تعرض تتار القرم لعدد من المآسي على مر التاريخ على يد روسيا في عصورها الثلاثة؛ القيصرية، والسوفيتية، والبوتينية. فهي مأساة قرابة الثلاثمائة سنة. فما هي قصة تتار القرم ؟ وما هي مأساتهم ؟ وكيف كانوا ؟ وإلى ما صاروا ؟
في عالم ما بعد الحداثة تمخضت إنسانية السيد الأبيض بثقافته الأنجلوسكوسونية عن ثنائية مقيتة من زمان الحروب الصليبية، ثنائية التميز السلبي الديني والعرقي للإنسان بين مسلم وغير مسلم، حقوق تختلف باختلاف النوع، فتنتفض وتستنفر كل أدواتها عندما تُمسُ شعرة في جنب أبيض غير مسلم، في حين أن ذات الإنسانية بأدواتها ووسائطها الكثيرة يصيبها العطب، فتصير لا تسمع ولا ترى ولا تتكلم عندما يكون المنحور مسلماً، فقتل أو إهانة واحد أبيض غير مسلم جريمة لا تغتفر، وقتل وتشريد واضطهاد ملايين المسلمين مسألة فيها نظر.
والميديا الجبارة المتحكمة في الفضاء الثقافي والمعلوماتي للبشرية اليوم لا تكف عن تزييف التاريخ وطمس الحقائق والعبث بالوقائع لخدمة أغراضها الإمبريالية، ميديا تجعل من أهم أولوياتها تركيز الأضواء على ملفات بعينها لتكون أدوات ضغط ومساومة في عالم السياسية الدولية. مثلما هو حادث في قضية مثل قضية الأرمن وما تعرضوا لهم-جزاء خيانتهم-للدولة العثمانية، كيف تحولت هذه القضية الشائكة إلى كعب أخيل للضغط والتدخل في الشأن التركي وابتزازه بأخس وأحقر الوسائل. بحيث لا يكاد يمر عام إلا وتثار قضية أرمن الدولة العثمانية مرة أو مرتين في إصرار عجيب وتكرار مريب.
وبدأت إمبراطورة روسيا القيصرية "كاترين الثانية" في عملية "الترويس" أي صبغ بلاد القرم بالصبغة الروسية، حيث أُقيمت مستعمرة روسية جديدة تسمى "أوديسا" في سنة 1794، وكانت إعادة تسمية أوديسا جزءًا من إعادة إحياء تراث الإغريق القدماء في المناطق المحتلة |
العجيب أن هذه الإثارة والتركيز الإعلامي لقضية الأرمن يتواكب مع سلسلة مجازر واضطهادات للمسلمين في شتى بقاع الأرض، وفي قاراتها الست وبجهاتها الأربع، دون اهتمام أو مبالاة إعلامية أو سياسية في تجاهل معتمد لمعاناة المسلمين ومآسيهم. ولو كان العالم قد عرف وسمع بمجازر الصين الشيوعية بحق مسلمي الإيجور، والروهينجا في ميانمار، ومجازر الهندوس بحق مسلمي الهند، فإنما عرف وسمع لحاجة في نفس أمريكا، فإنه بالقطع لم يسمع عن مجازر واضطهادات أخرى للمسلمين، بعضها مستمر منذ عدة قرون وحتى وقتنا الحاضر، ونعني به مأساة تتار القرم التاريخية على يد روسيا في عصورها الثلاثة؛ القيصرية، والسوفيتية، والبوتينية. فهي مأساة قرابة الثلاثمائة سنة.
فما هي قصة تتار القرم ؟ وما هي مأساتهم ؟ وكيف كانوا ؟ وإلى ما صاروا ؟
بداية القصة مع بركة خان
- هلك الطاغية جنكيز خان سنة 625 ه، فانقسم المغول من بعده إلى أربعة خانات كبرى، من أبرزهم وأهمهم مغول الشمال أو مغول القبيلة الذهبية الذين امتدت مساحة دولتهم من بولندا غرباً حتى سيبريا شرقاً، ومن المحيط المتجمد شمالاً حتى أذربيجان جنوباً، ودانت لها بالطاعة والولاء ودفع الجزية شعوب كثيرة أبرزها: الشعوب الروسية والسلاف والبلغار والبولنديين والقوازق والأذربيجانيون والقوقازيون وتتار القرم.
- يعتبر السلطان بركة خان حفيد جنكيز خان أول سلطان مغولي يدخل الإسلام وذلك سنة 644 ه، وقد شكّل إسلامه وزعامته للقبيلة الذهبية تغييرا جذريا لخرائط العالم الإسلامي السياسية والإستراتيجية بعد كارثة الاكتساح المغولي، فأنقذ الوجود الإسلامي في أسيا الوسطى وخراسان كلها، ووفر كذلك رافعة معنوية لكل الدول الإسلامية التي جاءت بعده.
قيامة تتار القرم
- كان وباء الطاعون الذي حدث ابتداءً من سنة 1355، ثم الاقتتال على السلطة بمثابة بداية انحطاط القبيلة الذهبية وتفككها، وبدأت بالفعل في الانقسام إلى دويلات وخانات وأقاليم، وحقق الأمراء الروس انتصارًا بارزًا على القبيلة الذهبية عام 1380م لأول مرة من 140 سنة، ثم جاء اكتساح تيمور لنك للمنطقة ليزيد من متاعب دولة القبيلة الذهبية ويعجل من سقوطها، إذ انقسمت في أواخر القرن ال15 ميلادي لعدة خانات أصغر، منها خانية تتار القرم.
- يعود تاريخ التتار المسلمين في جزيرة القرم للعصر العباسي حيث استقرت فيها عدد من القبائل التركية التي أطلق عليها الروس لاحقاً لقب التتار. ومنذ سنة 839 ه ظهرت بقوة دولة تتار القرم ومدّت نفوذها الي المناطق المجاورة لها حتى أنها فرضت الجزية على أمراء موسكو، وهزموهم عدة مرات.
بداية الحقد الروسي
- جاء سقوط القسطنطينية بيد العثمانيين سنة 857 ه صدمة زلزت العالم القديم بأسره، ولكن أشد أصدائها كان في موسكو عاصمة الروس، إذ اعتبر الروس أنفسهم الورثة الشرعيين للدولة البيزنطية القديمة وحُماة المذهب الأرثوذكسي، ومن ثم وحّد الروس صفوفهم خلف أمير موسكو إيفان الثالث الملقب بالكبير سنة 886 ه، وأعلنوا استقلالهم عن المغول.
- دخل العثمانيون على خط المواجهة وأحسوا بخطورة الموقع الاستراتيجي لشبه جزيرة القرم وأطماع الروس فيها، فأعلن السلطان محمد الفاتح ضمها لأملاك الدولة العثمانية سنة 871 ه، وأعطى تتار القرم حكماً ذاتياً ليواصلوا أدوارهم العسكرية ضد الروس، ويمنعونهم من الوصول إلى المياه الدافئة في البحر الأسود، وبرزت أسرة " خيري " وتعرف في المراجع التاريخية ب" كراي " كأسرة حاكمة وراثية للقرم، وظلوا يهاجمون بلاد الروس ويحاولون ردع مشروعهم السياسي والديني الخطير حتى سنة 940 ه.
- بدأ الروس في التهام أملاك دولة مغول الشمال قطعة قطعة، مستغلين حالة التفرق والتشرذم، حتى ابتلعوا كل أملاك دولة مغول القبيلة الذهبية العظيمة ولم يبق لهم سوى شبه جزيرة القرم التابعة للعثمانيين الذين أصابهم الضعف مع الزمان حتى انتهى الأمر إلى توقيع معاهدة " ياسي " سنة 1206 ه/ 1792 ميلادية والتي أصبحت بلاد القرم بموجبها خاضعة للنفوذ الروسي القيصري.
قام البلاشفة بقتل كل من اشترك في الثورة ضدهم، وقاموا بإعدام قائدهم "جلبي نعمان" بإلقاء جثته بعد التمثيل بها قذفاً بالمدفع إلى عرض البحر الأسود، ثم قاموا بهدم المساجد والمدارس والمقابر الإسلامية |
" الترويس" بداية المأساة
- مع إعلان خضوع بلاد القرم للروس، بدأ الكثيرون من تتار القرم في الهجرة من بلادهم طواعية إلى بلاد الإسلام أن يحدث معهم مثلما حدث مع تتار الفولجا من اضطهاد وتنكيل وإجبار على الردّة بالتنصر، وبدأت إمبراطورة روسيا القيصرية "كاترين الثانية" في عملية "الترويس" أي صبغ بلاد القرم بالصبغة الروسية، حيث أُقيمت مستعمرة روسية جديدة تسمى "أوديسا" في سنة 1794، وكانت إعادة تسمية أوديسا جزءًا من إعادة إحياء تراث الإغريق القدماء في المناطق المحتلة، لطمس آثار الوجود الإسلامي، وإعادة تأسيس الدولة البيزنطية القديمة.
- وبحلول سنة 1810 ميلادية ، أرسلت الحكومة الروسية 10 آلاف يهودي لا يملكون أراضٍ من بيلاروسيا وليتوانيا إلى مقاطعة خيرسون الواقعة شمال شبه جزيرة القرم، والتي أعيدت تسميتها بعد احتلالها، ونتيجة الاستعمار الاستيطاني القيصري " الترويس"، أصبح في القرم عدد كبير من المستوطنين الروس والأوكرانيين والألمان واليهود. وبلغ مجموع سكان القرم في سنة 1921 حوالي 720 ألف، وانخفض عدد سكان التتار في القرم إلى الربع.
ذروة المأساة " تغريبة ستالين "
- اندلع الصراع بين القياصرة والبلاشفة، فاستغل تتار القرم الفرصة وأعلنوا استقلالهم وشكلوا حكومة خاصة بهم، فتأجج الحقد الروسي ضدهم، فلما حسم البلاشفة الشيوعيون الأمر وهُزم القياصرة، جعلوا من الهجوم على القرم أولوية لهم، فحشدوا أقوى فرقهم العسكرية وحاصروا الجزيرة من كل مكان، ومارسوا حرب تجويع بشعة ضد أهلها، ومنعوا دخول الأقوات إليهم من أوكرانيا، واشتد الجوع بالناس حتى أنه كان يموت كل يوم ثلاثمائة مسلم من الجوع، فاضطر المجاهدون للاستسلام، فقام البلاشفة بقتل كل من اشترك في الثورة ضدهم، وقاموا بإعدام قائدهم "جلبي نعمان" بإلقاء جثته بعد التمثيل بها قذفاً بالمدفع إلى عرض البحر الأسود، ثم قاموا بهدم المساجد والمدارس والمقابر الإسلامية حتى الحدائق والمزارع لم تسلم من حقدهم الصليبي رغم تظاهرهم بالشيوعية وعداء الأديان!!
- أقام الشيوعيون أحد الموالين لهم حاكماً على القرم واسمه " ولي إبراهيم " فلما اعترض على توطين المزيد من اليهود بالقرم قاموا بإعدامه وسائر أعضاء حكومته، وتلك عاقبة ونهاية خدمة أعداء الدين، وفي سنة 1925؛ وعلى الرغم من مقاومة تتار القرم، تم توطين 100 ألف يهودي، وقد ارتفع العدد إلى 250 ألف بحلول سنة 1928، حيث عاش المستوطنون اليهود في حوالي 250 مستعمرة على مساحة مليون فدان من الأرض. فما أشبه قصة تتار القرم بقصة فلسطين المحتلة !!
- وقعت الحرب العالمية الثانية وتقدمت ألمانيا واحتلت شرق روسيا، وأصبحت القرم وأوكرانيا ساحة لمعارك عنيفة بين الروس والألمان، وظن بعض قادة التتار في المهجر أن التحالف مع الألمان سينقذ بلادهم من نير الشيوعية، ولكن أحلامهم تبخرت، فالعداء الصليبي يجمع الطرفين؛ الألماني والروسي، بغض النظر عن المسميات والأحداث.
- انتهت الحرب وهُزم الألمان، وكان أول شاغل للطاغية " ستالين " هو الانتقام من مسلمي الاتحاد السوفيتي عامة وتتار القرم خاصة، فأعلن ستالين خيانة عشرة قوميات مسلمة للاتحاد السوفيتي وعمالتهم للإلمان، على رأسهم تتار القرم، وبدأت سنة 1944 ميلادية أكبر عملية تهجير وتغريب عن الديار شهدها التاريخ الحديث، بتهجير 15 مليون مسلم من ديارهم منهم 200 ألف تتاري من القرم إلى مجاهل سيبيريا للموت في معسكرات الاعتقال والعمل الشاق؛ جوعاً وبرداً ومرضاً وقهراً. وقبل التهجير قام الروس بمجازر انتقامية مروعة بحق الأهالي، فهدموا البيوت على ساكنيها،وحطموا المساجد وأحرقوا المصاحف، ولم يبق بالقرم من سكانها الأصليين؛ التتار، بعد المجازر والتغريب سوى بضعة آلاف فقط!!
- ورغم صدور قرار بعودة تتار القرم إلى بلادهم ورفع تهمة الخيانة عنهم سنة 1956، إلا إن عودتهم كانت محفوفة بالمخاطر والصعاب بسبب وجود المستوطنين الروس واليهود، وفي سنة 1954، نقل خروتشوف-الأوكراني الأصل- بشكل علني سيادة شبه جزيرة القرم من روسيا إلى أوكرانيا.
عودة القيصرية من جديد
- سقطت الشيوعية في بلد المنشأ وتفكك الاتحاد السوفيتي سنة 1991، بحلول سنة 1994 عاد ما يقرب من ربع مليون من تتار القرم إلى شبه جزيرة القرم، أي نصف سكان تتار القرم في ذلك الوقت، وقد أسس القوميون فيما بينهم مجلسًا تتاريًّا أطلق عليه اسم "المجلس"، ولكنهم عانوا من التهميش والاضطهاد والإهمال لمطالبهم الشرعية.
- بعد وصول بوتين إلى رئاسة روسيا سنة 2000 بدأت القيصرية الروسية في البعث من تحت الركام، فبوتين هو الزعيم الروسي الأكثر إيديولوجية منذ ستالين، بل أنه يقدم نفسه قيصراً روسياً تقليدياً يريد إنقاذ "الحضارة المسيحية الأصيلة" التي فرط فيها الغرب "المنحط" فكرياً وأخلاقياً لتنكره لجذوره الدينية.
- لذلك عندما قام الغرب بدعم الانقلاب على حكومة أوكرانيا الموالية للروس سنة 2014 قام الروس مباشرة بإعادة احتلال بلاد القرم وضموها نهائياً لروسيا. فلما رفض تتار القرم هذا الاحتلال وعارضوه، وتحالفوا مع أوكرانيا، أعلن بوتين عودة الحرب المقدسة مرة أخرى ضد مسلمي القرم.
- بدأت سلسلة من الاغتيالات تطال قادة التتار في القرم، كما فرضوا التجنيد الاجباري على الشباب وساقوهم إلى أرض المعركة ضد أوكرانيا، وتم إغلاق صحف التتار ومحطات الإذاعة والتلفزيون الناطقة بلغتهم، وتم حظر تعليم لغة القرم. وفي 2016، قام الروس بحظر "المجلس"، ووصفوه بأنه تنظيم خطير ومتطرف؛ واعتقلوا منذ ذلك الحين العديد من التتار، متهمين إياهم بالتعاطف مع الإرهابيين، أو بالانتماء لجماعات متطرفة.
تتار القرم الذين كانوا في القرن الثامن عشر 98 % من سكان البلاد ولهم 1558 مسجد وعشرات المدارس والمعاهد الإسلامية، واليوم وبعد سلسلة متواصلة لم تنقطع عبر القرون الثلاثة أصبحوا 12% فقط وأقل من خمسين مسجداً، كل ذلك والعالم لم يتحرك لوقف التطهير الديني والثقافي والعرقي الممنهج والمستمر لتتار القرم. ولايزال الغرب ومؤسساته التي أنشئت للدفاع عن حقوق الإنسان والشعوب يتخذ موقع المتفرج غير مبالٍ بما يحدث، فلقد تخلوا عن العدالة والإنسانية وكل شعاراتهم البراقة ، وتخلصوا معها من تتار القرم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق