الأمريكان يصنعون الصنم ويعبدونه
الولايات المتحدة بلد ديمقراطي، ويتمتع مواطنوه بالكثير من الحقوق، ولكنها كديمقراطية إسرائيل.. الحريات كافة لنا، وليذهب الآخرون إلى الجحيم!
لكن ما نجحت فيه الحكومات الأمريكية المتعاقبة، بالتحالف مع الشركات العملاقة، هو أنها استغلت وسائل الإعلام لترويض وتدجين – بل وتغييب- وعي الشعب، ونجحت الآلة الإعلامية الأمريكية الضخمة في تصدير الثقافة الأمريكية إلى مختلف أرجاء العالم، ثم جاء الإنترنت ووضع كنوزا هائلة من المعلومات في جراب الحاوي الأمريكي، وصارت اللغة الإنجليزية هي لغة المعلومات الأولى، ونسي الناس أو كادوا أن تلك اللغة تخص أصلا أهل إنجلترا.
ويتحدث كثيرون عن أن الصين ستزيح الولايات المتحدة من صدارة المشهد العسكري والاقتصادي في العالم خلال عقود قليلة؛ وصحيح أن الصين بصدد التحول إلى عملاق اقتصادي، ولكنه صحيح أيضا أن التحول المرتقب ينجم عن أنها صارت قوة استعمارية ناعمة، تنهش لحوم شعوب الدول الأفريقية وتنهب ثرواتها، بشراء ذمم الحكام الفاسدين، وبالأساليب نفسها المستخدمة من صندوق النقد والبنك الدوليين الخاضعين للولايات المتحدة: تقديم قروض ضخمة وسخية في ظاهرها، ولكنها مقرونة بشروط تعجيزية؛ وحين يأتي وقت السداد، ولا سداد، يبدأ إملاء الشروط ووضع اليد على موارد ضخمة تجرد البلد المدين من فرص استشراف المستقبل.
ولكن الصين محكومة بنظام “اشتمالي” قمعي باطش، والاشتمالية مصطلح سككته وأحوز حق امتلاكه “فكريا”، وصفا لكل نظام حُكم يجمع بين الاشتراكية والرأسمالية في إطار شمولي.. والحزب الشيوعي الحاكم في الصين لقرابة ثمانين سنة يمثل أقلية، والتنور الصيني يفور بين الحين والآخر رافضا هذا الشكل أو ذاك من أشكال الحكم، وخلال الأعوام القليلة الماضية أظهرت شرائح واسعة من الشعب الصيني رفضها النهج القمعي لفرض إجراءات لتطويق موجة جديدة من الكورونا، فانحنت الحكومة للعاصفة، ولكن الصين مرشحة لزلازل شعبية بعيدة الأثر، تفقد عندها قوة اندفاعها الاقتصادية والعسكرية، وقد تصبح عندها نمرا من ورق.
بصفة عامة، هناك هوس وبائي في الولايات المتحدة بـ”المشاهير”، ولهذا فهم أكثر شعوب الأرض صنعا للتماثيل، وتوزيع هالات من التقديس على “اللي يسوى واللي ما يسوى”؛ فهناك ملايين الأمريكان – مثلا- مقتنعون بأن المغني إلفيس بريسلي حي يسعى، بل يقول بعضهم إن الرجل سيعاود الظهور ليملأ الأرض رقصا وموسيقا، بينما حقيقة الأمر أن الرجل شبع موتا منذ أغسطس من عام 1977. وفي كل مدينة أمريكية هناك عشرات النصب والتماثيل لأشخاص يقال إنهم صنعوا تاريخ البلاد، وتركوا بصمات هنا وهناك، بينما عمر أقدمها لا يزيد على مئتي سنة؛ ذلك أن عقدة الأمريكان المعاصرين هي أنهم – وفي عقولهم الواعية- يدركون أنهم بلا تاريخ، بعد أن تبرؤوا من التاريخ الذي صنعه سكان البلاد الأصليين عبر القرون، ومن ثم فإنهم ينظرون إلى المطربين، من أمثال الكاسية العارية مادونا – مثلا- ومعها مايكل جاكسون وغيرهما، على أنهم أيقونات العصر.
وبالمقابل، فان 25% من الأمريكان اليوم لا يعرفون من هي كمالا هاريس (نائبة الرئيس)، ولكن أكثر من 95% منهم يعرفون الكثير المثير عن عائلة كارداشيان، لدرجة أن مجلتَي فوغ وإنسايدر تقولان عن تلك العائلة إنها الأكثر نفوذا في العالم، بينما كل ما هناك هو أن نساء تلك العائلة ظللن يظهرن طوال 14 سنة في البرامج المسماة تلفزيون الواقع، وهن يعرضن تضاريس أجسادهن، ويتناولن النبيذ ويقمن الحفلات في بيوت فخمة البناء والأثاث. وهناك اليوم ثلاث قنوات تلفزيونية هي أكسيس هوليود، وتي أم زي، وإنترتينمنت تونايت، متخصصة فقط في سير المشاهير: ماذا يأكلون ويشربون؟ وأين يسكنون وينامون ويتناسلون؟ بينما هناك 1884 محطة تلفزة أخرى ومعها 12600 محطة إذاعية تلهث وراء المشاهير، أو تصنع مشاهير خاصين بها في الولايات التي تنطلق منها، لدرجة أن الطب النفسي في أمريكا يقول إن ربع الشعب الأمريكي يعاني من متلازمة عبادة المشاهير Celebrity Worship Syndrome CWS.
ثم جاء عصر تويتر وإنستغرام وفيسبوك، وصارت متابعة نجوم الطرب والرياضة والتمثيل ضربا من العبادة في الولايات المتحدة، والغالبية تتوهم أن ذلك يجعلها في حال علاقة حقيقية مع هذا أو تلك من النجوم؛ وقبل حين من الزمان دفعت مجلة فاراياتي أكثر من أربعة ملايين دولار نظير الفوز بحق التقاط صورة لمولود لنجمة تلفزيونية، وعاد العدد الذي تم فيه نشر تلك الصورة على المجلة بأكثر من 24 مليون دولار، بعد تهافت الشركات على نشر إعلانات في ذلك العدد “المميز”.. ومن يريد لسلعة رواجا في الولايات المتحدة يقرنها بشخصية مشهورة عند الإعلان عنها، بل إن “النجوم” تايلر سويفت، وجنيفر لوبيز، وهالي بيري، وجاستن بيبر، ومادونا، وشانيا توين، جمعوا المليارات من عطور تحمل أسماءهم، بينما هي أقل نفاذا من عطور فرنسية من الدرجة الثانية؛ أما إذا قالت مقدمة البرامج الأمريكية المشهورة أوبرا وينفري إن كتابا ما يستحق القراءة، فإنه يتصدر قائمة الكتب الأكثر مبيعا في جريدة نيويورك تايمز خلال أسابيع، ويعتبر جمهور الكتب تلك الجريدة المرجع الثقافي، الذي لا يأتيه الباطل من قُبُل أو دُبُر.
ما يقلق التربويين والأطباء النفسانيين الأمريكان، هو أن عبادة المشاهير جعلت الملايين من الشباب ميالين إلى الأمور المادية والإنفاق البذخي، بحسبان أنهم بذلك يجارون معبوديهم، كما جردت ذلك الجيل من الطموح المهني لأنه يريد أن يقتدي بهذا المطرب أو هذه الممثلة، أو بذاك اللاعب الذي حقق المجد والشهرة وامتلك الملايين، ولا يُنظر إلى المحاسبين والمديرين الذين يبنون ويحرسون تلك الأمجاد والثروات.
هذا عين ما تريده الحكومات الأمريكية؛ أن ينصرف الشعب أو غالبه إلى عبادة أصنام هوليود والملاعب، وينصرف أهل الحكم إلى دعم شركات إنتاج السلاح بإشعال الحروب هنا وهناك، ثم يعود الجنود الأمريكان من أفغانستان والعراق وغيرهما ويتم استقبالهم بالكثير من الهيلمان “لأنهم يدافعون عنا وعن حريتنا وعن حقنا في العيش في سلام”، دون أن يتوقف عامة الشعب للتساؤل: وكيف هددت حريتنا وسلامتنا شعوبٌ تفصلنا عنها عشرات الآلاف من الأميال؟
والأمريكان يصنعون تلك الأصنام، ثم يتبجحون بأنهم أكثر شعوب الغرب تديُّنا، ولكنه أيضا كتديُّن الإسرائيليين: اهتمام بقشور التدين ومظاهره الخارجية، ثم إتيان كل ما ينهى عنه الدين؛ أي إنه – مثلا- دين غولدا مائير، أشهر رؤساء الحكومات الإسرائيلية، وموشيه دايان، أشهر وزير دفاع إسرائيلي، وقد كانا ملحدين ومع هذا يقولان إن إسرائيل هي أرض الميعاد التي وعد اللهُ بها قومَ موسى!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق