قفلة المواطن العادي
(1)
يجلس الكاتب أمام ورقته أو شاشته، وهو لا يستطيع أن يكتب حرفًا واحدًا؛ لقد هربت الأفكار كلها منه، وهو الذي -على مدى عمره- كتب الكتب وحرَّر المقالات، يشعر في هذه اللحظة أنه خاوٍ تمامًا، لا قدرة له على الكتابة أو الإبداع، كل الأبواب في وجهه مغلقة، وكل الطرق أمامه مسدودة، وهو كما لو أنه أصيب بشلل تام.
هذه هي قفلة الكاتب التي نعرفها.
فما هي قفلة المواطن العادي؟
(2)
سمعت أن الشوكولاتة الداكنة تُحسِّن المزاج، فالتهمت منها ما التهمت، غير أني لم أشعر بفارق ملحوظ، ما زال المزاج غير رائق، وما زال الإلهام ممتنعًا، وما زالت صفحتي البيضاء بيضاء كما هي، فهل المشكلة في ذاتي، أم في الشوكولاتة، أم في المعلومة بحد ذاتها؟
لم أنتظر أن يجيب الأطباء، تذكَّرت أن الحلول تكون أحيانًا حولنا ولا نراها، ربما لأننا نبحث عن أمور عظيمة، بينما الحل يمكن أن يكون في أمر صغير.
وقد فعلت؛ قرَّرت أن أنجز أمرًا صغيرًا، أي مسألة كانت يجب أن أقوم بها وأرجأتها كثيرًا، فالانتصارات الصغرى تنعش القلب -أيضًا، وقد فعلت، ورويدًا رويدًا يتحسَّن المزاج.
كل مرة تطيح بي قفلة الكاتب ألجأ إلى حيلة ما، حيلة تخرجني من الضيق إلى السَّعة، أرمي بحجر في البحيرة الراكدة لتتحرك، وكل مرة أفهم الدرس جيدًا: على المرء أن يسعى إلى الإلهام، ولا ينتظر أن يأتيه الإلهام!
(3)
يعتقد الناس أن الكاتب هو ذاك الشخص الذي يجلس شاردًا، أمامه فنجان قهوته، كلما فرغ مُلئ، وفي يده سيجارته، كلما انتهت استبدلها بأخرى، ساعات طويلة تمضي، وهو هكذا، حتى يعتدل فجأة، وينطلق يكتب ويكتب دون توقُّف، فقد نزل عليه الإلهام.
صورة خيالية غير واقعية.
الإلهام يأتي الناس الذين يستيقظون مبكرًا، ويرغمون أنفسهم على الجلوس أمام طاولتهم وليس في رأسهم -ربما- أي فكرة عمَّا يمكن أن يكتبوه، ولكن كأن الأمر رسالة إلى الإلهام، نحن جندك، أَتينا طائعين، لقد تركنا أسِرَّتنا الدافئة، وها نحن نجلس في انتظارك.
الإلهام -يا سادة- لا يسقط علينا من السماء، دون جهد منَّا، وإنما علينا أن نسعى إليه سعيًا، أن نبذل الجهد، أن نطرق الأبواب كلها، أن نختبر كل السبل، الإلهام يأتي لمن أتى إليه مهرولاً.
(4)
المواطن العادي، الإنسان البسيط مثلي ومثلك، يحْدث أن يجد نفسه فجأة عالقًا في حياته، لا يعرف ماذا يفعل، أي القرارات صحيحة، وأي مسار يجب أن يتخذه، وأي اختيار يجب أن يميل إليه؟!
لقد شلَّ تفكيره تمامًا، رغم مروره بتجارب عديدة، إنها القفلة -ليست في الكتابة، ولكن- في الحياة.
نحن متخشبون، أحمالنا ومسؤولياتنا تثقل كاهلنا، نكاد لا نستطيع الحركة، ولا نُحسن التفكير، وننتظر الإلهام -أو قل: الحلول- أن يسقط علينا من السماء.
لا تبحث عن حل كامل شامل في هذه اللحظة، اعمل على إحداث ثغرة في الحصار المفروض عليك؛ لتخرج من هذه القفلة.
أنجز عملاً ولو بسيطًا، أو حل مشكلة كانت عالقة ولو هي صغيرة، افعل كما يفعل من على وشك الغرق، اضرب البحر بكل قوتك، لا تفكِّر في مسألتك العويصة الآن، أرجئ التفكير قليلاً، غيِّر الأجواء، قدِّم قربانًا إلى الحل ليأتيك، والقربان هو الفعل وليس الانتظار هائمًا.
لقد قلت لك: إن الإلهام يأتي لمن أتى إليه مهرولاً، الحل ليس في السكون والانتظار، الحل في الحركة.
(5)
شخصيًّا فعلتها عدة مرات، نظارة القراءة في يدي، وأنا أبحث عنها في كل مكان، توتري واستعجالي جعلاني لا أُحسن التفكير، ولا أعي أن نظارتي بيدي.
ثم لا ترفض ما يأتي على خاطرك؛ لأنه حل غير كامل، الحل الكامل يولد غير كاملٍ، صغيرًا ضعيفًا، ثم ننميه نحن ونكبِّره، فلا تبحث عن الكمال من أول لحظة.
الكُتَّاب يفعلون ذلك -أيضًا، تلك الروايات التي أذهلتك، لم تولد هكذا، لو تسنى لك أن تقرأ مسودتهم الأولى لدهشت، غير أنهم يعملون كثيرًا على تطويرها وتعديلها حتى تصل إلى النسخة الأخيرة التي تقرؤها.
تقول الكاتبة إيما هيلي: المسودة الأولى بالأبيض والأسود، التحرير يلون القصة، أي أن محاولاتك المتكررة للتعديل بالحذف والإضافة هي التي تجعل قصتك ملونة.
لوِّنوا حياتكم أيها الأصدقاء.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق