة التوسّع.
المهزلة الكبرى أنّ لا أحد يستفيد من دروس التاريخ الحديث المفتوحة على مصراعيها برسم الاستفادة. مرّة أخرى، في بدايات الاستيطان الصهيونى في فلسطين كانت التجمعات الصهيونية الأوروبية ناعمة وزراعية، بل تتعاون مع أهل البلاد الأصليين. لم يَرَ “التسامح والتعايش” العثمانيين في تلك التجمّعات كما رآهما أهل فلسطين، أي خطراً مستقبلياً.
صارت لتلك التجمّعات أحياء خاصة وكُنس، ثمّ أنظمة مالية خاصة وبنوك وصناعات، كانت تبني ذاتها بهدوء. لم يكن في الأفق أيّ مؤشرات لمستقبل سياسي أو سيطرة يمكن أن تؤول إليها تلك التجمّعات. كلّ ما كانت تقوم به هو العمل الناعم والدؤوب وتهيئة الأرض انتظاراً لتغيّر ما في الجيوستراتيجيا يوفّر اللحظة التي يتم فيها الانقلاب والتحوّل نحو الوجه الخشن من المشروع. النسخة الحديثة لذلك الفصل المرير نراها الآن في المشروعات الدينية والثقافية الصهيونية والمشتركة، التي تتأسّس في الخليج، خاصّة في الإمارات والسعودية والمغرب، وكذا في المشروعات التجارية والخبراتية التي تُسمّى مُتبادلة، فيما هي ذات اتجاه واحد. أليس من المريب حقّاً أن تتشكّل هيئات وجمعيات للحفاظ على “التراث والتاريخ اليهوديين” وأماكنهما في الجزيرة العربية؟ بما فيها حصون خبير وبني قريظة، في الوقت الذي أزيلت فيه عن وجه الأرض الأماكن الإسلامية بدعوى شبهة التوسّل بها وتقديسها؟ هذه صرخة تحذير أكثر منها تسجيل لإدانة قبل أن يفوت الأوان.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق