من قتل غزة فعلا؟
محمد هنيد
الفظاعات التي جرت أمام أعيننا خلال مئتي يوم من المجزرة كافية بإدانة الجميع شعوبا وحكومات ومنظمات ومجتمعا دوليا ونخبا.. الجميع دون استثناء شارك في المذبحة من قريب أو من بعيد. لكنّ الحفر عميقا في التاريخ العربي القريب كفيل بمدّنا بجرد ثابت عن المسؤول حقيقي فعلا وشخوصا عن سبب الكارثة الإنسانية في القطاع.
نحن لا نعيش في العالم منفردين بل نتحرك داخل شبكة معقدة من المصالح والصراعات والأطماع وخطط الهيمنة لذا فإن الفواعل الخارجية التي تحدد سياق الأحداث داخل العالم العربي لا تكون رئيسية إلا بحساب منسوب العجز العربي الداخلي. إنّ انهيار الفواعل الداخلية وموت خلايا الصمود والمواجهة داخل المجتمعات العربية هو الذي سمح للمذبحة المفتوحة أن تكون بهذا المستوى من الفظاعة والتدمير.
سايكس بيكو والدولة الوطنية
غزة وفلسطين أرض عربية إسلامية وجزء لا ينفصل عن بلاد العرب ثقافة وتاريخا ولغة وانتماء لكنها في نفس الوقت محتلة بفعل الاحتلال ومحاصرة بفعل الاستبداد. هي واقعة إذن بين كماشتين أولهما الكيان الصهيوني وثانيهما الكيانات العربية أو ما يسمى دول الطوق الحارس للاحتلال كما ظهر ذلك جليا خلال الأشهر الأخيرة.
الأخطر ليست أنظمة سايكس بيكو بل كل الخطر في ثقافة الأنظمة الحاكمة والوعي الرسمي الذي ضخّته داخل المجتمع حتى صار ثقافة فردية تصعب مقاومتها. لم تنسف هذه الثقافة مقولة الانتماء المشترك والتاريخ المشترك والمصير المشترك فحسب بل عملت على ترسيخ ثقافة الانتماء البديل والوطن البديل لتحقيق هدفين : فصل الوطن الوهمي عن رقعة الانتماء الحقيقية من جهة والتشريع للنهب والفساد ومنع النهضة من جهة ثانية.
حقق هذا المسار نجاحا غير منتظر فقد رسّخت الدولة الوطنية عبر مناهج التعليم والإعلام والدعاية الحكومية وبفضل غياب المشاريع المضادة ثقافة الأوطان البديلة. لكنها من جهة ثانية بقيت تحافظ بحياء على علاقات متذبذبة مع المحيط العربي بسبب الوضع الجغرافي أولا وبسبب العلاقات التجارية والاقتصادية ثانيا. لكن هذه العلاقات لم تكن يوما في صالح الشعوب والمجتمعات بقدر ما كانت لخدمة مصلحة النظام والأقليات الحاكمة أولا وأخيرا.
تميز هذا المسار بخصائص عمقت الانتماء البديل خاصة من خلال صراع المقاطعات بين الأنظمة الحاكمة التي فرضت على الشعوب وثقافتها الانسياقَ وراء تلك الضغائن بل والمشاركة فيها كما حدث ويحدث بين الجزائر والمغرب وبين سوريا والعراق وبين مصر وليبيا وبين السعودية والإمارات واليمن ... هذا الانخراط الشعبي والنخبوي الواعي منه وغير الواعي كان لصالح ثقافة الانفصال عن الجسد الأم وهو الذي زرع أول بذور الخذلان الشعبي لغزة اليوم.
المؤسسات والقوى المدنية
في كل الدول السوية تقريبا لا يستبد النظام السياسي بكامل الفضاء الاجتماعي لأن ذلك يخنق الاقتصاد ويقتل الإبداع ويشل حركة الدولة ويهدد مصالحها وسيادتها. فليست المسألة إذن عجزا عن الاستبداد وإنما هو وعي بأن الاستبداد طريق مسدود. لكنّ نظام الوكالة العربية بما هو واحد من أشد الأنظمة قمعا واستبدادا فإن المجال الاجتماعي والمدني تمّت مصادره وتوظيفه لخدمة السلطة القائمة. فالنقابات العمالية ومؤسسة القضاء والبرلمان وقطاع التعليم والثقافة والإعلام والتربية جُرّدت من كل شروط الاستقلالية لتتحوّل ذراعا للسلطة وخادما لها بعد تفخيخها وهيمنة أذرع النظام عليها.
على جبهة أخرى مارست الأنظمة العربية الوراثية والعسكرية على حد سواء مختلف أساليب القمع والتنكيل ومصادرة الحريات على كل نفس يحاول المطالبة أو التعبير عن موقف ناقد أو مخالف للثقافة القائمة وهو ما خلق مجتمعات مشلولة من كل قدرة على التعبير أو المواجهة.
عمّت ثقافة الخوف وتحولت إلى إرث ثقافي تمرره الشعوب من جيل إلى آخر وصار المطلب الفردي والجماعي مقتصرا على الضروريات العيش اليومية من مأكل ومشرب ومسكن. لكنّ مسارات الاستبداد انتهت إلى طور مسدود بعد أن استتب الفساد وعمّ النهب والتفقير المتعمد للشعوب فانفجرت ثورات الربيع ثم جوبهت بقمع غير مسبوق انتهت الانقلابات فيها بحمامات الدماء وسجون تغص بالمعتقلين والمساجين.
كان مستوى القمع المخيف وحجم التقتيل الناجم عن المواجهات المسلحة خاصة في ليبيا وسوريا ومصر متعمدا من أجل إرباك الوعي الثوري الناشئ ومنعه من التمدد. بل إنه يرتقي إلى مستوى إرهاب الدولة الذي يهدف إلى بث الرعب والخوف من كل محاولات التغيير والإصلاح.
عمّقت هذه التراكمات الجديدة من هيمنة الدولة الوطنية مسنودة بالدعم الدولي الخارجي الباحث دائما عن حماية مصالحه ومناطق نفوذه لذا لم يكن أحد قادرا على التحرك من أجل منع المذبحة الكبرى أو حتى التخفيف من حدّتها. ففي شمال أفريقيا وفي الخليج وفي مصر وكل الحواضر العربية تم التضييق على مناصرة فلسطين ومنعت التظاهرات وأعتقل الآلاف إمعانا في القمع وفي تأكيد ثقافة الانتماء البديل.
مخاطر الانهيار الكبير
قد لا نستطيع التنبؤ بموعد السقوط الكبير لكنّ ردّة الفعل على مجزرة غزة تؤشر بقوة على أنها لن تكون الأخيرة في المنطقة أمام تواصل الإجرام الصهيوني في حق شعب فلسطين من جهة وصمت المجتمعات والفواعل الاقليمية من جهة ثانية. فالحواضر العربية جميعها تعيش حالة من الاحتباس الاجتماعي المخيف أمام ارتفاع مؤشرات البطالة والفقر وانهيار المقدرة الشرائية وارتفاع الأسعار وقمع الحريات. إنّ انسداد الأفق وحالة الشلل العميق سيجعل من عملية الانهيار أمرا حتميا إذا وضعنا جانبا حقيقة أنّ الشعوب والأنظمة ستواصل في طريق الصمت والتآكل الذاتي.
كثيرة هي النظريات والكتابات التي تروّج للنصر والانفراج القريب لكنها رغم ما تبعثه من أمل في الجماهير فإنها تبقى منفصلة عن المعطيات الموضوعية على الأرض. إنّ غياب المؤشرات الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية بإمكان حدوث انفراج في الحالة العربية الراهن يقوّي من احتمالات المخاطر الحقيقية التي تهدد المنطقة وشعوبها خاصة بعد الفشل الذريع الذي منيت به ثورات الشعوب الأخيرة.
هذه الخلاصات تستوجب إطلاق كل صفارات الإنذار والتحذير من بقاء الحالة العربية على ما هي عليه من الجمود والتخدير عبر فضح العوامل والأسباب التي أدت إليها من جهة وحافظت على بقائها من جهة أخرى. إن دور النخب السياسية والفكرية والأكاديمية ومختلف مكونات المجتمع المدني يحتم عليها اليوم الاستفاقة من حالة التخدير والوهم عبر مراجعة أخطائها وتصحيح بوصلتها ووضع خلافاتها وأطماعها جانبا من أجل صياغة ميثاق عربي جديد يحاول منع تجدد الشروط والأسباب إلى أدّت إلى الكارثة العظمى التي نعيشها اليوم.
نحن لا نعيش في العالم منفردين بل نتحرك داخل شبكة معقدة من المصالح والصراعات والأطماع وخطط الهيمنة لذا فإن الفواعل الخارجية التي تحدد سياق الأحداث داخل العالم العربي لا تكون رئيسية إلا بحساب منسوب العجز العربي الداخلي. إنّ انهيار الفواعل الداخلية وموت خلايا الصمود والمواجهة داخل المجتمعات العربية هو الذي سمح للمذبحة المفتوحة أن تكون بهذا المستوى من الفظاعة والتدمير.
سايكس بيكو والدولة الوطنية
غزة وفلسطين أرض عربية إسلامية وجزء لا ينفصل عن بلاد العرب ثقافة وتاريخا ولغة وانتماء لكنها في نفس الوقت محتلة بفعل الاحتلال ومحاصرة بفعل الاستبداد. هي واقعة إذن بين كماشتين أولهما الكيان الصهيوني وثانيهما الكيانات العربية أو ما يسمى دول الطوق الحارس للاحتلال كما ظهر ذلك جليا خلال الأشهر الأخيرة.
الأخطر ليست أنظمة سايكس بيكو بل كل الخطر في ثقافة الأنظمة الحاكمة والوعي الرسمي الذي ضخّته داخل المجتمع حتى صار ثقافة فردية تصعب مقاومتها. لم تنسف هذه الثقافة مقولة الانتماء المشترك والتاريخ المشترك والمصير المشترك فحسب بل عملت على ترسيخ ثقافة الانتماء البديل والوطن البديل لتحقيق هدفين : فصل الوطن الوهمي عن رقعة الانتماء الحقيقية من جهة والتشريع للنهب والفساد ومنع النهضة من جهة ثانية.
حقق هذا المسار نجاحا غير منتظر فقد رسّخت الدولة الوطنية عبر مناهج التعليم والإعلام والدعاية الحكومية وبفضل غياب المشاريع المضادة ثقافة الأوطان البديلة. لكنها من جهة ثانية بقيت تحافظ بحياء على علاقات متذبذبة مع المحيط العربي بسبب الوضع الجغرافي أولا وبسبب العلاقات التجارية والاقتصادية ثانيا. لكن هذه العلاقات لم تكن يوما في صالح الشعوب والمجتمعات بقدر ما كانت لخدمة مصلحة النظام والأقليات الحاكمة أولا وأخيرا.
تميز هذا المسار بخصائص عمقت الانتماء البديل خاصة من خلال صراع المقاطعات بين الأنظمة الحاكمة التي فرضت على الشعوب وثقافتها الانسياقَ وراء تلك الضغائن بل والمشاركة فيها كما حدث ويحدث بين الجزائر والمغرب وبين سوريا والعراق وبين مصر وليبيا وبين السعودية والإمارات واليمن ... هذا الانخراط الشعبي والنخبوي الواعي منه وغير الواعي كان لصالح ثقافة الانفصال عن الجسد الأم وهو الذي زرع أول بذور الخذلان الشعبي لغزة اليوم.
المؤسسات والقوى المدنية
في كل الدول السوية تقريبا لا يستبد النظام السياسي بكامل الفضاء الاجتماعي لأن ذلك يخنق الاقتصاد ويقتل الإبداع ويشل حركة الدولة ويهدد مصالحها وسيادتها. فليست المسألة إذن عجزا عن الاستبداد وإنما هو وعي بأن الاستبداد طريق مسدود. لكنّ نظام الوكالة العربية بما هو واحد من أشد الأنظمة قمعا واستبدادا فإن المجال الاجتماعي والمدني تمّت مصادره وتوظيفه لخدمة السلطة القائمة. فالنقابات العمالية ومؤسسة القضاء والبرلمان وقطاع التعليم والثقافة والإعلام والتربية جُرّدت من كل شروط الاستقلالية لتتحوّل ذراعا للسلطة وخادما لها بعد تفخيخها وهيمنة أذرع النظام عليها.
على جبهة أخرى مارست الأنظمة العربية الوراثية والعسكرية على حد سواء مختلف أساليب القمع والتنكيل ومصادرة الحريات على كل نفس يحاول المطالبة أو التعبير عن موقف ناقد أو مخالف للثقافة القائمة وهو ما خلق مجتمعات مشلولة من كل قدرة على التعبير أو المواجهة.
عمّت ثقافة الخوف وتحولت إلى إرث ثقافي تمرره الشعوب من جيل إلى آخر وصار المطلب الفردي والجماعي مقتصرا على الضروريات العيش اليومية من مأكل ومشرب ومسكن. لكنّ مسارات الاستبداد انتهت إلى طور مسدود بعد أن استتب الفساد وعمّ النهب والتفقير المتعمد للشعوب فانفجرت ثورات الربيع ثم جوبهت بقمع غير مسبوق انتهت الانقلابات فيها بحمامات الدماء وسجون تغص بالمعتقلين والمساجين.
كان مستوى القمع المخيف وحجم التقتيل الناجم عن المواجهات المسلحة خاصة في ليبيا وسوريا ومصر متعمدا من أجل إرباك الوعي الثوري الناشئ ومنعه من التمدد. بل إنه يرتقي إلى مستوى إرهاب الدولة الذي يهدف إلى بث الرعب والخوف من كل محاولات التغيير والإصلاح.
عمّقت هذه التراكمات الجديدة من هيمنة الدولة الوطنية مسنودة بالدعم الدولي الخارجي الباحث دائما عن حماية مصالحه ومناطق نفوذه لذا لم يكن أحد قادرا على التحرك من أجل منع المذبحة الكبرى أو حتى التخفيف من حدّتها. ففي شمال أفريقيا وفي الخليج وفي مصر وكل الحواضر العربية تم التضييق على مناصرة فلسطين ومنعت التظاهرات وأعتقل الآلاف إمعانا في القمع وفي تأكيد ثقافة الانتماء البديل.
مخاطر الانهيار الكبير
قد لا نستطيع التنبؤ بموعد السقوط الكبير لكنّ ردّة الفعل على مجزرة غزة تؤشر بقوة على أنها لن تكون الأخيرة في المنطقة أمام تواصل الإجرام الصهيوني في حق شعب فلسطين من جهة وصمت المجتمعات والفواعل الاقليمية من جهة ثانية. فالحواضر العربية جميعها تعيش حالة من الاحتباس الاجتماعي المخيف أمام ارتفاع مؤشرات البطالة والفقر وانهيار المقدرة الشرائية وارتفاع الأسعار وقمع الحريات. إنّ انسداد الأفق وحالة الشلل العميق سيجعل من عملية الانهيار أمرا حتميا إذا وضعنا جانبا حقيقة أنّ الشعوب والأنظمة ستواصل في طريق الصمت والتآكل الذاتي.
كثيرة هي النظريات والكتابات التي تروّج للنصر والانفراج القريب لكنها رغم ما تبعثه من أمل في الجماهير فإنها تبقى منفصلة عن المعطيات الموضوعية على الأرض. إنّ غياب المؤشرات الاجتماعية أو الاقتصادية أو السياسية بإمكان حدوث انفراج في الحالة العربية الراهن يقوّي من احتمالات المخاطر الحقيقية التي تهدد المنطقة وشعوبها خاصة بعد الفشل الذريع الذي منيت به ثورات الشعوب الأخيرة.
هذه الخلاصات تستوجب إطلاق كل صفارات الإنذار والتحذير من بقاء الحالة العربية على ما هي عليه من الجمود والتخدير عبر فضح العوامل والأسباب التي أدت إليها من جهة وحافظت على بقائها من جهة أخرى. إن دور النخب السياسية والفكرية والأكاديمية ومختلف مكونات المجتمع المدني يحتم عليها اليوم الاستفاقة من حالة التخدير والوهم عبر مراجعة أخطائها وتصحيح بوصلتها ووضع خلافاتها وأطماعها جانبا من أجل صياغة ميثاق عربي جديد يحاول منع تجدد الشروط والأسباب إلى أدّت إلى الكارثة العظمى التي نعيشها اليوم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق